الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 615الرجوع إلى "الثقافة"

مشكلة الحرية, مشكلة الحرية

Share

الحرية شرط لازم من شرائط الحياة السليمة للفرد والمجتمع ، وليست الحرية مجرد مجموعة من القواعد المرعبة والأصول المنيعة ، وإنما هي موقف تجاه الحياة ونزعة غالية تسمح لكل فرد من أفراد الأمة أن يتولى أمور نفسه على الطريقة التي تروقه ، ويعبر عن آرائه بالأسلوب الذي يختاره ولقد مر بالإنسانية حين من الدهر كان مصدر الخطر على الحرية فئة قليلة من أصحاب الامتيازات الأعلياء ، وقد كان العبيد في تلك العهود السالفة أقل قيمة وأنزل منزلة من سائر الآدميين ؛ والمجهود الذي بذل للقضاء على العبودية يبين كيف أن الحرية أصبحت مرتبطة أشد ارتباط بمسألة الكرامة الإنسانية ، فقد أدرك الناس أن المساس بالحرية معناه التعرض لكرامتهم الإنسانية والنيل منها أو إلغاؤها ، ومن ثم امتزجت فكرة الحرية بفكرة الكرامة الإنسانية . وفي مستهل القرن العشرين كان الاعتراف بضرورة الحرية وتقدير قيمتها وعرفان فضلها ومزيتها يكاد يكون من المسائل المفروغ منها والتي أصبح الكلام فيها من قبيل تحصيل الحاصل وترديد ما يعلمه الناس جميعا أو كالنهار في قول الشاعر .

وليس يصح في الأذهان شئ

إذا احتاج النهار إلي دليل

وكانت هناك أمم لا تزال متخلفة لم تظفر بنصيبها المناسب من الحرية ، ولكن هذه الأمم لم تكن حجة ضد الحرية ، وإنما كانت حجة لها ، وكان إجماع المستنيرين في أنحاء الأرض على ان الحرية لازمة للناس والأمم لزوم الضوء والهواء والماء والغذاء

فكل أمة من الأمم يجب أن تتولى أمورها بنفسها وتتحرر من سلطة الغير وسيطرة الأجنبي ، وقد حفل القرن التاسع عشر بحوادث تحرير الأمم من طغيان الأجنبي ، واستبداده بعد سقوط نابليون ، ووجدت الجمهوريات في أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية ، وتحررت إيطاليا ودول

البلقان ، ونضجت الديمقراطية في الولايات المتحدة ، وقوى ساعدها ، وأخذت بالنظام النيابي ألمانيا والنمسا وتركيا ، وحتى روسيا وجد فيها الدوما ، وكانت الهند والصين ومصر تجاهد لتظفر بالحرية وتسير في ركب الحضارة وتتعلق بأسباب التقدم .

وفي داخل الأمة يجب أن يكون الفرد حرا في تفكيره واعتقاده ، وفي كلامه وعمله ، له من الحقوق ما لغيره . وعليه من الواجبات مثل ما على غيره ، ونصيبه من اهتمام العدالة ورعاية القانون مثل نصيب غيره من أفراد الأمة سواء بسواء ، فلا زيادة ولا نقصان ، ومن حقه أن يباشر أعماله ويعبر عن شخصيته في حدود القوانين المرعية .

وبدأ العالم يعرف أن هناك لونا آخر من ألوان الحرية ليس أقل قيمة ولا أضعف اثرا من الحرية السياسية والحرية الشخصية ، وهو الحرية الاقتصادية ، فمن الواجب تحرير الناس من نير الفقر وأصفاد الحاجة والعوز وإرهاق العمل الممل الرتيب وإنقاذهم من أضرار السكن في البيئات القذرة الوبيئة ، وليست الحرية في إزالة العقبات فحسب ، بل هي كذلك في التمكين من تعادل الفرص وإفساح المجال لشتي الكفايات ومختلف الطبقات .

وتقرر في الأذهان أن الحرية ليست تصورا بسيطا ، وإنما هي نظام له أركانه وجوانبه وأجزاؤه وعناصره ، وانه لا بد من استكمال جوانبه واستيفاء أجزائه ليتضح معنى الحرية وتؤتي ثمراتها ؛ فالرجل الكامل الحرية هو الذي يعيش في بلاد مستقلة وفي ظل حكومة ديمقراطية يتساوي فيها الناس أمام القانون وفي نظام اقتصادي يجنبه غوائل الفقر ويتيح له الفرصة لإظهار مواهبه واستعداداته .

