إنه خلق ليحكم الناس ، ولو كان في أوروبا لهذا لسكان له شأن غير هذا الشأن ، وترك في تاريخها أثرا بعيدا
حاول أعوان الزبير والفرعون منه ، أن يثنوه عن السفر إلي مصر ، لأنهم كانوا يحسون في أعماق قلوبهم أنه سفر لا أوية بعده ، وان الزبير لن يري السودان بعد ذلك . وقد نفضوا إليه ما يجول بخواطرهم من شكوك وظنون ، ولكنه اثارهم اذنا صماء ، واخذ يتاهب لسفر شاق ورحلة بعيدة ، ومضي من مدينة " دارة " ببيعم صوب مصر عن طريق الابيض والخرطوم وبربر فابي حمد .
مر الزبير " بالجبلي " حيث عشيرته الأقربون ، فكان بهم برا رحيما ، أفاض عليهم من نواله وبذله ما لم يدع فقرا لفقير ، ولا حاجة لذي حاجة ، حتى ساوى فقيرهم بغنيهم ؛ وسار بعد ذلك تحوطه حاشية كبيرة ، من جند وغلمان وجواد ،
ومن حولهم عبر اوقر ظهورها بالزاد والنفائس والهدايا ، وفي نفسه دنيا من الامال زاخرة ، تملا جوانحه بالأماني الحسان ، وبالثقة في المستقبل ، وحسب أنه ملاق في مصر من التقدير وحسن المكافأة على ما أبلي وأحسن في نصرتها وإعلاء شأنها ، ورفع علمها في رحاب السودان السحيقة ، حتى خفقت بثود مصر على طول وادي النيل من منبعه إلي مصبه ، وحول ضفافه الحانية عليه ، لأول مرة في تاريخ السكون على ما تعلم ، حسب انه ملاق ما يلاقيه امثاله من إعزاز وإكرام وحسن جزاء ، وانه سيؤوب حاكما على المديريات الاستوائية ودارفور المترامية الأطراف ، إن لم يعد
حاكما عاما على السودان بأسره ، وانه إذا تحققت أمانيه فسيبسط العدل ، ويدقق في النظام والإدارة ، ويقلل من الضرائب والخراج ، وينشر العلم والمعرفة ، ويهتم بالمرافق العامة ، حتى يجعل من السودان بلدا قويا فياضا بالنعيم واليسر والرفاهية . .
أقبل الزبير على مصر في ١٠ يونيو سنة ١٨٧٥ ، فتشرف بمقابلة الخديوي إسمعيل باشا بقصر الجزيرة ، فرحب به وأهل ، وبالغ في كرامة ثم بالغ ، وافرد له أحد قصوره بالعباسية ، فنزله ضيفا هو وعائلته واتباعه ، وقرر له ولهم كل ما يحتاجون إليه من مؤونة وكسوة ومعاش .
تقدم الزبير إلي فهرمان الخديوي بكتاب طلي العبارة رقيق الحاشية ، يرجو فيه ان تساق إلى السدة الكبرى السنية ، هديته المتواضعة التي أحضرها لعزيز مصر من السودان ، وما هي غير ألف عسكري سودانى مدججين بالعدة والسلاح ، ومائة مثقال من الذهب ، ومائة اطهم من جياد الخيول العربية ، وخمسة وستين ومائة قنطار من سن الفيل المتناهية في العظم والجودة ، واربعة اسود ضاربة ، وأربعة نمور كاسرة ، وستة عشرة ببغاء من الناطقات المستندرات ، ذوات الألوان النادرة والمناقير الجميلة . فسر الخديوي من هذه الهدية المتواضعة سرورا بالغا ، وانهي إلي الزبير امتنانه وحبوره من هديته في كتاب أرسله إليه فهرمانه خيري بإشا .
