سنجد نفس الفكرة ( ١ ) عند سارتر ، وقد زادت تعقدا ، ولا غرابة في ذلك ، فصاحبنا فيلسوف أخلاقي يعتمد في تفكيره على الميتفيزيقا . ليست قضية سارتر قضية مفكر ديني يتطور نحو الالحاد ، ولكنها قضية مفكر لا ديني المزاج ، بل قل بطل الالحاد والداعي اليه . فتآليفه الادبية ، - فضلا عن تآليفه الفلسفية - ونتاجه المسرحي على الخصوص ، كل ذلك يبدو موجها ضد الله . ويحب أن نعزو هذا البغض لله الى اتجاه فلسفته العام . فالانسان - حسب تحديد سارتر - هو الحرية الذاتية ، ليس شيئا آخر . وهذا ما يجعله - أولا وبلذات - عديم الثقة بالناس ، مدافعا عن نفسه ليقيها شر " الآخرين " . لان " الآخر " عدو لي بوجه من الوجوه . فإذا اتفق له ان يكون أقوى مني اجتماعيا او خلقيا ، حاول أن يسترقني او أن يستغلني ؛ واذا كانت له معي علاقات تربطنا على قدم المساواة , نظر إلي - طبيعة - نظره الى جماد خال من كل حياة ، واطال الي النظر بعقليته هذه محاولا ان يمحوني من حيث انا شخص ومن حيث انا كائن حر . " فالآخر " باستعداده ووضعيته ، عدو لحريتي . يقدم لنا سارتر في مسرحياته - بإسهاب مقصود - ذلك الموضوع المفجع الذي يطرق العلاقات المفجعة بين " الانا " و " الآخر " المتنافرين . وفي المسرحية التي عنوانها " المحاكمة السرية " (Huis-clos ) بدا هذا المشكل أبين منه في اي تأليف آخر ، حيث نجد جهنم ممثلة في صورة قاعة - على النمط البرجوازي المعتاد - حكم على ثلاثة اشخاص ان يعيشوا فيها أبدا ، كل واحد منهم يرزح تحت النظرات القاهرة التى يسلطها عليه
الاثنان الآخران . " جهنم " تمثل " الآخرين " . فاذا كان " الآخر " مخطرا , وهو لا يعدو ان يكون انسانا ، وندا لي وأخا ، فإلام سيؤول الامر اذا وجب ان نبدأ كلمة " آخر " بحرف رئيسي ، اعني اذا كان " الآخر " هو الله ؟ فهل بقي فى الامكان ان انزع الى استقلال ذاتي ، او بعض هذا الاستقلال . وانا بين يدى " آخر " هو الكائن الكامل الذي ارتبط به وجودي حتما من حيث أنا كائن ناقص . فاذا ثبت وجود إله " على كل شيء قدير " أفلا يمكنني ان اكون إنسانا " ذا حرية مطلقة " ؟ وما سيكون مصير ما يكنه ضميري من سرائر ، وقد تطاولت اليها نظرة عميقة قبضت على افكاري جميعها فاستبدت بها ، وتنبأت بأفعالي ، ما عظم منها وما حقر ؟
فالرأي الذى يهيمن على تفكير سارتر هو التالي : إن صح ان الله موجود ، فالانسان غير موجود . وبالعكس إن صح اني موجود كإنسان ، اعنى كشخص يتمتع بكامل الحرية ، اصبح وجود الله امرا غير ممكن . هنا يبدو موقف سارتر موقفا إبليسا - بالمعنى اللاهوتي للكلمة . هو موقف مخلوق عن له من العدل ومن العادي - بعد ان ظفر بالحرية من الله ، ان يستعمل هذه الحرية لرفض الله ، لان الخضوع الارادي - حسب رأي سارتر - لسلطة قاتمة ، لا يمكن ان يعتبر فعلا اختياريا ؛ ( وهذا غموض فادح في تفكير سارتر ) . إن الحرية لا تنطلق كامل الانطلاق الا في الثورة ، وإن الانصياع للنظام عن طيب نفس لا يكون مقبولا الا فى نطاق عمل ثوري .