ووقت الحرب الكبرى الأولى ، وفي معاهدة الصلح التي تلتها استرد البولنديون استقلالهم وظفر التشيك والسلوفاك ودول البلطيق بنصيبهم من الحرية ، وقوي أمر دول البلقان . وأثبتت الدول العربية وجودها ، ومنحت

إرلندة الحكم الذاتي ، وفازت الهند بنصيب منه ، وبدا للعيان ان حركة التحرير نامية متقدمة وأنها لابد مكتسحة كل ما في طريقها من العقبات .

ولكن هذه الحركة التقدمية القوية أصابها رد فعل لم يكن متوقعا ، فقد اشتدت في أوربا الأزمة الاقتصادية وهبطت قيمة العملة ، وخفضت الأجور ، وانتشرت البطالة وفقد الكثيرون ثرواتهم ، وأصابهم الإفلاس ، وعسرهم الفقر ، وعجزت المجاسي النيابية في بعض الأمم الديمقراطية عن مواجهة الموقف ومعالجة الأزمة ؛ وفي البلاد التي منيت بالهزيمة في الحرب اشتد التذمر من سوء الأحوال الاقتصادية وفرض عدم التسليح عليها ، واستغل بعض الرجال الاقوياء الطامعون في النفوذ والسلطان الفرصة ، وسندهم الرأي العام الذي أصبح يميل إلى تركيز السلطة وشد أزرها وتقوية ظهرها ، ويحرص على صيانة النظام والمحافظة على الأحوال العادية ، فاستطاع هؤلاء الرجال الطامعون أن يثبوا إلي مقاعد الحكم ، ويقبضوا بيدهم على مقاليد السلطة ؛ وكانت قد شاعت في خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين اتجاهات فكرية ونزعات فلسفية تعارض الديمقراطية

وتغض من قيمة العقل ، وتشيد بذكر الشعور والإحساس والبداهة ، فاستعان هؤلاء ، الرجال المغامرون بأمثال هذه الآراء واتخذوها قاعدة لنظامهم ؛ وكان من أخطر هذه الآراء وأقواها سحرا رأي هجل في إكبار شأن الدولة ورفع منزلتها وإعفائها من التبعات الأخلاقية وجعلها غاية الغايات وفوق كل اعتبار ، والدولة عند هجل كلية حبة لها حقوقها التى تعلو على كل الحقوق ، فهي الفكرة المقدسة تسير في الأرض ؛ وخصوم هجل وفلسفته يعدونه مسئول عن الأفكار الأساسية التي قام عليها النظام النازي والنظام الفاشي ؛ وانصار فلسفته والمدافعون عنه يقولون إن هجل حين قال إن حقوق الدولة أسمى من كل الحقوق ، كان يقصد الدولة القائمة على الأسس الديمقراطية ؛ ومهما كان من أمر الخلاف على تفسير مقاصده فإنه من المعروف أن النظامين الديكتاتورين قد استعانا بآرائه واستمدا من وحيه ، ومما ساعد على تأليه فكرة الدولة ضعف العقائد الدينية في العصر الحاضر ، وقد ترك هذا الضعف الواضح فراغا روحيا

في النفوس فسح المجال لتغلب فكرة تأليه الدولة وتقديسها ، وقد صدرت تصريحات كثيرة من زعماء النازيين تنم على فرط تعلقهم بفكرة قدسية الدولة ممثلة في زعيمهم هتلر ( ١ ) .

والواقع أن فكرة تأليه الدولة والقول بعصمتها ، من الخرافات التي فتنت عقول الكثيرين وأضلتهم ، والدولة بطبيعة الحال ليست سوى مجموعة من الرجال والنساء يشتركون في القيام بأعباء خاصة وتحقيق أهداف معينة ؟ والإنسان ميال بطبيعته إلى الاجتماع أو هو مدني بالطبع كما يقولون ، فالميل إلى التعاون مع زملائه طبيعي فيه ، ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن الصورة التى يأخذها هذا الاجتماع يخلق حقيقة جديدة لم يكن لها وجود من قبل ،