بقي الزبير في قصر العباسية حتى ٣ أغسطس سنة ١٨٧٥ ، فدعاه الخديوي إليه بقصر الجزيرة أيضا . واصدر له امره بالتأهب للسفر قريبا إلي السودان ، وكان ذلك بحضور فهرمانة خيري باشا ، فتكلم الزبير شاكرا وداعيا ، وشرع يستعد للأوية والزماع . مكث يترقب الأذن وما سيؤول إليه امره بعد رجوعه ، حتى دعاه الخديوي إليه في ١٩ أكتوبر سنة ١٨٧٦ ، وقال له :
" يا زبير باشا ؟ ! قد استصوبت بقاءك في القاهرة في ظل ساحتي حتى أنظر في أمرك . قال الزبير : " فأدركت في أعماق سريرتي ذلك الغرض الذي دعيت من أجله ، وتم ما كنت اتوقعه ، وما جال في نفوس اتباعي بدارة ؛ ولكن لم يكن لي سوى الطاعة والامتثال ، فقلت له : أمرك يا مولاي وانصرفت والآسي يهز نفسى ، ويقطع نياط قلبي " .
اندلعت بعد ذلك نيران الحرب بين الروس والدولة العلية في سنة ١٨٧٧ ، فانتدب الزبير ضمن ضباط الحملة التي ارسلتها مصر لمعاونة الدولة العلية . وعهد إليه بقيادة فرقة خاصة به . قالوا إن الزبير قد أبلي في هذه الحرب بلاء جميلا ، وإن فرقته لم ترتد على أعقابها قط ، بل كانت دوما في طليعة المهاجمين الشجعان ، والزبير على رأس جنوده يخوض بهم الحتوف ، ويجالد الأبطال ، ويصول أي مصال . وقالوا إنه ركن إلي إحدي حيلة العجيبة في الحرب ، فزحزح بها الروس عن أماكنهم ، وأمني بهم الهزيمة والخسران . فقد زعموه أنه أصبحهم والفجر لم ينبثق ، بخيل أوقر صهواتها بقش أضرم فيه النيران ، وساقها عليهم وهم في إغفاءة الفجر ، والنار متأججة فوق ظهور الخيل ، وفرسانه من خلفها تحتها إلي الإمام ركضا ، فدخلت في صفوف العدو مجنونة تصهل ، ومستطارة ترفس ، ومتوثبة تضرب ، ومن ورائها الزبير وجنده يطعنون ويقتلون ، فوقع الهرج في صفوف الروس ، ولاذوا بالفرار ، وتلاحقت جيوش المصريين والأتراك بالزبير وفرقته ، وطاردوهم حتى أجلوهم عن مواقعهم ، وكفل لهم في تلك الموقعة الضروس الفوز والانتصار ، وانعم على الزبير في هذه الحرب برتبة فريق ، وبعض الأوسمة الرفيعة .
رجع الزبير بعد تلك الحرب ، ويا ويحه ، إلى مصر ، يؤمل ان تشمله نفحات الجناب العالي وعطفه ، فيأذن له بالرجوع إلى السودان . ولكنه في سنة ١٨٧٩ وافاه خبر
مقتل ابنه سليمان الزبير علي يد جسي باشا الطلياني ، بأمر تحردون ، منهما بالتمرد والعصيان . وكان سليمان من أحب أبنائه العديدين إليه ، وأقربهم إلي نفسه . تركه أضحولن الشباب ، مكتمل الرجولة ، تلاوجه مخابل الزكانة والسداد . فحزن عليه حزنا بالغا وبكاء بالدمع السخين ، ومضت ذكراء وما انتهي إليه امره ، تمثل له بكل سبيل ، وايقن بعدها " الأسير الذي لا يفاك سراحه ، وأنه سيقي حبيس القاهرة .
