الاصلاح الاجتماعي فى مصر ونصيب طلبة الجامعة والمدارس العالية منه
قد يخيل إلى المتعجل فى الحكم على الأمور أن الشعب المصرى قد خطا خطوات واسعات فى سبيل التقدم والاصلاح الاجتماعي، وذلك حين يرى ما فى امهات المدن المصرية لاسيما القاهرة الام الكبرى، عروس الشرق، من مبان شاهقة ضخمة، قد بنيت على أحدث مثال، وأثثت بأفخر الأثاث، ومن أزياء حديثة يختال فى حللها القشية شبانها وشوابها، رجالها ونساؤها ؟ ومن متاجر ودور للملاهى يعرض فيها من السلع والمناظرما يعرض فى متاجر اوربا وملاهيها ؛ ومن مصارف وبيوت مالية ومدارس ومستشفيات وأندية وأنزال، وغير ذلك من مظاهر المدنية الغربية الحديثة .
أما التأمل البصير فلا يرى فى شىء من هذه المظاهر دليلا على شىء ذى خطر من التقدم والاصلاح الاجتماعي فى مصر، أنها كلها مظاهر مستعارة من الغرب لا ترتكز فى هذه البلاد على شئ من عناصر المدنية التي ترتكز عليها فى الغرب، وهى العلوم والفنون والصناعات والذوق المصرى والعادات والتقاليد والنظم الموروثة، ولذلك تعد فى مصر مظاهر كاذبة. وقد تعاون على استعارتها ثلاث جماعات، هى: (1) النزلاء الأجانب (٢) الوطنيون المقتونون بهم، الناسجون على منوالهم، وما أكثر هؤلاء وهؤلاء فى امهات المدن المصرية، لاسيما مصر والاسكندرية (٣) والحكومات المصرية لللتتابعة. وليس هؤلاء جميعا هم الشعب المصرى.
إنما الشعب المصرى هو ملايين الفلاحين الكثيرة المقيمة فى القرى المصرية. وإذا جردت امهات المدن المصرية من مظاهر المدنية الكاذبة أصبحت كالقرى المصرية شبرا بشبر وذراعا بذراع . وأى شىء فى القرى المصرية لا يحتاج الى إصلاح ؟ امظاهر المدنية ام العماد الذى لا تقوم إلا عليه وهو عناصر المدنية ؟ أم أساس هذه العناصر ؟
إن كل شىء فى القرى المصرية بل فى مصر كلها أم المدنية القديمة والحديثة ومطمع أنظار الغرب، ومعقد آمال الشرق، فقير كل الفقر الى الاصلاح، فالأخلاق والعقائد وهى الأساس الذى تقوم عليه عناصر المدنية، والمنوال الذى تنسج عليه رودها قد أصيبت بالخلل والفساد، فهى فقيرة الى الاصلاح. والعلوم والفنون والصناعات والآداب والعادات والتقاليد والذوق واللغة والنظم المنزلية والمدرسية والاجتماعية والحكومية وغيرها من عناصر الحضارة لم يبق من محاسنها شىء، فهى اشد فقرا الى الاصلاح. والأزياء والمساكن والأثاث والمتاجر والمصانع والمزارع والطرق والمتنزهات والأندية والمدارس وغيرها من مظاهر المدنية اصبحت ممقوتة بغيضة الى النفوس لبقاء اكثرها على ما كان عليه منذ آلاف السنين، ولانشاء أقلها على مثال غربي لا يلائم أخلاقنا وعقائدنا، فلا بد من إصلاحها وإصلاح كل شىء إصلاحا نحتذى فيه مثال الأمور الصالحة فى الغرب، ثم نصبغها بصبغتنا ونجعلها ملائمة لأخلاقنا وعقائدنا ومزاجنا النفسي والعقلي.
مريم ("". A وهو foم . وإذا كانت الأخلاق والعقائد هي الأساس الذى تبنى كل أمة عليه حضارتها , وكانت أخلاقنا وعقائدنامحتاجة الىالاصلاح كل الاحتياج , فقد وجب أن نبدأ بإصلاحها , فاذا صلحت صلح كل شىء , وان لم تصلح فلا رجاء فى اصلاح . ألا تذكر قوله تعالى : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ." ولا ينبغي لنا ان يعوقنا عن التصدر لاصلاح مافى نفوسنا من مفاسد , وما فى عقائدنا من ضلال علمنا أن الأخلاق وهي الصفاتالنفسية ثابتة فى الأمم ثبوت صبغاتها الجسدية , وأنها لذلك لا تتغير إلا بمعنى آلاف السنين , وأن العقائد لا تقل عنها ثبوتا , لأننا اذا أمسكنا عن التصدر للاصلاح لهذا العلم فلن تتتقدم له أبدا ولن نبلغ ما نريد أبدا . ولا ينبغي لنا أن نسي بجانب هذا أن للتغيير عوامل فعالة يجعله سهلا سريعا وهى الحروب والتهضات القومية , والثورات الفكرية , وأن النهضة المصرية الحديثة من عوامل التعجيل للاصلاح , وان قيام المتعلمين آباء وأبتاء بإثارة الأفكار وتوجيهها فى القرى الى الاصلاح مما يكفل لنا بلوغ المراد منه , فيجب أن تتعاون على هذه الاثارة لنبلغ الأمر الذى نبتغيه .