فليست الدولة كائنا عضويا كما توهم الواهمون ، ولا نزاع في أن تصرف الفرد في الجماعة مختلف عن تصرفه وهو منفرد بنفسه ، ولكن ليس معنى هذا أن الجماعة شئ مختلف عن الأفراد ، وغاية ما في الأمر أن الفرد في الجماعة يستمد من قوتها ويفقد شيئا من الشعور بالتبعة فتزداد جرأته ، والأفكار التي يوحيها زعيم من الزعماء قد تثير استجابة في نفوس الجماعة وتكتسب عطفهم وتؤثر في نفوسهم ، ولكن ليس معنى ذلك أنه قد ولد مخلوق عضوي جديد ، ولا ينقص ذلك من قيمة فكرة الدولة ، فهي إن لم تكن مخلوقا عضويا فإنها نظام لازم للإنسان ، ولولا وجودها لسادت الفوض وتعذر وجود الإنسان . والدولة بالقياس إلى الفرد مثل الجو بالنسبة للجسم ؟ فكلما كان الجو نقيا طيب الهواء صح الجسم وقوى ، وكلما كان فاسد الهواء ضعف الجسم وذوى .

وبين الدولة والأمة تفاعل متبادل وتأثير مشترك . فكما تكونوا يولى عليكم ، أي أن الدولة تستمد طبيعتها واتجاهائها من طبيعة الأمة ونزعتها ، والدولة من ناحية أخرى تؤثر في طبيعة الأمة وتطبعها بطابعها ، ولغة الأمة وقوانينها وعاداتها وتقاليدها قد أنمتها الأجيال السالفة

واشتركت في تكوينها وهي تتمثل في حالتها الحاضرة ، فالجيل الحاضر هو إلى حد كبير ما صنعته الأجبال السالفة ، والجيل المقبل هو كذلك إلي حد كبر ما نشترك نحن في صنعه وتكوينه ، فالجماعة أو الأمة شئ موجود وله كيانه . وليس وهما من الأوهام كالذي يسميه بعض الفلاسفة السياسيين " الدولة " إما من قبيل الخطأ في التفكير والانطلاق مع الأخيلة والأوهام وإما من طريق التضليل والتدجيل .

ولا نزاع في أن النظم الديكتاتورية لها مظهرها الآخاذ البراق وصوتها العالي الفخم وبتها السريع في الأمور وكفايتها الواضحة غير المنكورة في تصريف الشئون ورتق الفتوق ولم الشعث ، ولكنها مع ذلك لها عيوبها الخطيرة . فأراء الناس قد تختلف . ووجهات تظهرهم في المسائل العارضة والمشكلات الطارئة قد تتعارض وتتباين . فإذا لم يفصل في هذا الخلاف بالمناقشة الحرة والبحث الطليق وتقليب الأمور على وجوهها في جو من الصراحة والحرية فلا بد من أن يتبع طريق آخر للفصل فيها وتبين الخطأ من الصواب وهذا الطريق هو الإملاء والإرغام والفرض والإلمام

فالديكتاتور هو صاحب الأمر والنهي والفصل والمرجع الأول والأخير ، وهو يتأثر في إصدار ارائه من غير شك بآراء حاشيته وحواريه ولا يسمح لأحد بأن يري رأيا غير رأيه أو أن يذهب في علاج المشكلات مذهبا خلاف مذهبه : ومن اجترأ على التصريح برأيه فجزاؤه الإبعاد والحرمان والطرد من وظيفته أو بلاده أو سجنه واعتقاله . وفي بعض الأحيان قتله والتخلص منه ؛ وبذلك محل المؤامرة محل المناقشة ، والعمل في الخفاء والظلام بدلا من العمل في الجهر والعلانية ، ويكون لذلك كله أثره السئ في إفساد النفوس ، وهدم الأخلاق ، وتعطيل المواهب والملكات ، وتعريض الأمة للسقوط والهلاك ؛ ولا نزاع في أن التضحية بالحرية السياسية والحرية الشخصية من أجل الحصول على الاستقرار وتججنب الثورات والانقلابات تضحية غالية . ولا يأتي من ورائها خير ، بل يجيء الضرر المحقق والنكبات المتلاحقة ، والمهم أن نتفادى عيوب الديمقراطية ونصلح أخطاءها وتستدرك نقائصها ، لا أن ننسخها ونلغيها ونستبدل بها النظم