ثم مشت الأيام ، وقامت الثورة المهدية ، فانتدبته الحكومة المصرية للسفر إلي سواكن سنة ١٨٨٣ لمقاتلة عثمان دقنه ، ولفتح الطريق بين سواكن وبربر ، ثم بين بربر والخرطوم ، فحشد الايا من الجنود السودانيين ، وعسكر بهم في السويس ، ولكنه علم انه سيكون تحت إمرة بيكر باشا فامتنع عن الذهاب . أبيت الزبير في نفسه امرا ، وخاف ان تعوقه رئاسة بيكر باشا Baker عن تنفيذه ؟ ؟ ام أن كبرياءه كقائد ومحارب ، ابث عليه ان يعمل مرؤوسا لا رئيسا ؟ ؟ اما مآل بيكر وجنده ، فقد ابادتهم جيوش عثمان دقنه ، تلك الإبادة التي انطقت شاعر الامبراطورية البريطانية رايدر كيلنج بقصيدته الرائعة : " ذوو السمم Fuzzy Wuzzy
اشتدت الثورة ، وانتدب غردون(١) لاخلاء السودان ، فلما أعيته الحيل ، وتخاطفه الثوار من كل جانب ، رمي ببصره ، وعجم الرجال ، فسلم يجد سوى الزبير رجلا نهدا يصلح لمعاونته وإنقاذ الموقف ، وراح يكتب إلي سير بارنج ( لورد كرومر ) يستحثه على إرسال الزبير ، وفي مذكرات غردون صرخات متجاوبات بطلب الزبير من الحكومتين الانجليزية والعصرية . فلما وافقتا على إرساله ، تحت ضغط
الظروف ، واشتداد المحنة ، وطول الغياث ، ثارت ثائرة جمعية إبطال تجارة الرقيق كل مثار . وشنتها غارة كلامية في الصحف ، وفي أروقة البرلمان الانجليزي تنادي بالثبور والويلات . وحسبت ان الزبير إذا عاد إلي السودان عادت تجارة الرقيق في أعقابه إلى النمو والازدهار ، وضاعت سدى محاولات الانسانيين ، كما كانوا يدعون ، في وقف تلك التجارة الممقوئة . اخذ غزدون يكاتب سير بارنج ويبرق لوزارة الخارجية البريطانية ، متهكما ساخرا : " إذا كنتم تخافون الزبير لأنه ملك تجار الرقيق ، فان المهدى اعظم منه في هذه التجارة شأنا " وانتصر الانسانيون . . . وبقي الزبير في مصر .
أتراجعت وزارة الخارجية عن الموافقة على إرسال الزبير تحت حملة الإنسانيين ، أم أن وزارة غلادستون كانت كما قال صاحب كتاب " لماذا فني (١) غردون " تريد أن يتسع الخرق للرائق ، وان يسقط السودان ، وتلتهم الثورة فيمن تلتهم غردون بذاته ، ويتجدد المسعى بأخذ ثارائه ، فتأخذ نصيبها في فتح السودان ؟ ؟ أكانوا يقدرون أن الزبير إذا قفل أدراجه استطاع ، وهو حول قريع تجاريب ، وربيب حروب ، ان يخمد الثورة في مهدها ، وذلك يضيع ما كانت تحوكه وزارة الخارجية البريطانية ؟ إن هذه النقطة قد أجلاها ذلك الكاتب بكل مقنع ودليل . ومهما يكن من شيء فقد اجتمعت العوامل جميعها على ان يبقى الزبير في مصر ، وان يسدر التاريخ لطيته ، وان يسقط السودان في قبضة الهدى ، وأن يقتل غردون في حصار الخرطوم ، وان ترجع انجلترا مرة أخري تلبية لصرخات الشعب المطالب بدم غردون ، إلي الإشتراك في فتح السودان ، وفي إدارته مقاسمة سنة ١٨٩٩ ، وفي السيطرة عليه مشاركة في سنة ١٩٣٦
تشط الكاشحون مرة اخري ، حين أبي الزبير أن يسافر إلي السودان تحت إمرة بيكر باشا ، وحين دارت مسألة إخلاء السودان على طرف كل لسان ، وهمسوا لولاة الامور ، بأن بين الزبير وبين المهدى مكاتبات واتفاقا على أن يهرب الزبير إليه ، ليشاركه في الثورة والقيادة ، حتى يتم على ايديهما استقلال السودان . ونسي السامعون ان الزبير والمهدي ، عقليتان مختلفتان ، ونفسيتان متباينتان ، ولا يمكن اجتماعهما على امر وغاية . وقد افلح الواشون ، فهجم البوليس على دار الزبير في جنح الظلام وفتشوها ، واخذوا اوراقه وحققوا معه ، ولكنهم لم يجدوا شيئا ضده . ونشط الواشون اخري ، فإذا الزبير المنفي المعتقل في جبل طارق . بقاها ثلاثين شهرا ، ثم عاد ادراجه حين انجلت الغشاوة وتبين لذوي الشأن أنه البريء المتهم .
