رد على تعقيب
فى العدد الماضى من الرسالة، تفضل الصديق الكريم الأستاذ على أحمد باكثير بالتعقيب على نقدن لمسرحيه (مسمار جحا) المنشور فى العدد رقم٩٥٧
ونحن إذ نشكره على اهتمامه بالتعقيب على النقد، سنتناول التعقيب بالرد، لتوضيح رأينا فى القضايا الفنية التى أثارها
... استهل المؤلف تعقيبه بالرد على المأخذ الأول، الخاص بإذاعة مؤامرة جحا وحماد قبل عرض قضية المسمار؛ فاتفق معنا على أن إخفاء المؤامرة يقوى عنصر التشويق.. وخالفنا فى أن كشف المؤامرة قد أضاع الأثر القوي لهذا المشهد، لأنه يرى أن كيفية تنفيذ المؤامرة وما فيها من جدة وطرافة لا يؤثر معها انكشاف المؤامرة فى خطوطها الأولى...
.. وجوابنا على ذلك أن هذا المنطق يستقيم لو أن المؤامرة أحبطت ولم تنفذ، إذن لما كان هناك قضاء على عنصر التشويق. أما والمؤامرة قد نفذت من خطوطها الرئيسية، فإن الكشف عنها قد قضى على التشويق فى أهم أحداث المسرحية، وأضاع الأثر النفسى لهذا الحادث، ولا تغنى الجدة والطرافة شيئاً فى هذه الحالة ليست بذات أهمية بالنسبة لهذا الحادث الرئيسى.. بل إن فى الكشف عن هذه المؤامرة قضاء على الرمزية فى مشهد قضية المسمار، فأصبح مباشراً وفقد بذلك مضمونه الرمزى.
فبدلا من أن يترك المشاهد يتبين نفسه، ويلمس قضيته من خلال المشهد الرمزى، جاءه المؤلف بمرآة صريحة وقال له (أنظر فى هذه المرآة لترى وجهك) . وكنا نرجو أن يبدو
مشهد المؤامرة على المسرح، فى نفس الصورة المطبوعة من المسرحية، إذ لا فرق فى البناء المسرحى بين المسرحية المعروضة والمسرحية المطبوعة، فعنصر التشويق يجب أن يتوفر فى كل منهما
وقد رد المؤلف على المأخذ الثانى، الخاص بدخول امرأة جحا فى مشهد القضية فقال.. إن دخولها كان أساسيا.. لأنها طرف ثالث فى النزاع، وأنها لا يعنيها هدف زوجها القومى.. وأن ذلك يجلو جانبا من شخصيتي جحا وامرأته وهو عدم استحيائها من كشف دخائل بيتها.. وإن دخول أم الغصن قد تم فى خلاله تحول غانم من التشدد إلى التسامح عندما رشاه الحاكم.. وسنحاول الرد على هذه الأسباب الأربعة.
أما السببان الأولان فلا ضرورة لهما لأن المؤلف أغنى المشاهد عن التساؤل عن موقف أم الغصن بعد خروجها من الدار.. وأبرزها في الصورة التي أرادها لها فى نهاية المنظر الثالث عندما أرادت طرد حماد من الدار فأجابها بأنه لن يخرج من داره.. وكذلك فى أول المنظر السادس عندما جعلها تلعن حمادا لأنه كان السبب فى إخراجها من الدار.. أما من حيث جلاء ذلك الجانب من شخصيتى جحا وأم الغصن فكان فى مقدور المؤلف إبراز ذلك فى غير مشهد القضية.. ومن حيث تحول غانم بعد ما رشاه الحاكم فكان من السهل إبراز ذلك في صورة أوضح ردون الحاجة إلى دخول أم الغصن.. وذلك بأن ينتحى الحاكم بغانم فى أحد جوانب المسرح ويسر إليه ببضع كلمات.. وإذن، فلم تكن هناك ضرورة لدخول أم الغصن فى مشهد القضية. وليس من شك فى أن دخولها لم يحبس الأثر النفسى مؤقتا عن صعوده - كما يقول المؤلف - بل أنه قضى عليه لتحول انتباه المشاهد ونفوره من هذه المرأة الثقيلة الظل
.. أما قول المؤلف بأن العرض على المسرحية قد جاء مصدقا
لوجهة نظره؛ فجوابنا عليه، أننا إنما استقينا وجهة نظرنا هذه من العرض على المسرح، فسحلنا الأثر الذى انطبع فى النفس؛ وأعتقد أن نظرة الناقد أكثر تجردا من نظرة المؤلف، لأنه إنما ينظر إلى عمله الفنى كقطعة منه، عزيزة عليه!