الديكتانورية ، والحرية تسمح للانسان بالوقوع في الخطأ لتعلم الصواب ، ولا نزاع في أن الوقوع في الخطأ قد يضر المجتمع ، ولكن مشكلات الحياة كثيرة ومنوعة ، والإنسان مهما بلغ من القوة فإنه أضعف من أن لا يخطئ في تناول تلك المشكلات الكثيرة المعقدة ، ومن الخطأ يتعلم الإنسان الصواب ، والمجتمع نفسه في حاجة ماسة إلى حرية الأفراد ليكون مجتمعا سليما ، وانجتمع السليم أفراده أقوياء أكفاء أحرار ، ومثل هذا المجتمع الحر السليم يرتفع فيه الأفراد بكفاياتهم الذاتية ويسقطون بسبب جهلهم وسوء تصرفهم

والحرية الفردية هي أصدق محك لقيمة الأفراد وأحسن مقياس لأخلاقهم وشخصيتهم ؛ فبالحرية تختبر الناس ، ويتميز طيبهم من خبيثهم ، وتتمحص الأخلاق ، وتكشف الدخائل والبواطن ، فيسمو من يسمو ويسقط من يسقط ، ويأخذ كل إنسان حيزه المناسب وقدره الحقيقي . وتلتقي في ذلك مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة ، وفي خلال عملية الارتفاع والهبوط يكتسب الفرد خبرة وتجربة ، والمجتمع الصالح يحاول على الدوام أن يتعرف نفسه ويتفهم أهدافه أو يحاول على الأقل أن يكون فكرة عن نفسه ، وليس في مكنة إنسان أن يعرف المجتمع من جميع نواحيه . ولكن إذا حاول كل إنسان أن يصور الناحية التي يعرفها تصويرا صادقا أمكن أن نكون عن المجتمع صورة عامة مستمدة من ملاحظات الباحثين في نواحيه المختلفة ؛ وكما كان هؤلاء الباحثون أحرارا في بحوثهم لا رقيب عليهم غير ضمائرهم امكن تكوين فكرة عامة عن المجتمع تقارب الحقيقة جهد الطاقة البشرية ، ومثل هذه الصورة كمثل محاسن المجتمع ومساوئه ومزاياه ونقائصه ، ومن ثم أهمية حرية التفكير والأرتياء وإبداء الآراء .

وهناك من يرتضون التفريط في الحرية ويرون قبول نظم الجماعية من أجل القضاء على الفقر ، وحجتهم في ذلك أن الفقير المعدم لا يفيد من الحرية ، ولكن هل يفيد الفقير المعدم من فقد الحرية ؟ وحقيفة أن الفقير المحروم قد لا تكون له قدرة على الانتفاع بالحرية ، ولكن فقدان الحرية من أجل ضمان الخبز والقوت للفقراء والمعوزين ليس ( البقية على صفحة 18 )

( بقية المنشور على صفحة ١١ )

بشئ ، ومجاهدة الفقر فريضة على المجتمع ، ولكن إضافة الحرية من ناحية اخري نكبة يبتلى بها المجتمع . فكيف إذا نوفق بين طرفي المشكلة ؟

في اعتقادي أن الحرية يحسن أن يكون لها حدود لوقاية الحرية نفسها ، ولكن إساءة استعمال هذا التحديد قد تعود على الحرية بأفدح الأضرار ، كما أن الحرية المطلقة الجامحة قد تؤدي إلى العنف والطغيان وفقد الحرية ، وتحديد الحرية لا يكون إلا بإقامة حدود للغى والفقر ؛ فالمجتمع الذي يبيح لفئة قليلة من الناس أن تجمع الثروات الضخمة وتسرف في الامتلاك والاستئثار والاحتكار تتعرض حريته للخطر وطغيان رءوس الأموال وتسخيرهم الدولة لأغراضهم الخاصة ومصالحهم الذاتية ، والمجتمع الذي يترك طائفة من أفراده تعاني الفقر المدقع ولا يحاول استنقاذهم والأخذ بيدهم وتفريج كربهم تصبح حريته كذلك في مهب الريح ومدرجة الضياع ؛ ولابد من الموازنة بين الفقر والغنى لينعم المجتمع في ظلال الحرية الحقة . ويظفر بالاستقرار والطمأنينة ، ويوق شر الهزاهز والاضطرابات والثورات والإنقلابات

اشترك في نشرتنا البريدية