اتهم الزبير إذا : ( ١ ) بأنه ملك تجار الرقيق ( ٢ ) وانه اراد الاستقلال بالسودان . ( ٣ ) وانه حرض ابنه على الثورة . وقد كانت هذه الانهارات سببا في عدم الإذن له بالرجوع إلي بلاده .
( ١ ) أما أنه ملك تجار الرقيق ، وأكبر من اشتغل بهذه التجارة الزرية في السودان ، فأمر بعيد عن الصحة والصواب . كان الزبير تاجرا عمل في بحر الغزال وتخوم دارفور يقايض التافه مما كان يروق في أعين السكان من خرز وغيره ، بحاصلات تلك البلاد كالريش وسن الفيل ثم لما اتسعت تجارته اخذ يشتري المجرمين من أهل تلك البلاد الذين كانت شرائع بلادهم تعرضهم في السوق رقيقا ، جزاء ما يقترفونه من جرم وأثام - كما بينا في المقالات السالفة - فلما كثر عدوهم لديه كون منهم جيشه الجرار ، ليحمي بهم تجارته ، ويذود العدوان عن نفسه ، ويدافع عن اعوانه واتباعه من التجار العرب . وكان لا بد من التلاحم والاصطدام بينه وبين المغيرين من
أهل البلاد ، فنشأت بينهم الحروب ، وانتصر عليهم . ودانت له بذلك بلادهم . فالزبير إذا لم يشغر غلمانه ليبيعهم في السوق كالسلع والمتاع ، ثم يسوقهم إلي البلاد الآخري عبيدا وأرقاء ، ولكنه اشتراهم ليكونوا جندا ، حتى يكون بهم جيشا لا يتمرد عليه . وكان يعاملهم كما أمر الإسلام ان يعامل به امثالهم ، بل قد تبني الكثيرين ممن اظهروا له حسن الولاء ومحمود الخدمة . فأحبوه وساروا في ركابه لا يعصون له أمرا ، ولا يردون له كلمة . ولكن الكتاب الأوربيين امثال شفاينفورت ، وسير صموئيل بيكر وغيرهم ، قد خلطوا بين الغايتين ، غاية الزبير في شرائهم ثم في تجنيدهم . وتوجوه في دنيا الوهم والالتباس ملكا وضعوا فوق مفرقه التاج ، وسودوه على تجار الرقيق ممن كانوا يرودون أصقاع الجنوب في السودان ، يغزون ويأسرون ، ثم يسترقبون ويتبيعون .
( ٢ ) وأما أنه أراد الاستقلال بالسودان ، فتلك قرية اثارها حسد اسمعيل باشا ايوب ، حين تسابقا في فتح دارفور ، فجلي عليه الزبير ، إحكام وسيلة ، وسرعة عمل ، وعبقرى خطط ، ولم يكن له عدة يتغلب بها علي الاعداء ، ووعورة الطريق غير سيفه ورمحه وقوة جنانه ، فدسها عليه اسمعيل أيوب لدي الخديوي ، وحسبوه مسرا بالعصيان امره .
