الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 643الرجوع إلى "الثقافة"

مسرح - سينما, ( مكبث ) بين المسرح والسينما

Share

لم يكن عجيبا أن تختلف آراء جمهورنا اختلافا شديدا حول ( فيلم مكبث) .. فلا يزال الغربيون أنفسهم مختلفين حول هذا الفيلم ونظائره من الأفلام منذ أن بدأوا يحاولون عرض روائع للسرحيات عرضا سينمائيا .

لكن العجيب أنهم يختلفون حول جدوي هذه المحاولات وأسهاد بواعثها ونتائجها ، وما شابه ذلك ، اختلافا يزيدهم تنويرا ويقربهم من الحقيقة ، بينما لانزال نحن نختلف حول (سخافة) هذا الفيلم أو ذاك و (سماجة) هذا المشهد أو ذاك الممثل . وما إلى ذلك من اختلافات لا تغنى عن الفن شيئا .

فما السبب ؟!.

أقول الحق ورزقى على الله . أن السبب هو الجهل !! فمعظم الذين استحسنوا هذا الفيلم إنما استحسنوه لأنهم يخفون أن يقال إنهم - مثلا - لم يفهموا شكسبير . ومعظم الذين استقبحوه لا يستندون في ذلك إلى سند واحد من الأسانيد الفنية . وهؤلاء وهؤلاء لا يعلمون كثيرا

أو قليلا عن شكسبير ولا عن (التراجيديا) ولا عن الفوارق الدقيقة بين المسرح والسينما . . الخ ...الخ ...

فكيف يمكن رغم هذا كله أن يقال إننا شاهدنا ( مكبث) وكيف يمكن هذا كله أن نزعم أننا تذوقناها أو أن نبيح لأنفسنا الحكم عليها في وضعها المسرحي أو السينمائي على السواء ؟

والحق أنا معذورون . فأغلب الظن أن جريرة ذلك لا تقع على أحد بقدر ما تقع على من يتصدون لتقدمنا . ولست أبري من ندرك أن النقد شئ خلاف السبق الصحفى وتعقب الحوادث وتسقط الأنباء . لقد كان خليفا بنقادنا الأفاضل أن يحاولوا شرح مضمون هذه التراجيديا ومغزاها وأثرها وسر روعتها ومدلولاتها الخفية . . وإلا فماذا ينتظر أن يفهم عامة الناس من مجرد مشاهدتها أوقراءتها ، وماذا يمكن أن يتبينوا من مجرد معرفة قصتها ؟!.

( مكبث ) و ( بانكو) قائمان في جيش ( دنكان) ملك اسكتلنده ، يعودان منتصرين بعد أن عزما أربعة من الثوار

التمردين . وصول عودتهما تقابلهما ثلاث ( فوريات) أو ساحرات ، وتحيي ( مكبث) بوصفه أمير جلاميس وأمير كودور وملك اسكتلنده مستقبلا ، في حين أنه لم يكن يملك وقتئذ سوي اللقب الأول . كذلك تتنبىء ( بانكو ) بأن أبناءه سيتبوأون العرش . ثم يمضان ، وسرعان ما يعلم ( مكبث ) أن الملك قد منحه - بمناسبة انتصاره - لقب أمير كودور ، إذ ذاك يخبر امرأته سراً بأمر الساحرات ونبوءتها وما تحقق منها ، وأمله في أن تتحقق بقيتها . فتوسوس له فيستدرج الملك إلى وليمة في داره ويقتله ويصبح هو ملكا .

لكنه يريد أيضا أن يحتفظ بالعرش لأبنائه من بعده ويخشى تحقق نبوءة الساحرات لزميله ( بانكو) فيدبر لقتله وقتل ولده ( فليانس) ويدعوهما إلى وليمة أيضا ، وبواسطة بعض اتباعه يقتل ( بانكو ) غير أن ( فليانس ) ينجو ويهرب بأعجوبة .

