الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 634الرجوع إلى "الثقافة"

مسرح, براعة استهلال - مريض الوهم - ممثلة الموسم

Share

براعة استهلال

استهلت فرقة المسرح المصري الحديث برنامجها الثاني استهلالا بارعا بمسرح حديقة الأزبكية منذ أسبوعين بتقديم روايتين . إحداهما من فصل واحد ، وهي ( الجلف ) من تأليف الفنان المسرحي الروسي " تشيكوف " وتعريب الأستاذ زكي طليمات ، والأخري من ثلاثة فصول ، وهي ( مريض الوهم ) من تأليف الفنان المسرحي الفرنسي " موليير " وتعريب الأستاذ إدوار ميخائيل ، وكلتاهما من إخراج الفنان المسرحي المصري " طليمات " .

وقبل أن أتحدث عنهما أحب أن ألوم هذه الفرقة التي تفهم وظيفة المسرح حق الفهم لتقديمها هاتين الروايتين في حفلة واحدة ، فإنه على الرغم من أن تمثيلهما معا قد استغرق وقتا مناسبا ، أي زهاء ثلاث ساعات ، إلا أني كنت أوثر أن تمثل كل رواية على حدة . ذلك لأنها ظلت تشيكوف بتمثيل رواية موليير بعد روايته . وبديهي أني لا أقصد بذلك أن أحدهما أفضل من الآخر ، فما تجوز المفاضلة بين إمامين من أئمة المسرح عاش كل منهما في ظروف وبيئة وحقية معينة ، والتزم كل منهما طرائق وأساليب معينة ، وصنع كل منهما تاريخه الخاص بما استوفي واستنفذ من ممكنات عبقريته . وبما استلهم واستخدم من موحيات حياته . . وإنما اقصد أن لكل مسرحية - لاسيما إذا كانت من طراز ممتاز - نشوة ينبغي أن يستمتع بها المتفرج أطول وقت ممكن استمتاعا ذهنيا نفسيا . والنشوة التي أحدثتها رواية ( الجلف ) سرعان ما ضاعت أو ضاع معظمها بتقديم رواية ( مريض الوهم ) بعدها مباشرة .

على أنني أظلم بدوري هذه الفرقة إذا لم انتحل لها شيئا من العذر في هذا ، إذ أن بعض جمهورنا - فيما يبدو - يرد أن يتقاضى بثمن ( التذكرة ) على ضآلته " شغل " ثلاث ساعات !!

مريض الوهم :

سأتحدث عن رواية موليير قبل رواية تشيكوف . لأبي فرح بتحقيق رغبتي التي أبديتها في كلمة سابقة عندما تحدثت عن رواية البخيل ، إذ قلت ما معناه أنه لو كان بيدي الأمر لفرضت على هذه الفرقة مثيل كل روايات موليير .

ولست أزعم أن تمثيل ( مريض الوهم ) لم يكن إلا تلبية لتلك الرغبة ، وإنما لا شك في أنه مما يفرح الناقد الذي يعيش في بيئة مليشة بالنقائض والمأخذ والعيوب وذاهلة - مع هذا - عنها ، وبين قوم يحسبون انهم على جانب كبير من سرعة الخاطر وخفة الظل وبراعة النكتة ، وهم - علم الله - أبرياء من هذا كله ، لاشك في أنه مما يفرح مثل هذا الناقد أن يشهد في بيئته وبين قومه مثل هذه الرواية ليرى كيف تعالج مثل تلك النقائص والمآخذ والعيوب ، وكيف تجتمع مثل تلك المزايا - سرعة الخاطر وخفة الظل وبراعة النكتة . الخ - في عبقري حقيقي . وكيف يفيد بها الإنسانية .

لقد أرانا في ( البخيل ) كيف يسخر من البخل ، ونقذ الناقد من وراء ذلك إلى حقيقة أهدافه . أو أهداف عبقريته من تحليل نفس البشرية واستظهار بواطنها والوقوف على عيوبها ، ومن تصوير دقيق للمجتمع البشري والتنقيب عما فيه من شرور ، وبهذا وذاك يمكن مكافحة

ما ينتاب النفس من أضرار ، وما يحيق بالمجتمع من معوقات تقدمه .

والآن يرينا مثل هذا في ( مريض الوهم ) فيسخر من محترفي الطب ، ومن الموهومين بالمرض ، ولكن هل هذه السخرية هي غرضه الذي ابتغاه ؟ .