هذا ما عبر عنه سارتر تعبيرا قويا منذ سنة ١٩٤٢ ، في تلك الرواية التي لاقت نجحا بعيدا في المسرح ، مع ان قيمتها الفلسفية محل نزاع عنيف ، والتي عنوانها " الذبان " ( Les Mouches ) . وفيها نجد الله - وقد سمي " جوبيتير " ( Jupiter ) - شخصا من اشخاص الرواية الذين يبرزون للعيان ويتحدثون ، اهم ما نلاحظه في هذه المسرحية محادثة تدور بين الله و " أوريست " ( Oreste ) لان موضوع الجدال بالضبط فى هذه المحادثة ، هو مشكلة علاقات الانسان بالله . و " أوريست " هذا الذى صوره لنا سارتر ، هو نقيض المسيح - نعم ، نقيض المسيح - اعني ذلك الذى يعوض الشفاعة المسيحية بشفاعة اخرى ، شفاعة شيطانية تقريبا ؛ ذلك الذى ينجي العباد لا بتخليصهم من الخطيئة ، ولكن بتخليصهم من
الخوف من الخطيئة ، وسيلته , لتحقيق ذلك ، نفي الاحكام الالهية . وما هي الا ان شرع " جوبيتير " ينحى باللائمة على " أوريست " حتى جره الحديث الى تحديد دور الاله في الكون تحديدا متينا ، مركزا تركيبا كلاميا ثابتا .
فالله - حسب تحديده - هو الكائن الذي تكون الموجودات هى به موجودة ، وهو " الخير " لانه هو " الموجود الجوهر " . ثم يقول " جوبيتير " :
" الخير منتشر في كل مكان ، الخير كامن فيك وموجود فيما هو سواك ، يندس فيك كانه منجل ، ويدوسك كانه جبل ، ويحملك فيجرفك كانه بحر . اما هذا الشر الذي انت به مفتخر ، وادعيت انك فاعله ، هل هو سوى انعكاس " للوجود " ، ومناص مكذوب ، وسراب ، وكلها امور برزت - بفضل الخير - الى الوجود ! "
هذا حديث طريف المضمون ، جميل الصياغة ، ولنستمع لجواب " أوريست " بعد هذا التذكير بعزة الله وبتفاهة المخلوق :
" انت ملك الالهة ، يا " جوبيتير " ، انت ملك الحجارة والكواكب ، ملك امواج البحر ، ولكنك لست بملك الناس . "
هذه عبارة مدهشة ، اذ هي على ثورة الانسان ضد الله ادل منها على نفي الانسان لوجود الله . ويرد جوبيتير قائلا :
" لست بملك عليك ، يا حشرة بانت وقاحتها ، فمن خلقك ؟ "
فأجاب " أوريست " "
" انت الذي خلقتني ، وما كان عليك ان تخلقني بشرا حرا . "
فقال " جوبيتير " :
" لقد وهبتك الحرية لتكون فى خدمتى . "
ورد " أوريست " :
" قد يكون ذلك ، ولكن هذه الحرية انقلبت عليك ، وصرنا - انا وانت - على تلافي الامر عاجزين . "
هذا موقف شيطاني محض : إذ الكائن الذي خلق حرا اصبح لا يتشبع بحريته الا اذا رفض ان يكون فى خدمة فاطر السماوات والارض .
على ان جواب " أوريست " جواب باطل ، اذا ما تفهمناه تفهما دقيقا . فهو يفرض وجود رب كامل على كل شيء قدير وهو الله ، ثم يقول ان الانسان - وهو كائن خلقه الله ناقصا ضعيفا - يجرؤ على ان يتوق الى استقلال ذاتي مطلق ، والى الفوز بالمساواة لله في الكون . لذلك يتحتم هنا ان نبحث عن سوء الطوية التي يتضمنها رأي سارتر . هل إن " جوبيتير " فى رواية " الذبان " هو الله حقيقة ؟ من المحتمل ان " جوبيتير " لم يقصد الى شيء سوى الافتخار بنفسه ، وان ألوهيته ليست الا خيالا او قناعا . واذا صح هذا الافتراض ، فموقف " أوريست " يصبح موقفا وجيها . ولا بد من الرجوع - كي نفهم ثورته في أتم معناها - الى الخطاب الذي وجهه اليه " جوبيتير " ، ينصحه فيه بان يفتح اعين الجمهور رأفة بالجمهور ، فيقول :
" ويح هؤلاء الناس ! الوحدة والعار هديتك اليهم ، انك ستخلع عنهم الثياب التى كسوتهم بها ، فلا تلبث ان تكشف لهم عن وجودهم ، وجودهم هذا الفاحش المضجر ، الموهوب لهم سدى . "
ويجيب " اوريست " :
" بلى ! اعلم هذا ، ولكن الانسانية تبدا على الضفة الاخرى من خضم القنوط . "
ومعنى ذلك انه لا وجود لله ، ولكن يوجد معنى الله ، وهو تصور باطل ينشئه - قصد الاعتصام به - الضمير الحائر ، العاجز عن مجابهة بؤسه الشخصي على ان الانسان لا يكون انسانا كل الانسانية حتى يضطلع - في جرأة - باحتمال عبث الوجود ، والتسليم به عن روية ووضوح تفكير .