ومنذ ذلك الحبن تزداد مخاوفه التي انتابته منذ جريمته الأولى بشكل فظيع ، ويري خلال الوليمة شبح ( بانكو) فيذعر ويعيش في رعب وفزع . . وكذلك تعيش امرأته فترة ما ، وأخيرا تلقي حتفها بنفسها . أما هو فيهرع إلي " الساحرات " مستنبئا فتحذره من ( مكدوف) وتطمئنه في نفس الوقت بأنه لن يقتله إنسان ولدته امرأة ، ولن يصبه شر إلا إذا تحركت غاية ( برنام ) نحو قامته . وواضح أن الأمرين بعيدا التحقيق . هذا يدفعه إلي التشبث بالحياة على الرغم من احساسه باليأس منها .

ويحدث أن جيشا انتقاميا بقيادة ( ملكولم) و ( مكدوف) يزحف نحوه ، وخلال الزحف ينتزع الجنود بعض أغصان وشجيرات من ( غابة برنام) ليستخفوا وراءها ، فيحس بدنو نهايته لولا أنه يطمئن نفسه بأنه في مأمن إلا من ذلك الذي لم تلده امرأة ، ويتصدى - مدفوعا بهذا الاطمئنان - لذلك الجيش إلى أن يلقاه ( مكدوف ) ، ويتبارزان فيخر ( مكبث ) صريعا لا لأن النبوءة قد كذبت ، بل لأن ( مكدوف ) هذا لم يكن قد ولد كمعظم الناس ، وإنما انتزع من بطن أمه انتزاعا .

هذه هي القصة ؛ فماذا يفهم عامة الناس منها أكثر من

معانيها اللفظية ، ومدلولاتها السطحية ، وهي غير ذات قيمة فنية أو فلسفية ؟!...

إني أريد أن انتهز هذه الفرصة وأحاول أن اثير بين نقادنا ما يثيره نقاد الغرب في هذه المناسبات من مسائل فنية ، لعل في إثارتها ما يعود علينا بالفائدة .

وأبدأ بمسألة هامة وهي : إلى أي مدى يمكن أن تنجح تجربة إخراج المسرحيات إخراجا سينمائيا ؟ .

إن الذين يقولون بنجاحها من نقاد الغرب إنما يستندون إلي اعتبار أن السينما أبرع من المسرح أداة وأسرع أثرا وأضخم جمهورا ، وبذلك يسهل نشر الثقافة الفنية بين الناس عامة عن طريق إخراج الروائع المسرحية العالمية إخراجا سينمائيا بنقلها من حيز المسرح المحدود .

والذين يناهضونهم في ذلك يعتبرون هذه التجربة " تقليعة " سببها جذب الملكات الفنية بسبب اضطراب المقاييس والقيم المعنوية بصفة عامة كنتيجة من نتائج الحرب الأخيرة ، وما أشاعته من فزع وقلق .

فإذا كان المصطلح عليه فنيا أن المسرح فن ، والسينما فن آخر ، وأن لكل منهما طبيعته وأدواته ووسائله الخاصة به دون سواء ؛ فكيف إذا تصلح ( المسرحية ) - من الوجهة النظرية - للإخراج السينمائي إلا إذا تصورنا أنه من الميسور مثلا تحويل صورة رسمتها ريشة " رفائيل" من فن التصوير إلي فن النحت بحيث تصبح على هيئة تمثال ؟ .

أظن أنه من المتعذر نقل عمل فنى بموضوعه وأسلوبه إلى عمل فنى آخر ، وحتي الفنون التي يحوز فيها الترجمة كالشعر تفقد كثيرا من قيمتها إذا ترجمت مهما يحرص المترجم على إبراز المعنى والروح والطابع حرصا دقيقا ؛ بل أكثر من هذا وذاك أن الآثار الفنية - كما يرى صاحب كتاب ) الموسيقى في الليل ) - لا يستطيع شرحها شرحا كاملا إلا نفس هذه الآثار الفنية وحدها .

فإذا صح ذلك فماذا تجنيه الإنسانية إذا من وراء تجربة إخراج المسرحيات سينمائيا ؟! .

اشترك في نشرتنا البريدية