يحسن بنا وقد بدأ للوسم المسرحي الجديد أن ننظر قبل كل شئ فيما جنيناه من الموسم الماضي . كذلك يفعل نقاد الغرب ، فهم يسترشدون بالماضي ليعملوا على تلافي ما يمكن تلافيه من أخطاء وبهذا يستقبلون مواسمهم الجديدة ، وهم أكثر ما يكونون تهيؤا للتطور والنماء .
وكذلك ينبغي أن نفعل لا لمجرده التقليد ، بل التماسا للفائدة . غير أنه من الصعب أن تتوصل إلى ذلك بمثل ما يتوصلون به عادة من " إحصائيات " تهديهم المقارنة بين أرقامها إلى ما يريدون الاهتداء إليه ، تبعا لما تسجله مثلا من زيادة أو نقصان ، أو تغير في عدد دور المسار ح وأشكالها وعدد المتفرجين واتجاهاتهم . وعدد التمثيليات وأنواعها . وعدد المؤلفين ومذاهبهم . . الخ . . .فالأمر بينهم وبيننا جد مختلف لسبب واحد ، هو أنهم - على العكس منا - قد فرغوا منذ زمن بعيد من توطيد دعائم الفن المسرحي في بيئتهم ، وتأصيل مراميه ومعانيه في افئدتهم .
ولست أنكر مع هذا أننا نحاول جهد المستطاع تحقيق ذلك . بل لو أننا أخذنا في الاعتبار ضآلة إمكانياتنا وحداثة عهدنا بهذا الفن ، لوجدنا - بلا شك - أننا قطعا في هذه السبيل شوطا لا بأس به . إلا أننا يجب أن ندرك أنه من العسير علينا في بيئة لم تعرف المسرح إطلاقا قبل أن تنقل إلينا بعض أوضاعه في أواخر القرن الماضي ، وبين قوم ليس في افئدتهم موضع أصيل للشغف به ، أن تتخذ من مجرد " إحصاء" مقارن لبعض مظاهر النشاط المسرحي معيارا دقيقا نزن به إنتاجنا في هذا المضمار ، وإنما ينبغي أن تكون معاييرنا والحالة هذه من نوع آخر . بحيث تسجل أول ما تسجل ثلاثة أمور في غاية الأهمية ؛
الأمر الأول : مدى اقتراب إنتاجنا من الأوضاع الفنية الصحيحة.
والأمر الثاني : مدى قدرته على تقريب هذه الأوضاع لأذهاننا .
والأمر الثالث : مدى تأثيره في البيئة تأثيرا إيجابيا يهيئها لتقبل هذه الأوضاع .
وذلك لأنه وإن يكن من المقطوع به أن فن المسرح يقوم على المحاكاة ، وأن المحاكاة - وهي أصل الإحساس الدرامي - غريزة فطرية عامة ، بل إن الإحساس الدرامي ذاته إحساس إنساني عام لا يختلف في جوهره باختلاف الأفراد ولا باختلاف العصور ، إلا أن ازدهار المسرح في عصر دون عصر . وفي شعب دون آخر ، يدلنا على أن حصيلة هذا الإحساس وتلك الغريزة لا تستوي " فنا " إلا إذا تكاملت عوامل ومهيئات وظروف معينة في بيئة مكيفة تكييفا معينا .
وغني عن البيان أن بيئتنا ليست مسرحية ، إذ أن هناك جفاء موروثا لأسباب لا يتسع المقام لتفصيلها بين الفنون التصويرية والتمثيلية بصفة عامة ، وبين البيئة الشرقية كلها ، جفاء يصل إلى حد الكراهية ، وأحيانا إلى حد التحريم .
ولئن كان ذلك غير واضح كل الوضوح بالنسبة للفنون التي تقوم على الرخرفة بالالوان والخطوط ، أو مجرد المشابهة بين الصورة والمثال ، فهو واضح تماما بالنسبة للفن المسرحي الذي يقوم على " التقليد الفني" ويتخذ أدائه الأولى من العنصر البشري .
ومعنى ذلك أننا إذا أردنا تقويم إنتاج الموسم الماضي
لتحتم علينا أن ننظر إليه من حيث مدى قدرته على النهوض بالأمور الثلاثة التي أسلفناها
* ولما كان هذا الموسم لاحقا لعشرات المواسم السابقة عليه ، فقد أصبح لزاما علينا أن نتحري أولا : ما استطاعت تلك المواسم أن تنهض به ليتسنى لنا معرفة المرحلة التي أوصلتنا إليها ؛ وبالتالي معرفة المرحلة التى بدأ منها الموسم الذي نحن بصدده ، ثم المرحلة التي انتهى إليها .
والواقع أن المواسم السابقة كلها يمكن اعتبارها موسما واحدا مستطيلا خلال حقبة واحدة بدأت في أواخر القرن الماضي وانتهت عام ١٩٤٩ ، أي يمكن القول بأن المسرح المصري ظل من أول هذه الحقبة إلى آخرها على قدر واحد دون تقدم أو تطور ملحوظ .
