الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 683الرجوع إلى "الثقافة"

مسرح, تمثيلية " سيد قلبه "

Share

نستريح قليلا من عناء الوسم المسرحى المحلى ، وننتقل إلى الموسم المسرحى الأجنبى الرائع الذي بدأت بإحيائه فرقة ( جان مارشا ) بدار الأوبرا الملكية خلال الشهر الماضي .

والواجب أن نتحدث أولا عن بعض ما يثار حول هذا الموسم والمواسم التي تحييها الفرق الأجنبية بصفة عامة ، لأسباب ليست من الخفاء بحيث يصعب معرفتها ، وليست من التفاهة بحيث يمكن التغاضى عنها . فهذه الفرق لا يشهدها سوي القادرين على شراء تذا كرها الباهظة ، وغنى عن البيان أن هؤلاء ليسوا وحدهم أحق من غيرهم بشهودها ... وهذه الفرق تقدم إنتاجها بلغات أجنبية لاتحدثها أغلبيتنا ، ومن ثم لا يستمتع بها إلا نفر قليل . وهذه الفرق تشغل أهم مسارحنا طوال فصل الشتاء . ويترتب على ذلك تعطيل نشاطنا الفنى فى أنسب الأوقات صلاحية للانتاج .

فهل معنى ذلك أن المواسم الأجنبية لا تحقق الغرض المنشود من إحيائها تحقيقا كاملا ؟

الواقع أن الأمر كذلك ، وسيظل كذلك ما لم نهئ أنفسنا لها ، وليس هذا على الدولة بعزير . فلو شاءت لأسهمت فى تخفيض أسعار تذاكرها ، وفى ترجمة وشرح تمثلياتها ، وفى بناء مسارح تكفي لاستيعابها ، ولكن يظهر أن الدولة لا تشاء !!

بدأت فرقة ( جان مارشا ) موسمها بتمثيلية فرنسية هى ( سيد قلبه Le maitre de son coeur ) ألفها بول راينال عام ١٩٠٩ وأخرجها جان مارشا .

ولعله من تحصيل الحاصل أن نقول إن مثل هذه الفرقة لا تستطيع أن تجازف بسمعتها فتقدم تمثيلية غير ذات

جدارة ، والمعروف عن تمثيليتها هذه بصفة خاصة أنها حظيت بنجاح كبير ، منذ عرضت أول مرة عام ١٩٢٠ بمسرح الأوديون بفرنسا . ولكن هذا قد لا يكفينا للحكم بامتيازها ما لم نعرف مقومات هذا الامتياز بجلاء ؛ وإذ ذاك سيتبين لنا أنه يرجع -أكثر ما يرجع - إلى قدرة مؤلفها على إحكام إطارها الفنى لا إلى قيمتها الموضوعية .

(هنري) شاب لا يطلق لشهواته العنان ولا ينساق وراء الغانيات . وليس ذلك صادرا عن كراهيته للعنصر النسائى . ولا راجعا إلى شذوذ فى تكوينه الجسمانى أو مزاجه النفسى ، وكل ما فى الأمر أنه واسع الحيرة دقيق التفكير قوى الشخصية ، وهو لذلك شديد الحذر من المرأة وإغرائها ، بحيث لم تستطع أن تغزو قلبه أو أن تستعبده إحدى بنات حواء . وعلى العكس منه صديقه الحميم ( سيمون ) الذي يعشق ( إلين ) عشقا يصل إلى حد العبادة . ويجتمعون جميعا في الفصل الأول ، فإذا بالعاشقين (سيمون وإلين ) يتبادلان النجوى ، وإذا بهما وقد ضمتهما قبلة واحدة يكاد يخيل للرائى أنهما أسعد حبيبين ، وأن حياتهما ستظل إلى الأبد موصولة الهناءة .

لكن الأمر في حقيقته لم يكن كذلك ، فإن ( إلين ) سرعان ما فتنت بصديقه ( هنرى ) من حيث لم تكن تحتسب واستهوتها جاذبيته استهواء ملك عليها مشاعرها ؛ وما يكاد يبدأ الفصل الثاني حتى تراهما منفردين ، ونرى كيف تحاول إغراءه بسحر حديثها ، وقوة منطقها وروعة جمالها ، وكيف يأبى عليه إخلاصه لصديقه أولا ولتفكيره ثانيا أن يستجيب لها ، وكيف يحاول ردها إلى عاشقها على الرغم منها . وينتهي هذا الفصل الهادئ فى أحداثه ومشاهده ، العنيف في حواره ، وفيما احتمله هذا الحوار من جدل

ومضمون ، ونحن لا يغامرنا شك فى أن ( هنري ) بلباقته وشجاعته قد وضع لهذه الشكلة حدا حاسما ، وان ( إلين ) ستقف عند هذا الحد راضخة لما أصابته وأصابها من خيبة ومرارة ، عائدة إلى ( سيمون ) طائعة أو كارهة .

