كنت أوثر ألا تستأنف (الفرقة المصرية ) نشاطها بدار الأوبرا الملكية عقب موسم (فرقة جان مارشا) مباشرة ، فربما يغرينا هذا بوضعها معها وضعاً مقارناً لا نرضاه لها .
ولئن كان سوء حظها قد اضطرها إلى ذلك بالنسبة لضيق الوقت وضآلة عدد المسارح فكان ينبغي أن تضع في تقديرها أن ذلك الموسم الأجنبي قد حفل بأروع ما انتجه للمسرح الفرنسي الحديث من تمثيليات تزهو بمختلف القيم ؛ ومن ثم كان يجدر بها أن تفكر كثيرا قبل أن تتخير هذه الرواية التي كتب قصنها فيكتور هوجو في القرن الماضي للقراءة لا للتمثيل ، ومع هذا فلم يبق لها الآن سوي قيمتها التاريخية ولكن يظهر أنها لا زالت متأثرة بالرأي الشائع بيننا عن كاتبها وعصره ، وهو الرأي الذي تواتر إلينا من الجيل الماضى وأجمله المرحوم حافظ ابراهيم بك في مقدمة ترجمته لها حيث يقول ( هذا كتاب البؤساء وهو " خير " ما أخرج للناس في هذا العهد . . فلقد قص علينا صاحبه " أحسن " القصص .. ولد هوجو والقرن الغابر صبي في مهده فاصطحبا طفلين ثم افترقا وضرب الدهر بينهما بضرباته فالتقيا شيخين فانيين ، فإذا الأول نادرة البطون وإذا الثاني سيد القرون . . )!!
من أجل ذلك أحب قبل كل شئ أن انتهز هذه الفرصة السانحة لمعاودة النظر في هذا الرأي وأشباهه واتخاذ ذلك مثلا لتقويم سائر ما نكاد نؤمن به من آراء يشوبها الإجمال والإطلاق والتعميم . فليس من شك في أن هوجو كان شاعراً غنائياً عظيما وكان غزير الإنتاج سواء في الشعر أو في القصة أو الدراما ، ولكن لا يجوز لنا تقدير امتيازه إلا في حدود العصر والجمهور الذي كتب له . إذ ذاك سنري أنه في الشعر أكثر اميازاً منه في القصة والدراما لأسباب يسهل
الاهتداء إليها إذا أدركنا مدى اختلاف المؤثرات والتغيرات الاجتماعية في الحقبة الرومانسية التي عاش فيها ، عنها في الحقبة الكلاسيكية التي سبقتها . فلقد كان الأدب الكلاسيكي طرازا ذا سمات معينة ، لأنه كان صورة لتركيب اجتماعي معين ، كان أدبا يهتم بالشكل والصياغة لأن المجتمع الذي كتب له لم يكن إلا مجتمعا أرستقراطيا يهتم بالمظهر والنظام . فلما دمرت الثورة الفرنسية ذلك المجتمع دمرت كذلك قوالبه الأدبية الفرد الذي كان قبل الثورة كائنا اجتماعيا أصبح بعدها كائنا فرديا ، فانطلق يعبر عن احساساته الشخصية ومطامعه وآلامه وأشواقه ، كما انطلق خلف نطاق مجتمعه يتأمل في مظاهر الطبيعة وما وراء الطبيعة وفي الموت والخلود والأبدية ؛ وعلى هذا النحو تهيأت البيئة كلها للفنون الغنائية والشعر الغنائى lyric poetry على وجه الخصوص أكثر مما تهيأت للفنون التمثيلية والدراما على وجه الخصوص على هذا الأساس تستقيم النظرة إلى هوجو وفنه التمثيلي بغير اعتساف ولا إهدار لمواهبه الذاتية . فهو حقا قد كتب اكثر من اثنتي عشرة تمثيلية ، وكان يعتبر الدراما من أهم فنون الأدب التي لا