ثم إن الباشوات الاتراك خافوا أن الزبير إذا رجع إلي السودان مرضيا عنه ، فقد يرجع حاكما علي المديريات التي افتتحها ، وقد يشق العصا ، ويستقل بالبلاد ، ويكيد الحكومة كثيرا من النصب والمشقات ، وقد يدفعه زهو البطولة ودلها ، إلى الزحف على بقية ارجاء السودان ، فينتصر عليها ويسلخها من دائرة الامبراطورية المصرية . فإن فعل ، أو إن نصبه الخديوي حاكما عاما علي السودان ، افلت ذلك المنصب الرفيع من ايديهم ، وقد كان فيما مضى وقفا على الخاصة والمقربين من أولئك الباشوات . فكان
موضع مساومة ورشوة وتنافس بين طلاب المال والثراء ، وفي ضياعه منهم ، ضياع لمعين لا ينضب من الثراء المحقق والغني المؤكد . فتألب كل حاسد وطامع من أولئك على نسج الإباطيل وحوكها حول الزبير ، واتهمزخ زورا بأنه يسر في أغوار نفسه غاية الاستقلال بالسودان .
كان الزبير في سداد رأيه ، وبعد نظره ، يدرك ما قد يجره حسد الحاسدين ، وغيرة الأنداد . فأجلي موقفه من هذه المسألة ، حين كتب إلي إسمعيل باشا ايوب ، وهو يحارب الرزيقات : " ان يرسل من يتولى حكومة البلاد التي افتتحها في بحر الغزال وتخوم دارفور بالنيابة عن خديوي مصر ، فإذا ما وصل الحاكم واستلم البلاد ، عدت إلي تجارتي ، تاركا كل ما انفقت من الأموال في الفتح هدية لحكومتي السنية ، وانتظرت مكافأتها الأدبية حسبما تقتضيه عدالتها وكرمها " ، فالزبير لم يخفر العهد ، ولم يغدر بالوفاء ، ولم يخف في سريرته غير الإخلاص والولاء .
( ٣ ) أما أنه حرض ابنه سليمان علي الثورة ، ففرية منشؤها ، أن الزبير حين اجبر على الإقامة بمصر ، ذهب المتخرصون إلي غردون ، وكان وقتذاك حاكما على المديريات الاستوائية ودارفور ، يقولون له إن الزبير قد اوصي ابنه على التمرد ، فصدقها غردون ، وطلب من سليمان أن يسرح جنده ففعل . وكافأه على الإذعان لأوامره بالرتبة الثانية مع لقب بك ، وولاه على مديرية بحر الغزال . وكان الزبير قد خلف إدريس بن ابتر احد اتباعه حين ذهب لافتاح دارفور ، ليدير بالنيابة عنه شؤون تجارته . فلما وافاه سليمان بك بعد تلك الأحداث وحاسبه ، ألفاه قد خان ما بيديه ، وبدد الأموال . وخاف أبتر أن يحاكمه سليمان ففر إلي غردون ، واوغر صدره ضده ، وكان غردون رجلا مسماعا ، يرهف أذنيه لكل هامس بالنميمة ، فعزل سليمان ، وولي إدريس ابتر مكانه . وامتنع سليمان عن تسليم الحكم له ، وتقاتلا فانتصر سليمان عليه ، وقتل
أخاه ورجاله ، واستعصم بتخوم دارفور ، وكتب إلي غردون يخبره جلية الأمر ، ويعلمه انه غير عاص ، ولكنه لا يستطيع أن يستسلم إلي من كان تابعا له ولآبيه ، وانه مستعد ان يمتثل لأوامره ، إذا ولي رجلا غير أبتر . ولكن غردون أعاره أذنا صماء .
سمع الزبير في مصر بكل ذلك فكتب إلي ابنه يقول من كتاب طويل ، كله نصح وإرشاد " واعلم ياولدي ، أن من قد تربي مثلكم في كنف الحكومة أبا عن جد ، وتشرف برتبها وانعاماتها ، لا يجدر به إلا الطاعة والامتثال لأوامرها . لا سيما وانتم تعلمون أن (الحكومة (١) عالية ويدها طائلة) وقد طالما قاومتها الجيوش ، ورجعت عنها خائبة ، فما الذي زين لكم هذه الوساوس الشيطانية ، فان كانت من رأيكم فاطرحوها جانبا ، لأنها تلقيكم في المهالك ولا تفيدكم شيئا ، وإن كانت من تغرير المفسدين بقولهم إن الحكومة قد حجزت على والدكم ، في القاهرة ، أو أنها قتلته ، فاعلموا أنه قول كذب لا أثر للصحة فيه ؛ لأننا والحمد لله لم نزل على قيد الحياة مشمولين بإنعام الحضرة الخديوية الفخيمة ، ومقيمين في ضيافتها على أتم الراحة والأمان ، نحن وجميع أتباعنا ، ولا نجدد من لدن الجناب العالي الخديوي وجميع رجاله الفخام إلا التجلة والأكرام فارجعوا إلي رشدكم ، وعودوا إلي الطاعة ، واذكروا أمر الله تعالى في كتابه العزيز بقوله : " أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر منكم " ، فإذا عصيتم فاذا يكون جوابكم يوم العرض ، وكيف يكون الخلاص ؟ ؟ .