فاذا نحن أيقظنا بصيحاتنا ودعوتنا النفوس الناعمة، وأصلحنا العقائد والأخلاق وهذبناها بما لا بد منه من العلم والمعرفة فلنعمد
بعد ذلك الى اصلاح كل شىء اصلاحا يلائم أخلاقنا وعقائدنا، او مزاجنا النفسى والعقلى، وإلا وضعنا بجانب كل حجر من أحجار الصرح الذى نبنيه معولا لهدمه، لأن الأمة التى تستعير مدنية لا تلائم مزاجها النفسى والعقلى لا تلبث أن تهدم ما بنت بثورة منها، وحسبك دليلا على ذلك الثورة البلشفية التي قوضت اركان المدنية الغربية فى روسيا، فقد كانت روسيا شرقية فى كل شىء، فلما ولى أمرها بطرس الأكبر حملها على تقليد الغرب بالقوة فجاءت هذه المدنية الغربية غير ملائمة لأخلاق الروسيا وعقائدها لذلك هدمها اخيرا. ومثل هذا يتنبأ إمام علم الاجتماع فى العصر الحاضر " جوستاف لوبون " للمدنية اليابانية التي نقلت عن الغرب فى خمسين سنة. ويمثل هذا يمكنك أن تتنبأ للمدنية التركية الحديثة لأنها من عمل الحكومة لا من عمل الشعب نفسه، وقد نقلتها كما هى بلا تهذيب، ولأنها نقلت طفرة لا بالتدريج .
وليس المسئول عن هذا. الاصلاح الحكومة وحدها، فان الحكومات لا تقوى على كل شىء. وإن من الناس من يقصر عمل الحكومات على حماية الوطن من اعتداء بعض أبنائه على بعض، ومن اعتداء الاجانب عليه. اما. ما عدا ذلك فهو عنده من عمل الأمة وحدها، ولئن استطاعت الحكومات أن تعمل كل شىء وحدها فانها لا تستطيع ان تقوم البتة بالمرافق الكبرى كالزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والتهذيب، فان هذا بلا شك من أعمال الشعوب، ولا بأس بمعونة الحكومة فيه
والمسئول من الأمة المصرية عن تحرير ملايين الفلاحين المصريين من مفاسد الأخلاق ومن البدع والخرافات والأوهام والضلالات وتزويدهم بشى من مكارم الأخلاق ومن العقائد والمعارف الصحيحة التي لابد لهم منها فى دينهم ودنياهم ليصبحوا كأمثالهم فى البلاد الراقية وليستطيعوا أن يقوموا باسلاح عناصر المدنية ومظاهرها إنما هم أهل المعرفة من البالغين الراشدين المصريين
لاشك أن العالم مسئول عن أخيه الجاهل، فلو أن رجلين اجتازا طريقا خطيرة، وكان أحدهما علم بما فيها من خطر ولم يكن الآخر على شئ من العلم بما فيها من خطر، ثم أصابهما فيها صائب من الأذى كان العالم حينئذ هو المسئول عن الجاهل
واذا كان أكثر طلبة الجامعة وللمدارس العالية من الراشدين
المكلفين شرعا وعرفا، كانوا من المسئولين عن الاصلاح الاجتماعي ولا يرفع عنهم هذا التكليف اننا معاشر الآباء العارفين نحمل هذه التبعة لان الامر اكبر من ان يقوم به فريق دون فريق، فليس هو من فروض الكفاية التي اذا قام بها بعض الناس سقط عن الباقين. وانما هو فى الوقت الحاضر من الفروض الوطنية العينية التى يجب على كل ذى معرفة القيام بنصيب منها، وقد تكون من الفروض الدينية. وأبناؤنا الطلبة مع ذلك أطهر قلوبا وأخلص نية واشد غيرة وحمية واقوي أبدانا ونفوسا، فاذا خلا منهم ميدان الاصلاح فقد خلا من كل شئ
وإنا لا نبغى من أبنائنا النجباء طلاب الجامعة والمدارس العليا ان ينصرفوا عن التزود من العلم وتكميل انفسهم الى معالجة الاصلاح فى القرى، لاننا إن طلبنا ذلك منهم كنا خاسرين مسرفين نشتري إصلاح الفلاح بافساد الطبقة الممتازة التى نعلق عليها كل الاعمال، وإنما نريد من أبنائنا الطلبة النجباء عدة الوطن وأعظم كنوز ثروته أن يقسموا أوقاتهم وجهودهم على ثلاثة أمور لا رابع لها وهى: (١) طلب العلم. (٢) الرياضة البدنية واللهو المباح اللذين لابد منهما لحفظ الصحة وتجديد القوى والنشاط (٣) خدمة الوطن من أحسن الوجوه وهو نشر العلم والفضيلة ببن سواده الأعظم فى القرى