يجاريها فن آخر في التعبير عن الإنسان ؛ وكتب في " مقدمة كرمويل " ما يعتبر إنجيلا المسرح الرومانسي وما اعتبر من أجله رائد هذا المسرح ومحطم السرح الكلاسيكي ؛ ولكن تمثيلياته لم تصل إلى المستوي الذي وصلت إليه أشعاره مثلا ؛ وحتى في إنجيله المسرحي لم يستحدث جديدا لم يسبق إليه وإن كان له فضل التسجيل وحرارة الدفاع وبراعة التطبيق ؛ إذ أن فكرة تحطيم الكلاسيكية ظهرت قبله عند مدام دى ستايل وقبلهما عند ديدرو ونقاد القرن الثامن عشر ذاته الذين ضاقوا بركودها وجمودها وضعفها . " فقد كان من الواضح - كما
يقول الباحث المعاصر بول هازار - أن رجلا مثل فولتير عند ما يكتب مسرحيات يخرج من عبقريته الخاصة دون أن يستشعر هو أو معاصروه ذلك ، إذ يريد أن يقلد كورنيل وراسين أو بوالو . وإنما لنشعر بشئ من الحزن حين نرى منذ ذلك العهد هذه الكتلة المهوشة من القصص الحالية من الروح ، والمسرحيات الحالية من الحقيقة ، والأشعار الحالية من الشعر . قوة بلا روح . هذا هو ثمن الجمائل التي قدمها المذهب الكلاسيكي للعالم ، لأن الكلاسيكيين الفرنسيين وصلوا إلى درجة سامية من الكمال الذي فتن عقول خلفائهم ، حتى إنهم ظنوا أنه لا وسيلة إلا أن يقلدوهم ، ولأن الروح الهندسي قد قضى على حب الأشكال المرنة والألوان الحية ، ولأن العقل السيطر لم يعد يحتمل أزهار البلاغة ؛ وبهذا ذوت القوة الغنائية ووقعت العبقرية الشاعرية في سبات عميق . . "
وصحيح أن الرومانسيين وعلى رأسهم هوجو استطاعوا أن يبتعثوا هذه القوة وأن يوقظوا هذه الشاعرية ،كما استطاعوا أن يجهزوا على السرح الكلاسيكي وان يهدموا (الديكور) اللاتيني الذي كان يستند إليه . ويستبدلوا به ( الديكور) الذي كان شائعا في العصور الوسطى وعصر النهضة ، وأن يؤلفوا في هذا النطاق تمثيليات مكيفة تكييفا ميلودراميكياً ، ولكنهم مع هذا بل من أجل هذا لم يكتبوا تمثيلية واحدة يتحقق فيها ما يتطلبه الفن التمثيلي من أوضاع وطيدة ، وما كان من التصور - كما يقول ببسون - أن ينتجوا ادبا تمثيليا ، وهم لا يؤمنون إلا بأنفسهم ولا يدورون إلا حولها ، حتى ليقال إن هوجو لم يصور في تمثيلياته سوي شخصية واحدة فقط هي فيكتور هوجو نفسه .
ويبدو هذا بوضوح في قصته هذه وإن لم يكتبها أصلا للمسرح ، إذ أنها كسائر قصصه وتمثيلياته - ليست إلا صورة لتأثر ذاتي وانفعال ذاتي وتعبير ذاتي عن احساسات ذاتية .
فهو يصور لنا في الفصل الأول منها عابر سبيل ألقت به المقادير عند تخوم مدينة (ديني ) بعد ما أجهده البؤس والجوع والظمأ ، فأخذ يطرق أبواب منازلها وفنادقها وسجونها أيضا علة يجد فيها بقايا طعام يتبلغ به أو مكانا منزويا يستريح فيه لحظات ، لكن أحدا لم يشفق عليه وظل طريدا حتى أبصر وجار كلب فانبطح فيه على وجهه ، غير
أن الكلب ما لبث أن عاد وخشي أن ينشب فيه أظفاره فتسلل مسرعاً .