فقد بدأ فى أولها بداية افتعالية ، بمعني أنه لم ينبت نبتا طبيعيا كما حدث عند الإغريق ، ولم يستنبت استنباتا سليما كما حدث في أوربا ، وإنما نقلت بعض أوضاعه وقتئذ نقلا ساذجا متناسبا مع سذاجة أهل ذلك الجيل . . وانتهى في آخرها نهاية مؤسفة اختلف النقاد في تعليلها ، فمنهم من عللها بغلبة السينما عليه ، على اعتبار أنها أكثر منه ملاءمة لروح العصر ، ومنهم من عللها بانصراف الناس إلى أمور معاشهم لقسوة وطأة الحياة المادية ، ونسوا جميعا أن المسرح فن لا يزال يعيش ويزدهر عند الأوربيين ، وهم أكثر منا اشتغالا بالسينما ، وأكثر منا تكاليا على الأمور المعاشية .
والحقيقة أن علة انحطاط المسرح في بداية هذه الحقبة هي علته في نهايتها ، ومبعثها الرئيسى أننا لم نستطع أن نمهد له البيئة التي يعيش فيها ، والعقلية التي تدركه . فكما أن فكرة الجيل القديم عنه لم تخرج عن اعتباره إحدي وسائل التسلية والتلهية والتنفيس ، كذلك ظلت فكرة الجيل الأخير عنه مع اختلاف في التفاصيل دون ال الصميم . والروايات ذاتها خير شاهد على ذلك .
ففي الجبل القديم راجت الهزليات الغنائية أكثر من غيرها ، لدرجة ان الروايات التي لم تكن ذات مضمون هزلي كانت لا تمثل وحدها ، بل لابد من أن تعنيها إحدى هذه الهزليات . كذلك راجت الروابات التي تدور حول البطولة الخارقة أو التضحيات المثالية وما شابه ذلك فإذا رأينا مثلا
أنهم كانوا مولعين برواية ( هملت ) بعد تشويهها ومسخها كعادتهم بما يسمونه التعريب أو التمصير فما ذلك لأنهم فهموا مضمونها الشيكسببيري ، بل لأنهم حسبوا أنها مثل رائع من أمثلة البطولة كما يتصورونها .
وربما كان أصدق تعليل لهذا أن ذاك الجبل كان شديد الشبه بشعوب القرون الوسطى - ولا أقول المظلمة - في أوربا . لذلك أحبوا مثلهم الهزليات لأن حياتهم مليئة بالضيق والكبت ، وأحبوا المثاليات لأن فيها تحقيقا لأحلام وأوهام بعيدة المنال .
ونحن إذا نظرنا إلى الروايات التي راجت عند الجيل الأخير لوجدناها أيضا امتدادا مباشرا لهذه الاتجاهات . فعلى الرغم من وفرة الروايات الغربية الممتازة التي تنهج نهجا واقعيا ، أي تهتم بالحياة وتزري بالغيبيات وتحض على الوعي وتبصر بالحقائق وتعتمد على التحليل والاستقصاء والتغلغل في النفس البشرية ، وتعالج الفرد والمجتمع معالجة حيوية ، نجد أنهم لا يترجمون أو يقتبسون إلا روايات لا تمت للواقع بصلة ، ولا يؤلفون إلا روايات " تاريخية " هي في حقيقتها هروب من نطاق الواقع .
فمغزي رواية (تاج المرأة) مثلا وهي أصلا رواية اسكندر ديماس المعروفة باسم أن العاشق المخلص يتجاوز عن كل الفوارق التي قد توجد بينه وبين عشيقته ويغفر كل أخطائها بالغة مابلغت من الهوان .
ورواية ( في ظلال الحريم ) تحض على الخمسك بأهداب الشرف تمسكا مثاليا بعيد التصور .
ورواية ( الغيرة ) تصور أثر الشيطان في تحطيم السعادة العائلية .
ورواية ( عفريت مراتي ) تقوم على افتراض إمكان استحضار الأرواح وبعثها لعالم الحياة الدنيا .
ورواية ( الموت في إجازة ) تؤكد أن الحب أقوى من كل شئ حتى من الموت ذاته .
والروايات التاريخية على وجه العموم لا غرض لها - كما يقول مؤلفوها أنفسهم - سوى " إظهار صفحات مشرقة من تاريخنا " . . .إلخ . . . إلخ . . . وهكذا نجد أن مجرد تساؤلنا عن أسباب اختيار مترجمات
ومقتبسات ومؤلفات تحض على الفضيلة أو تدور حول قدسية الحب أو تستعين بالأرواح والأشباح والشياطين أو تغرق في أحلام الماضي وأوهامه ، ليدلنا على أن تلك الفترة من آخر تلك الحقبة تشبه الفترة الأولى منها ، وأن الجيل الأخير لا يزال كالجيل القديم من حيث الشغف بالهزليات والبطولة الخارقة والاستغراق في الوهم .