أما البطالة والكسل والخمول قد آن أن يكون بين ابنائنا وبينها ما بين المشرقين من بعد فى هذا الزمن المصيب الذى يستهدف فيه للقناء كل انسان وكل جماعة لا يكون شعاره وشعارها الجد، الاجتهاد، اليقظة، الاستقامة، العمل، التقدم. وانه ليعز علينا ان ينصرف فريق من شبابنا فى أيام الدراسة وفى ايام العطل الى اللهو غير المباح وال الكسل والخمول ناسين أنفسهم ووطنهم. وان أخسر الناس صفقة وأعظمهم غبنا فى رأيى شاب آتاه الله قوة الشباب وسلامة الاعضاء والصحة وفراغ البال ورزقه من يعوله ويكفل أموره رسمت له سبل الاستفادة والافادة، ثم هو مع ذلك يضيع هذه الهبات الثمينة والمواهب العقلية الى من بها الله عليه فى اللهو والبطالة فلا هو ينفع نفسه ولا ينفع غيره. لا بل قد. قد يكون بلاء على نفسه وعلى غيره
وما أشبه المصريين الآن بركاب سفينة تسير بالمجاديف مع
طائفة من سفن أخرى لا أقول تسير بالبخار، وإنما أقول إنها تسير بالمجاديف مثلها، تلك السفن هى دول الغرب. وتسعة أعشار من فى السفينة المصرية نيام يوم أهل الكهف، والعشر استيقظ هو الذي يسير السفينة وحده، على حين أن ركاب كل سفينة أخرى يتناويون العمل بينهم، فلابد لسواعد المصريين من الكلال ولابد لعزائمهم فى النهاية من الخور، ولابد لسفينتهم من الانقطاع عن السفن الأخرى. وأنت عليم بما يصيب هذه السفينة المنقطعة من البلاء ولو أن هذا العشر أيقظ تسعة الأعشار لاستغل جهودهم ولوصل بالسفينة وهى مصر الى حيث تصل السفن الأخرى وأصبحت بنجوة من المهالك ونجا هو ونجوا هم معه. وليس ما يبذل من جهد ومال فى تهذيب العامة واصلاح شأنهم بكثير وان عظم. ولو علم الناس ما فى تركهم أبناء وطنهم فريسة للجهل وللضلال وللفقر وللأمراض الجسدية والنفسية من الأخطار المحققة التي لا يمكن أن يسلم منها مجموع الأمة لافتدوا سلامتهم بأموالهم وأنفسهم، فما أشبه أبناء الوطن الواحد بأبناء أب واحد، عنى بتربية فريق من هؤلاء الأبناء فشبوا مهذبين قادرين على كسب قوتهم من أحسن الوجوه، ثم أدركته الوفاة قبل أن تشتد سواعد الفريق الآخر ويربيهم، ثم أهمل اخوتهم تربيتهم فنشأوا جهلة مرضى النفوس عجزة عن كسب أقواتهم. فلا شك أن الفريق الأخير يصبح عالة على الأول مسئولا منه شرعا وعرفا، فهو إما أن ينهض بأعبائهم، وإما أن يستهدف لخطرهم ويكون هو أول فريسة لهم يسلبونه ماله وراحته وربما سلبوا روحه، وما أكثر ما يمثل أمامما من آن لآخر من هذه الحوادث يا أيها الشبان المتعاملون النجباء، يا رجال المستقبل القريب، اعملوا من الآن على ايقاظ تسعة أعشار المصريين إخوانكم لئلا يكونوا عليكم غدا، بل ليكوا عونا لكم على احياء الحضارة واصلاح كل فاسد، واحذروا أن تشتروا العاجل بالآجل بأن تؤثروا ساعات تقضونها فى اللهو والكسل والخمول الآن على راحة
المستقبل وسعادة المستقبل، وتعالوا إلى الميدان الذين فتحه لكم إخوانكم الامجاد أعضاء اللجنة التنفيذية لمشروع القرى وجال فيه جولات صادقات فى هذه العطلة الصيفية ابطال من ذوى العزائم هم إخوانكم المتطوعون لمشروع القرى فكان هؤلاء وهؤلاء من المجاهدين السابقين الاولين الموفقين. تعالوا واعملوا لوطنكم منذ الآن تحت العلم الخفاق الذي يحمله علم مصر وفخرها فى القرن العشرين أبو الطب غير منازع ولا تدافع، الدكتور علي باشا ابراهيم واذكروا قول الشاعر
املأ الدنيا بما تستطيع من عمل يبقى اذا العمر ذهب
انما الأعمال تاريخ الفتى تقرأ الأجيال فيه ما كتب
تعالوا واعملوا للخير، وفقكم الله لإسعاد أنفسا ولإسعاد وطنكم وأبقاكم ذخرا له ؟