ثم انحدر إلى المدينة وما كاد يرتمى على حجر عند باب بيعة صغيرة حتى خرجت منها امرأة صالحة وأرشدته إلى بيت (عابد) كريم لا يرد الطارقين أيا كانوا ، فأسرع إليه وروي له قصته ، وموجزها أن المقارير ألقت عليه وهو صغير فقير عبء الإنفاق على أخته وأطفالها السبعة ، وذات يوم أوشكوا أن يموتوا من الجوع فحاول مرغما أن يسرق خبزاً لهم فقضي عليه بالسجن ومكث فيه تسعة عشر عاما وأطلق سراحه منذ أربعة أيام ، ولكن (إجازة الإطلاق) الصفراء التي يحملها لا تزال - حيثما حل أو ارتحل - تتم على أنه " جان فالجان " السارق المجرم الفتاك ، وما كان أشد دهشته حينما رأي العابد يرحب به رغم هذا ويعد له طعاما وسريرا ويبالغ في إكرامه ؛ ذلك لأن هذا البيت - كما يقول له ي - إنما هو بيت للمسيح ولا يسأل من يدخله عن اسمه ولكن يسأل عن ألمه ، وأوى إلى مضجعه فأيقظته الهواجس ومرت في خياله الأحداث التي انتابته ، وتذكر الظلم الذي لحق به . ووسوس له الشيطان أخيرا أن يسرق ما في البيت من أوان فضية فسرقها وفر هارباً ، لكن حظه العاثر أوقعه في قبضة الشرطة فعادوا به ، غير أن العابد أنبأهم بأنه هو الذي أذن له بها .
وخرج من المدينة فأقبل عليه غلام يدعي (فرجي) كان يرتع وبلعب وسأله أن يعطيه قطعة نقوده التي وقعت منه وتدحرجت واستقرت تحت قدمه ، فنهره فارتاع وأطلق لساقيه العنان ، فلما اختفي وجد هو تحت قدمه فعلا قطعة نقود وحاول اللحاق بالغلام ليردها له ، ولكن ذهبت محاولاته سدى ، فأخذ ينتحب انتحابا مريرا وظل يعاود الانتحاب كلما تذكر ما اقترفه في بيت العابد ، وما جناه على الغلام .
وينتهي هذا الفصل ، ويبدأ فصل آخر يصور لنا فيه قصة (فانتين) وهي فتاة بائسة ساقتها الأقدار من قرية ( مونتراي سيرمير )إلي باريس فهوت إلى الرذيلة وأنجبت طفلتها (كوزيت ) . وترامي إليها أن قريتها أصبحت راغدة العيش فاعتزمت العودة إليها لتحيا حياة شريفة ، وركنت في الطريق إلي فندق بقرية (مونتفرمي ) لتستريح قليلا ، وهناك تركت طفلتها لقاء أجر كفالتها حتى يتسنى لها السعي
بمفردها للبحث عن عمل شريف . وأقبلت على قريتها . والتحقت بمصنع رجل غريب يدعي (مادلين ) هبط إلى القرية ذات مساء فقيراً منكوراً ، وما لبث أن صار مديرا لهذا المصنع ، وعمدة للقرية كلها ، وأثري ثراء عريضا . وابتنى المدارس والمشتشفيات والملاجئ ، واشتهر بعطفه على البؤساء ؛ فارتاحت إليه كل القلوب ، إلا قلب (جافير رئيس الشرطة الذي غاظه ما يحظى به من حب وإجلال ... وقلب (فوشلفان) وهو سائق عربة كان غنيا ، ثم أملق فحقد عليه ، لأنه بعكسه كان ففيرا ثم اغتنى .. وقلب (فانتين) لأنها فصلت من مصنعه بعد سنوات قضتها مكفولة الرزق ، فعادت مرة اخري طريدة شريدة .
واتفق ذات يوم أن ان انكفأت عربة (فوشلفان) فوقه وعجز الناس عن رفعها ؛ فانبرى لها (مادلين ) ورفعها وحده بكاهلة وأنفذ السائق وهو عدو له ، ونفحه من المال ما يكفيه ذل السؤال طوال عمره .