لكن الأمر في حقيقته لم يكن كذلك . فما يكاد ثلاثتهم يجتمعون مرة ثانية في الفصل الثالث حتى تسفر مناقشاتهم عن شيء في غاية العجب . ذلك أن ( هنري ) لم يكن قد صمد حقا إزاء ( إلين ) بل قد استسلم فى دخيلة نفسه لهواها وإن ظل يقاوم ذلك مقاومة فظيعة. وهى لم تمكن قد عادت حقا إلي صديقه ، بل لقد ظلت تترقب انتهاء مقاومته ، وأخيرا لم تجد بدا من أن تعلن عما يحتاج في قلبهما ؛ وعندئذ لم يستطع ( سيمون ) أن يواجه هذه الخيانة المزدوجة من عشيقته وصديقه ، فأطلق على نفسه رصاصة قاتلة سقط على اثرها صريعا لاحراك به . ولولا ان الموتى لا ينظرون كما ننظر ولا يسمعون كما نسمع لرأي معنا صديقه ( هنري ) وهو يندفع نحوه ملتهبا وينحي عليه بكل جوارحه الثمقلة بالشجون واسمعه معنا ، وهو يقول له فى ألم وتأثر وخشوع (( أنا لم أخنك . ))

وهكذا انتهي الفصل الثالث وانتهت التمثيلية كلها وخرج الناس جسد مختلفين ؛ بعضهم يفيض أسى علي (سيمون ) وبعضهم يرميه بالضعف أو يعجب كيف أثر أن علي يخلى وحده لصاحب الطريق دون أن ينتقم أولا منهما مثلا ؛ وبعضهم يعذرهم جميعا ، إذ أنهم لا حيلة لهم فيما صاروا إليه أو فيما صيرتهم إليه العاطفة الجامحة القاهرة ؛ وبعضهم يتساءل عن سر انهزام ( هنري ) وهو الذي لم يعشق في حياته مرة واحدة . وهكذا .

واختلاف الناس حبال تمثيلية ما دليل قوي علي مجاحها غالبا ، ولكن هذا النجاح لا يرتقي إلي درجة الكمال إلا إذا كان ذلك الاختلاف متسببا من إنارة حقيقية لمشكلة حقيقية كتلك التي نعهدها في المسرحيات المسماة (مسرحيات المشكلات problematical plays ) حيث تكون الشكلة جدية وحيث لا يكون الاختلاف في التفاصيل ، ولكن فى النتائج والبواعث وفي استقبال الناس لمعضلاتها ومحاولة حلها فكريا - أما هذا فالمشكلة عاطفية - إن جاز أن نسميها مشكلة - والاختلاف

على التفاصيل والظاهر ؛ ومن ثم لا تصل من الأصالة أو الروعة إلي حد كبير . وحتي لو أمكن تأصلها ، وتضخيم قيمتها بالنسبة لمفهوم البيئة الفرنسية واهتمامها بأثر العاطفة فى الحياة اهتماما بالغا . لما أدى ذلك إلى أكثر من اعتبارها مشكلة محلية أو محدودة .

غير أننا إذا انتقلنا إلى ناحية الأداء أى إلي التحدث عن مدى نجاج المؤلف في إخضاع موضوعه لمتطلبات الفن التمثيلي لوجدنا أنه بلغ غاية التوفيق . فقد وفق إلى أبعد الحدود في إقامة دعائم البناء المسرحى وتوطيده وفي اصطناع التركيز والوضوح والانسجام حتى بدت ثميليته من هذه النواحي كلاسيكية الصيغة .

فنحن لا نري فيها شططا ملحوظا فى اجتياز الزمان والمكان ، بل إنه من يمكن أن نتصور وقوع أعدائها جميعا في مكان واحد وفي زمان قصير من غير أن يخل ذلك بقساوتها ونتاجها أو يؤثر في بلوغها (الذروة) التي بلغتها وفى (الحل) الذى انتهت به .

ثم إن عدد الممثلين لم يزد في مشهد من المشاهد عن ثلاثة ، بل إن ممثلا واحدا وممثلة واحدة ها اللذان اضطلعا وحدهما بالفصل الثاني من أوله إلى آخره .

ثم إنه قد استطاع منذ بداية الفصل الأول إبراز أبطال تمثيليته على خشبة المسرح وإبراز سماتهم وعلاقة كل منهم بالآخر ، كما استطاع إسدال الستار النهائى عليهم جميعا دون أن يضطر أحدهم إلي الاختفاء ودون أن تحس في ذلك كله بشذوذ أو إقحام ، ودون أن يكون للمصادفة أدنى أثر .