... وفيما يخص بالمأخذ الثالث الخاص بمشهد السجن، وما أخذناه عليه من طول، وتحول فى الحوار من الرمزية إلى المباشرة الخ.. فقد قال المؤلف أنه لم يعد للرمزية مكان فيه بعد ما صار الصراع بين جحا والحاكم صريحا، وإنه احتفظ بقدر كبير من رمزية التعبير.. ونحب أولا أن نلفت النظر إلى أننا نقصد الرمزية بين واقع المسرحية، والواقع الحاضر.. والذى نلاحظه أن المؤلف جعل الواقع المسرحى مطابقا للواقع الذى نعيش فيه، وبهذا مزج المشاهد من واقع المسرحية إلى واقعه الحى ولم يعد مندمجا فى الحياة التى يراها على المسرح.. وكان على المؤلف أن يخالف الواقع فى بعض الخطوط ليخدع المشاهد، ويجتذبه إلى المسرح.. أما القول بأن النغمة الخطابية كانت فى مواضع خاصة لا تصلح فيها غير هذه النغمة لتساوق الحالة النفسية، فذلك ما تخالف فيه المؤلف، لأن الصدق فى تصوير الحالة النفسية يؤدى إلى الطبيعة، أما النغمة الخطابية فتميل إلى المبالغة، وفى المبالغة افتعال وخروج على الطبيعة
وقد ورد المؤلف على المأخذ الرابع، الخاص بانتهاء المسرحية دراماتيكيا فى نهاية المنظر الخامس، بأن هناك من يخالفنى فى هذا الرأى الخ.. وإيضاحاً لوجهة نظرنا نقول أنه وإن كان خط الصراع بين جحا وامرأته هو الخط الرئيسى فى بناء هيكل المسرحية، إلا أن هذا الخط يعتبر خادماً لخط الصراع الرئيسى، ولما كانت وظيفة إبراز هذا الخط، فيجب أن ينتهي حيث ينتهى الصراع الرئيسى
. . ومن حيث المأخذ الخامس الخاص باقتصار المؤلف فى تصويره لشخصية أم الغصن على إبراز اللون الواحد.. تعقيب المؤلف عل ذلك بأنها شخصية محورية, والشخصية المحورية تكون دائما مكتملة النضج من بدء الرواية.. نقرر أننا لا نعارض هذا الرأى، ولكنا نعارض ذلك التكرار فى عرض
اللون الواحد فى كل منظر ظهرت فيه أم الغصن، وكان على المؤلف أن يوزع تصويره لجوانب هذه الشخصية على المناظر التى ظهرت فيها، لا أن يعرض الجوانب المختلفة لهذه الشخصية فى كل منظر ظهرت فيه، وذلك دون مساس بموقفها من الصراع الذى تمثل أحد طرفيه
... أما شخصية الغصن، فقد عقب المؤلف على نقدنا لها بأنها تنطويع لى سيكلوجية دقيقة، وأن هذا البله شديد التعقيد، فهو واسع الخيال جامحه، وهو يجمع بين المتناقضات من ذكاء وبلاهة فى وقت واحد، والاقتصار على اللون الواحد وهو الاهتمام بديكه أمر ضرورى لبيان مراحل التطور النفسى لهذه الشخصية، ثم راح المؤلف يسرد علينا قصة التطورات النفسية..
... وجوابنا على ذلك من ناحيتين.. الناحية السكلوجية.. والناحية الفنية.. أما عن الأولى.. فنلاحظ التناقص فى تصوير شخصية الغصن لجمعها بين البله والذكاء وسعة الخيال.. فالبله كما هو معروف علميا درجة منخفضة من درجات الضعف العقلى.. ولا يمكن بحال أن يتصف صاحبه فى نفس الوقت بالذكاء.. لأن الذكاء درجة مرتفعة من القوة العقلية.. وسعة الخيال تستلزم قدرة عقلية تسمو على درجة البله. والشخصية التى تجمع بين البله والذكاء وسعة الخيال غير موجودة أصلا في الحياة من الوجهة العلمية، وبهذا يكون التصوير السيكلوجى لهذه الشخصية متناقضا
... ومن الناحية الفنية، فإن تصوير هذه الشخصية كان قاصرا على إبراز البله فى دائرة واحدة هى قصة حب عرجون لديكه، وهذه الدائرة تعاد وتكرر فى لون واحد
وأخيراً.. فنحن نرى أن هذه الشخصية زائدة، ولا ارتباط بينها وبين أحداث المسرحية، ولو حذفناها لما تأثرت الأحداث بذلك
وبعد.. لعلى أكون قد أخلصت فى نقدى لمسرحية المؤلف الصديق، ليصل بفنه إلى الكمال الذى أرجوه له

