تستفحل مشاكل التموين في أوقات الأزمات والحروب، حتى ليستعصي حلها على كثير من الدول ما لم تصطنع لها من وسائل الدقة وحسن التنظيم وكفاية التوزيع ما يستغرق أكبر مجهود ويقتضي أوفر عناية.
وقد يخيل إلى بعضنا أن توزيع المؤن والأقوات على مقتضى البطاقات وشبهها، من الأنظمة التي توصل إليها الغربيون قبلنا فنقلناها عنهم. ولكن الواقع يثبت غير ذلك؛ إذ قد عرفت حكومة الشرق الإسلامية هذه الوسائل منذ عهد بعيد؛ وقد التُجئ إليها حين أشتد القحط وشحت الأقوات في بلاد الهند، وقت زيارة الرحالة ابن بطوطة لهذه الأصقاع في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، على عهد السلطان أبي المجاهد محمد شاه صاحب دلهي وابن السلطان غياث الدين تُغْلُق شاه. . .
وقد ذكر ابن بطوطة أن ثمن المنَّ من القمح بلغ حينئذ ستة دنانير - والمن وزن يبلغ رطلين - فأمر السلطان بإعطاء جميع أهل دلهي نفقة ستة أشهر من المخازن؛ قال: (فكانت
القضاء والكتاب والأمراء يطوفون بالأزقة والحارات، ويكتبون الناس ويعطون كل أحد نفقة ستة أشهر، بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب في اليوم لكل واحد. . .) وقد كان الرطل المغربي يعادل رطلاً وربعاً من الوزن المصري
ثم لما اشتدت الضائقة وبلغت المجاعة من الناس، وزع السلطان مساكين بلده على الأمراء والقضاة ليتولوا إطعامهم. قال ابن بطوطة - وكان يتولى قضاء دلهي: (فكان عندي منهم خمسمائة نفس. فعمَّرت لهم سقائف في داري وأسكنتهم بها، وكنت أعطيهم نفقة خمسة أيام فخمسة أيام)
ولعل أشبه شيء بالمطاعم الشعبية عندنا اليوم، وأقومه بمثل خدمتها، ما أشار إليه الرحالة ابن بطوطة بقوله: (وكنت في تلك المدة أطعم الناس الطعام الذي أصنعه بمقبرة السلطان قطب الدين على ما يُذكر، فكان الناس ينتعشون بذلك والله تعالى ينفع بالقصد فيه. . .)
وقد كان السلطان أوقف ثلاثين قرية على الإطعام فوق هذه المقبرة، وجعل تدبيرها بيد ابن بطوطة على أن يكون له العُشر من فائدتها كما هو المتبع عندهم
(جرجا)