ثم إننا إذا نظرنا إلي الفصول نظرة جزئية لوجدنا أن كلا منها يكون وحدة كاملة قائمة بذاتها تستنقد أحداثها لأقسى مكوناتها ، حتى يصل إلى نهايته فلا يتسع بعد ذلك لغيرها ولا نزيد منها . ولوجدنا في نفس الوقت أن كلا من هذه الفصول مرتبط بالآخر ارتباطا حيا ، بمعنى أنه يمكن الاستدلال مثلا على بداية فصل ما من نهاية الفصل الذى يسبقه ، كما يمكن ترتيب النتائج ترتيبا حتميا ، حتى الفصل الثالث الذي يبدو كأنه انقلاب فجائى يمكن أن تتصور توقعه من فحوى الفصل الثاني وتسلسله ؛ إذ ان المؤلف البارع وإن يكن قد عمد إلي تحديد موقف ( هنري ) و ( إلين )

تحديدا صارما فى نهايته إلا أنه برغم ذلك ألقي عليهما شيئا من الذهول والارتباك حتى إذا ما كاد يسدل الستار عليهما وهما فى لحظة الوداع وجدنا ( هنري ) يهرول نحو الباب هرولة تشكك في وثوقه من قدرت على مواجهة ( إلين ) .

كل هذه أمور بسيطة في ذاتها كما قد يخيل إلينا ، ولكنها بالغة الدلالة على براعة المؤلف وسلامة التأليف .

بقى أن نتحدث عن الصراع ، وأظن أنه من الواضح بعد ما قدمنا من موجز الموضوع ذاته أنه غير دراماتيكي . إذ لا تستطيع أن ندعي أن هناك صراعا دراماتيكيا رهيبا أو غير رهب بن أبطال هذه الثمثيلية وبين قوة جبرية ، إلا إذا وضعنا في اعتبارنا أن الأدب الفرنسى - كما يقول بيسون - يقوم فى أكثره على أساس الملاحظة المحكمة للحياة المألوفة المدققة في الواقع النفوس الفاحصة في مناط الشعور بهما ، وأن المسرح الفرنسى يعتمد - لذلك - على الإيضاح أكثر مما يعتمد على الاستمالة والإقناع ؛ ومن ثم يهدف إلى النظرة النقدية . أى إلي الملاحظة النقدية المشارك الإنساني .

هذا من حيث موضوعية الصراع . أما من حيث قدرة المؤلف على تصويره فنيا بحالته هذه فلا مراء في أنه كان كعادته قديرا علي أداء هذا التصوير ؛ وآية ذلك أنا نلححظ بوضوح أثر احتكاك الشخصيات ببعضها حتى صارت في آخر التمثيلية علي غير ما كانت عليه في أولها . ومعلوم أن هذا من أدق الفوارق بين (( الحكاية )) و (( التمثيلية )) . فأبطال الحكايات يظلون علي حالة واحدة على الرغم مما يصادفهم من أحداث فى حين أن ابطال التمثيلات التى تتوفر فيها صحة الأداء يتطورون بفعل الصراع من حالة معينة إلى حالة معينة أخرى مختلفة عنها من شتى الوجوه .

فإذا أضفنا بعد ذلك إلي توفيق المؤلف بصفة عامة توفيق المخرج الذي تواري خلف المسرح فلم يشغلنا عن الاستمتاع الكامل بحركات تهريجية أو بهلوانية فى تحريك الممثلين أو بزحمة فى الأثاث والمناظر والأضواء . ولم يقس قط أنه يحقق إنتاجا تمثيليا بأدوات مسرحية ، ولم يصطنع الإغراب والتعقيد . وإنا أضفنا إلى هذا وذاك توفيق الممثلين في التعبير البليغ وفى التعاون التام ، سواء في الإلقاء

أو الإصغاء أو الحركة أو الإشارة وفي اهتمامهم بالقيم الجمالية فى مختلف أوضاعهم . وإذا أضفنا أخيرا إلى ذلك كله توفيق صفوة المتفرجين فى المشاهدة وفى مقابلة أحداث التمثيلية بالتفكير حينا والتأمل حينا وبابتسامات حزينة تارة ، راضية تارة أخرى ، دون أن يعبروا عن ذلك كله بأكثر من الاهتزاز الصامت والإيماء الموجز ودون أن تتحرك الأيدى للتصفيق ، خلال التمثيل مطلقا . إذا تتجلى لنا أمران :

الأمر الأول أن النصوص والألفاظ والعبارات ليست كل شئ فى المسرح ، وإنما هو - كما يقول whitfield - مجموعة أشياء . الموضوع والإخراج والتمثيل ، والأداء والإلقاء والملابس ، والمناظر والبناء والجمهور . وهذه الأشياء لا سبيل إلي نجاح المسرحيات بغير اجتماعها وتكاملها وتصاهرها معا .

والأمر الثاني أن المواسم الأجنبية ضرورة لا غنى عنها إذا أردنا أن نفهم الفن المسرحي فهما تطبيقيا ، بشرط أن تتوفر لنا أسباب هذا الفهم ، وإلا فستظل - بالنسبة لجمهورنا - أشبه ما تكون بمعارض الأزياء !!.

اشترك في نشرتنا البريدية