إلى هذا انتهت كل المواسم المسرحية حتى حل الموسم الماضي . فهل يعتبر أيضا امتدادا لها أم مختلفا عنها وإلى أى حد ؟! .
لقد تميز هذا الموسم بميلاد فرقة جديدة في طابعها وتكوينها وأهدافها ووسائلها ، وهي فرقة المسرح المصري الحديث . فقد قامت على أسس معهدية وأعرضت عن ممالأة النزعات السطحية ، ولذا عمدت أول ما عمدت إلى إرجاء المؤلفات المحلية لخطوة تالية وآثرت المترجمات الممتازة من روائع المسرح الأوربي ، فقدمت ثلاث روايات لموليير ورواية لتشيكوف وأخري لبريستلي ، دون أن تمسخها أو تشوهها بالتمصير والتعريب ، وأخرجنها جميعها إخراجا إيحائيا ممتازا وأعلنت اعتزامها تقديم غيرها من هذا القبيل لجان بول سارتر وبيراندلو وشكسبير ومن إليهم .
وإذا تكون بذلك قدمت نماذج مختلفة للأوضاع المسرحية الصحيحة وحاولت - بالإصرار على هذا النهج الجدى - تقريبها لأذهاننا .
ولكن هل معني هذا أنها قد استطاعت أن تغير البيئة والعقلية تغييرا يجعلها أهلا لفهم هذه الأوضاع ؟ ! .
إن واجب الإنصاف يقتضى أن تقرر أن تحقيق ذلك تحقيقا كاملا في موسم واحد ضرب من المستحيل ، وفن المسرح لم يصبح ناضجا في أي أمة من الأمم إلا بعد جهد طويل ، فكيف به في مثل ظروفنا وأوضاعنا ومستوانا الفكري والاجتماعي ! إنما المهم أن تحاول النهوض بادئين بداية صحيحة لنسير في طريق صحيح . ويستلزم ذلك ويستتبعه في نفس الوقت أن ننهض بحياتنا لننهض بمسرحنا وان ننهض بمسرحنا لننهض بحياتنا . فكما أن المسرح مرآة الحياة فكذلك الحياة مادة المسرح . ولكن من السخف طبعا أن يتطرق إلى تفكيرنا مثلا أن نرجيء مسرحنا إلى أن ترتقي حياتنا ، وإنما علينا أن نعمل على ترقيتها بإيقاظ الوعي
والتفكير والاهتمام بالواقع والمحسوس وطرح الغيبيات والخرافات والتوسل بالعلم والتجربة ، وأن نعمل - فيما يتصل بالمسرح - على استخدامه في ذلك كله على نحو ما استخدمه إبسن وشو مثلا في النهضة الأوربية الراهنة.
واعتقادي أن خير ما يعين مسرحنا على ذلك أن يجناز ثلاث مراحل لا مناص من اجتيازها .
الرحلة الأولى : مرحلة الترجمة عن الغرب ترجمة حرفية ، وربما يكون الاعتراض الوحيد على ذلك أن الآداب عامة والآداب المسرحية خاصة مرتبطة بحياة الشعوب التى صدرت عنها ارتباطا يصعب معه تعمق غيرهم في فهمها وتمثلها . وهذا صحيح إلى حد بعيد . غير أن الذي يعوضنا أن في الثقافة الرفيعة - كما يقول ديهاميل - رياضة عقلية هي الهدف الأول لكل تربية صحيحة ، كما أنها عميقة الفهم لكل ما يمس الإنسان ، وان الآدب المسرحي بصفة خاصة لا يعتبر ممتازا إلا إذا توفر فيه العنصر الكوني من جهة وكان إنساني الصبغة من جهة أخرى . فلا ضير علينا إذا من أن نتتلمذ على الغربيين فيما امتازوا فيه في إخلاص ونواضع وصبر وبغير غش أو تمويه .
وإذ تهدينا هذه المرحلة إلى فهم المسرح وأوضاعه وطبيعته ووظيفته فهما تطبيقيا ، ننتقل بعد ذلك إلى مرحلة أخرى هي مرحلة التجربة والممارسة التى تحتمل الخطأ والصواب ، ومعلوم أن هذه مرحلة سابقة على مراحل الخلق والابتداع في تاريخ المسرح كله .
ثم ننتقل تدريجيا بعد ذلك وتبعا لذلك إلى مرحلة الخلق والابتداع ، أى المرحلة التى تتحدد فيها اتجاهاتنا والموضوعات التى نتناولها وطرق أدائها عن وحي وبيئة .
من أجل ذلك كله يمكن تمييز الموسم الماضي وحده عن كل المواسم السابقة ، لأننا حاولنا السير فيه على هدى وبصيرة . صحيح أنه لم يبرح المرحلة الأولى ولكن صحيح أيضا أن هذه المرحلة مرحلة شاقة ومن الخطورة أن نسرع في اجتيازها ، وحسبنا أننا بفضل هذا الموسم قد انتقلنا من الارتجال والعبث إلى منهج واضح المعالم والحدود .
وكل ما نرجوه أن نري في الموسم الجديد تأكيدا لهذا المنهج .