واتفق ذات يوم أيضا أن رأي رجال الشرطة يجرجرون امرأة إلى السجن ، فاستوقفهم ، ولكنها بصقت في وجهه لأنه هو سبب محنتها ، فقد فصلها من عملها فعادت إلي الرذيلة وباعت شعرها وأسنامها لتعول نفسها وتنفق على ابتها في فندقها حتى سارت فريسة للمرض والفاقة ... هكذا سردت (فانتين) قصنها على (مادلين) فأمر بإطلاق سراحها على الرغم من معارضة (جافير ) وأكد لها أنه لم يفصلها ولا يعلم من أمرها شيئا ، وانه لهذا سيكفلها وسيرد إليها طفلتها وسيوفي ديونها ، فاهتزت مشاعرها اهتزازا عنيفا أصيبت من جرائه بالحمى حتى أشرفت على الموت . وفي اليوم الذي اعتزم فيه إحضار ابنتها لها طرق بابه (جافير) وتوسل إليه أن يقبل استقالته ، إذ أنه لم يعد يصلح للعمل معه بعد أن وشي به وشاية ظهر له الآن خطؤها . واستطرد يقول : " ظننت أنك ( جان فالجان ) المجرم القديم الذي يبحث عنه رجال الشرطة منذ أن سرق أواني العابد واغتصب الغلام (فرجي) . وازداد ظني حينما رفعت عربية (فوشلفان ) بقوة لم أكن أعهدها إلا في ذلك المجرم . وازداد حقدي عليك عندما عفوت عن البغي التي بصقت في وجهك . . فكتبت إلي كبير الشرطة بباريس أنبئه بأمرك فكان جوابه أن (جان فالجان) وقع اليوم مصادفة في قبضتهم وهو الآن في السجن ينتظر المحاكمة " .
والواقع أن (مادلين) لم يكن إلا (جان فالجان) بعينه . فكيف يسمح له ضميره أن يؤخذ رجل آخر بجرائمه وجرائره ؟ وكيف يوفق بين السفر إلى باريس ليواجه المحكمة بالحقيقة وبين السفر إلي (مونتفرمي ) ليعبد الطفلة ( كوزيت ) إلي أمها التي تحتضر ؟
لم يطل به التفكير وإنما أسرع إلي باريس ، وما إن عاد إلى (فانتين) ليطمئن عنها حتى فاجأه (جافير) وأعوانه للقبض عليه فاستمهلهم لحظات ماتت المريضة خلالها من هول الصدمة وأفلح هو في الهرب بعد ذلك وانطلق يعدو إلى (مونتفرمي) فلقى (كوزيت) مصادفة في الطريق وظل يطاردهما (جافير) ولكن دون جدوى .
هذا هو موجز قصة (البؤساء) التي يتجلى فيها تماما ما امتاز به فيكتور هوجو من حيوبة وتدفق وما امتاز به أسلوبه الساحر من صور غنية ، وتتجلي فيها أيضا ذاتيته الهائلة التى حدث به إلى اعتبار نفسه أحد قادة الإنسانية بل أحد أنبيائها ؛ ويتجلى فيها كذلك ما عرف عنه من عطف على المساكين والمحزونين والضعفاء ؛ ولكنها من الناحية الدرامانيكية لا تكاد تصلح إلا كمثل تطبيقي لمفهوم (هوجو) عن الفن القصصي ومدى قدرته على استخدام المواضعات التي ابتدعها عصره في إبراز أفكاره .
فيها يتحقق ما عرف عن الفن الرومانسي من إغراق في التأمل المهم . . ومن ولوع بتصوير الاختبارات الفردية والآلام والعواطف الحزينة عن طريق المفارقات ، أى مقابلة الحميل بالقبيح والفضيلة بالرذيلة ، وهكذا . . ومن شغف بازدحام الأحداث واصطخاب النزوات وتقلب الشخصيات بين المصادقة وللقدور بلا هوادة . . وكل هذا في مجموعه يدل على افتقار الرومانسيين إلى الملاحظة الدقيقة والقادرة على خلق الشخصيات المكتملة ، وتهيئة الصراع وإحكام الحبكة وتكوين البناء المسرحي الصحيح . . أو بعبارة أخرى يدل على افتقارهم إلى الإحساس المسرحي .
وإذا فلست أدري ما الذي حدا بالفرقة المصرية إلى مثيل هذه القصة ؟ إننا في حاجة قصوي إلى الاستفادة من المسرح الغربي ، ولكن هذا يحتم علينا أن نتخير منه ما يصلح للإفادة . وان يفيدنا في شئ أن نتخير قصة رومانسية ونحن نعمل على مكافحة الرومانسية الداهلة التي لا نزال غارقين فيها .