هو يصور غفلة الطبيب ( ديافواروس ) وغباءه وضيق أفقه ، إذ يعني بالشكل دون الجوهر ، ويسجل الوسيلة محل الغاية ، حتى ليخيل إليه أن المرضى إنما وجدوا من أجل الأطباء وأن الأطباء إنما وجدوا لأن وجودهم - في ذاته - ضرورة ، وليس من المهم أن يعالجوا مرضاهم ، بل إنهم - كما قال - ليسوا مجبرين على معالجة مرض ما إلا حسب الأصول "!!

وهو يصور غفلة الموهوم بالمرض ( أرجان ) وغباءه وضيق أفقه ، إذ يهدده أحد أدعياء الطب ( بيرجون ) بكل أنواع الأمراض لا بشرح أعراضها وأسبابها ومسبباتها واحتمالاتها ، وإنما بإلقاء حشد من أسماء لا مدلول لها في تكرار آلي ، وفي كل مرة ينهض ( أرجان ) ، ثم يجلس كالآلة التي لا إرادة لها ، ثم لا نسمع منه خلال ذلك سوى صيحة واحدة تتكرر بغير انقطاع .

وإذا فهو يتخذ من السخرية بمحترف الطب والموهوم بالمرض - على الرغم من ضيقه بهما فعلا نتيجة لتجارية الخاصة - وسيلة وسيلة للسخرية مما في الناس والمجتمع من ادعاء واجتراء ونفاق ، ومن ضعف وتخاذل ووهم ، ومما في الحياة من تكرار وآلية وشكلية ، سخرية خليقة بانتشالنا من سوءاتنا ونقائصنا ، او مكافحها على الاقل لو عرفنا كيف نفطن إلي مدلولاتها .

هذه المعاني والعبر وما إليها استطاعت فرقة المسرح الحديث أن تمثلها لنا تمثيلا أعاننا إلي حد كبير على فهمها واستيعابها ، وبقي أن نعمل على الاستفادة منها . ويطول بي الحديث لو أردت الإفاضة في شرح ما بذله هؤلاء الممثلون الناشئون من جهد وما أبدوه من استعدادات موهوبة ومكتسبة ، غير أن بعضهم كان يغلب تفكيره على سجيته .

ويظهر أن هذا لم يكن إلا احتفالا منهم بقيمة ما يقومون بتمثيله .

وأغلب الظن أن هذا لا يمنع من أنوء بإخلاصهم جميعا ، فإذا قلت إن ( عدلى كاسب ) قد بذل أقصى ما يستطيعه من جهد في الأداء بالرغم من صعوبة دوره فليس معني هذا أي أميز القائم بدور البطل على غيره . وربما كان من أعجب الأمور في هذه الفرقة ، أن أفرادها يضفون أهمية على أدوارهم ، بعد أن كان الملحوظ في المثل المصري أنه يستمد أهميته من أهمية الدور الذي يلعبه . ولقد تجلى ذلك في الأدوار التي قام بها ( صلاح سرحان والجزيرى والسبع وسعيد أبو بكر ) بنجاح على الرغم من قصرها . بل إن (كمال يس ) لم يمكث على خشبة للمسرح أكثر من دقائق ؛ ومع هذا أعطي لدوره متطلباته . وكان ( عبد الغني قمر ) موفقا في ( كساب شخصيته طابعا معينا Type غير أنه التزم هذا الطابع التزاما صارما .

ممثلة الموسم :

من حق الزميلات ممثلات الفرقة أن أرد لهن اعتبارهن . فقد سبق أن رميتهن بالضعف - باستثناء واحدة أو اثنتين - وطالبتهن بمزيد من العناية وتقدير المسئولية والآن بعد أن أظهرن حسن بلائهن في ( مريض الوهم ) يسعدني أن أشد علي أيديهن مهنئا ومبشرا بمستقبل فني كبير . لقد أملت حوادث هذه الرواية أن يستتأثرن بالموقف أكثر من مرة ؛ فما كان أروعهن إذ يملأنه بالحياة والحركة . ولقد أملت الحوادث أيضا أن يستغرق دور إحداهن ( سناء جميل ) طول الرواية تقريبا متقلبة بين شتى المشاهد مفردة الشخصية حينا ، ومزدوجتها حينا آخر ؛ فكانت في كل ذلك بارعة الحركة ، معبرة اللفتة ، موفورة الفهم جيدة التصرف .

ولست أدري إلي أي حد أنصفها حين أطلق عليها "ممثلة الموسم " وكل رجائي ألا يدفعها هذا النجاح إلى شئ من الغرور .

اشترك في نشرتنا البريدية