" ثم اعلم باولدي أن تماديكم في العصيان يضر مركزي الأدبى هنا ، كما يضر بكم هناك ، ويجلب عليكم سخط الله والحكومة ، فحافظوا على كرامتكم وكرامتي ، واستوعبوا الآن وصيتي . وقد أرسلت لكم كتابي هذا مع ادم محمد ، ليثبت لكم صحة قولي ، ويعيد عليكم وصيتي
شفاها ، فعند وصوله إليكم أذهبوا معه لمقابلة غردون باشا الحكمدار ، في الخرطوم أو في دارفور ، وأنا أعلم انه حالما يراكم يصفح عنكم ، ويحسن معاملتكم ، لأن شرف بريطانيا العظمي ، وكرم سجيته ، يوجبان عليه ذلك ، لاسيما وإنى اوصيته بكم عند سفره من مصر فوعدني خيرا . تولاكم الله وعداكم إلي سواء السبيل " .
استمع سليمان لكتاب أبيه حين تناهي إليه ، فامتثل واستمع غردون إلى الوشاية فصدق بها . واقبل سليمان نحو غردون طائعا ، واسل غردون جسي نحو سليمان نازيا ، فلما دعاج جسي لبي نداءه وأقدم عليه . فأسره في ١٤ يوليو سنة ١٨٧٩ ، ورماه هو وثمانية من اقاربه بعد يوم من تسليمهم بالرصاص .
فمن هذا الخطاب ، ومن الملابسات التي احاطت ظروف سليمان جميعها ، يتضح ان الزبير لم يحرض ابنه على الثورة ولم يتمرد ابنه لأن اباه بقي اسير القاهرة ، ولكن لذلك الخلاف الذي وقع بينه وبين ادريس ابتر ، واستماع غردون إلي السعاية والوشايات قد دفعه إلي العصيان الاول . واثرت همسات الواشين والحساد في غردون وجسي مرة اخري فتخلصا من سليمان وأتباعه .
بكي الزبير سليمان ، وما فقده من مال وتجارة ومجد وقد التقي الزبير بغردون حين استدعي لإخلاء السودان في سنة ١٨٨٤ بمنزل سير افلن بارنج بحضور سير افلن وود سردار الجيش المصري وتوبار باشا . فساءله عن سبب مصادره امواله، وقتل ابنه سليمان ، فوجده مقتنعا بأنه راسل ابنه وحرضه على العصيان . وطالبه الزبير بالدليل فلم يقو عليه غردون . وساجله الحجة والقول فانتصر عليه ، وهكذا ظل دم سليمان ، وصودرت أموال أبيه . فالزبير قد كان بريئا من كل ما الصق به . لم يكن ملك تجار الرقيق ، ولم يرد الاستقلال بالسودان ، ولم يحرض ابنه على الثورة ، ولكنه ظم وأهدر حقه على همسات الواشين والطامعين .
سكن الزبير حلوان ، ولا تزال داره قائمة إلي اليوم ، آلت إلي احد الوزراء السابقين ، وقد كانت مورد العافين وذوي الحاجة . وكان الزبير سمحا متلافا ، لا يبني على شيء بل بدد أمواله على البر والبذل وإنمائة الملهوف ، وكل طارق مرمل . واجرت الحكومة المصرية عليه راتبا شهريا قدره ٢٨٩ جنها ، ولكنه لم يك يكفيه مؤونة العيش ، ولاسد عوز المحتاجين . وقد زعموا ان الخديوي السابق ، كان يوافيه كما سمع بخصاصته وحاجته إلي المال بما ييسر عسره . وفي دار الزبير كان يلتقي العلماء ، والأدباء ، ورجال الجيش ، والحكم ، وكان محبا للعلم طبع بعض الكتب الدينية على نفقته الخاصة في ليدن ، وكان يجزل العطاء على الشعراء الذين مدحوه في مصر والسودان .
أخذ الزبير يطالب الحكومة المصرية أثناء إقامته بمصر بما انفقه في فتوحانه ، وما فقده هو وابنه من مال ومتاع ، فلم تعره الحكومة بالا . ثم أوكل عنه سر ماريوت المحامي الانجليزى لدي حكومته ، لعلها بعد أن هيمنت على الإدارة في مصر والسودان ايام الاحتلال ، ان ترد عليه ما بذل وأنفق ، ولكنها أيضا لم تقم لمطالبه وزنا . طالت بالزبير أيام النوي والفراق عن السودان ومشت الشيخوخة إليه ، والح في طلب الرحيل ، فاجيب إلي سؤله . ونزح إلي السودان شيخا متهدما لا يخشى بأسه ، ولا تخاف عواقبه . وابتني له دارا في أم درمان وأخري بالجبلي . وعاش قريرا بين ذويه وأقاربه ، وأبنائه الكثر ، يعطي ويمنح ، ويساعد ويتفضل ، محمودا من الجميع ، مرموقا بعين الإجلال والتقدير من الجميع وأحاط الناس سيرته بالعديد من الأقاصيص والخرافات ، حتى وافته منيته في السادس من يناير سنة ١٩١٣ ، وقد أناف على الثالثة والثمانين .
هنالك في قرية الجيلي ، القائمة على سيف النيل ، وأشجار الأراك الباسقة النضرة ، تحتاطها من كل صوب ،
قوي الرجل العصامي الذي خرج من قريته رجلا من الدهماء ، وأب إليها تكتنفه على مدى الليالي شهرة طبقت الآفاق ، ضرب بها المثل في الشجاعة والإقدام ، والكرم والوفاء .
لقد جري النيل ، وحاول الفراعنة والفرس والإغريق والرومان والعرب ، ان يكتشفوا مجاهله وان يجعلوا من واديه مملكة واحدة ، فقصرت محاولاتهم دون الوصول إلي ما يبتغون ، ولكن النيل قد شاهد لأول مرة في التاريخ ، وفي عهد اسمعيل فقط ، احلام القياصرة والسلاطين تتحقق في جنبات واديه . فخضع من منبعه إلي مصبه إلي سيطرة علم واحد ، وملك واحد ، وحكم واحد . ثم طوي الزمن تلك البنود ، وتقاسمته بنود أخرى . أفحقا أن التاريخ يعيد نفسه ؟ ؟ أ يمكن ان يدور الزمن دورته فيرجع شأن وادي النيل كما كان في عهد اسمعيل ؟ أم أن
النيل إله الأقدمين - وقد دانت عبادة الأرباب عن الأرض - رضي أن يخضع في تحدره لسلطة أعلام كثر ، متعددة الأجناس والآلوان ، أشبه ما تكون بأزاهير شطانه القشب ؟ ؟ أتراه كذلك ؟ ؟
ومهما يكن من شئ فقد اتسعت رقعة الإمبراطورية المصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وامتدت شمالا من الإسكندرية ، إلي البحيرات الاستوائية جنوبا . ومن مصوع وهرر وزيلع علي البحر الأحمر شرقا ، إلي دارفور وتخوم وداي غربا . وقد ساهم في بنائها المصريون والسودانيون ، وكان الزبير باشا أكبر نصيب في فتح حدودها الغربية والجنوبية ، والجنوبية الغربية . فاستقرت وامتدت . ثم تقلصت وانكمشت . رحم الله الزبير باشا فقد كان أمة وحده .