وفي فصل آخر - وهو يتضمن محاورة بين " إيجيست ( Egisthe ) وجوبيتير - يظهر ان معنى الله ليس امرا اخترعه الضمير الحائر فحسب ، بل رأى قال به الرؤساء والملوك كي يبرروا سلطتهم ، وصورة سياسية باطلة فرضتها البيئة الاجتماعية على الضمائر الفردية ، كي تضمن امتيازات الطبقات المهيمنة ، ثورة اوريست ليست اذن رفضا به يجابه الانسان الها موجودا ، بل هي ارادة ترمي الى محو معنى لا يقوم على حقيقة واقعة ، ويدوس حرية الانسان . فالضغينة التى يكنها سارتر ضد الله هي - بالتالي - ضغينة ضد صورة الهية يرى فيها هذا المفكر وهما مخلا بالضمير ، وعقبة كاداء في سبيل تحقيق حريته الذاتية الكاملة . أقول هذا وانا انظر في فلسفة سارتر وفي ارائه التي يثبتها بصورة شكلية ، لست ادري ، في الحقيقة ، هلا يوجد ، عند هذا الرجل الذي يشن حملة ضد معنى الله ، فكرة بعد عمقا ، او خاطر مكنون يجعله اثقل مسؤولية واكبر ذنبا من جهة ، ويهييء له , من جهة اخرى ، امكانية اوسع يلجأ بفضلها الى الروح في نهاية الامر ؛ واعني بالخاطر المكنون - الذى يشنع بفكرة الله - شعورا عميقا صامدا بذات الله .
ولنحتفظ ، على كل ، بما قال سارتر : هو يريد ان ينزع معنى الله من الذهن الانساني ، فلقد اثار المشكلة من جديد - بعد تأليفه " الذبان " - في رواية اخرى عنوانها : إبليس والله ( Diable et bon Dieu le ) حيث تبرز هنا فلسفته الالحادية في صورة مذهب مكتمل قائم بذاته . اكثر منها في اي تأليف آخر . ففي هذه المسرحية نجد شخصا يدعى " قويتز " ( Goetz ) تاقت نفسه ، بعد ان كان بطل الشر ، الى ان يصبح بطل الخير ، وصار يشهد - في تأكيد - بوجود الله ويؤمن بحكمه ، ويحاول ان يطبق هذا الحكم حسب التعاليم المسيحية ، ولكنه أخفق إخفاقا تاما : فالفلاحون الذين وزع عليهم الاراضي ثاروا عليه ، والمرأة التي شغفته حبا وطلقها هلكت حزنا ، ومدينة الشمس ، التي اقامها على مبدإ
اللا معارضة للشر سحقها العدو . ولم يستعد " قويتز " ثقته في الحياة وعطف الناس عليه وانسه اليهم الا بعد ان تفطن لخطإه : فهو اراد ان يكون فعله مسايرا للتاريخ وان يكون ايمانه بالله وقبوله لحكم الله نقطة انطلاق لعمله الانساني ، وما كان منه الا ان اعرض عن هذا الحكم وهذا الايمان وثاب الى حرية الانسان الملحد الخالصة ليتمكن من اعادة ربط عروة التضامن مع " الآخرين " بعدما انفصمت من جراء طهره اللاإنساني ، وليتيسر له كذلك ان يفوز من جديد بوسائل الفاعلية التاريخية وان يضطلع بدور خلال متناقضات التاريخ ، وان يدافع عن المساكين بواسطة الحرب ، فاستمع اليه يقول ، وقد بلغ الدرجة القصوى فى معاناته تجربة طهره :
" ليس من هذه الحرب بد ، اني صممت على ان اخوض غمارها . لم ابق انسانا حقيقيا ، لان الله احتكر الوجود ، كل الوجود . "
انكم تلاحظون اننا نصطدم دوما بنفس الفكرة : وجود الله ، او معنى الله امر يؤدي بالانسان الى الهلاك . وهكذا تأكد التنافر الكامل بين المسيحية والانسانية ، اما " هيلدا " ( Hilda ) - وهي حكيمة الرواية - فتتجاسر ان تقول :
" لا يمكن ان نحب الا على الارض وضد الله . "
وقولها هذا تجديف فظيع وامر مخالف للحقيقة : اذ مهما باءت المسيحية لاخفاق زمني ودنيوي ناشيء عن عدم استقامة المسيحيين ، فلا يجب - مع هذا انكار المحبة المسيحية ، ولا يحسن تأكيد ذلك الراي الغريب المشين ، القائل بان المسيح نزع المحبة من الكون ، لنعترف اذا ما رمنا الاخلاص للحق وللتاريخ انه من الخطأ القول بانه لاسبيل الى محبة الناس الا ضد الله ، من الخطإ ان نعتقد ان الايمان والترجي والمحبة - وهي فضائل تسمو عن الفضائل الطبيعية - تعوق المؤمن بالله على ان يكون في خدمة الانسان وان يؤثر في التاريخ ، ولكن هذا الخطأ عند سارتر ناتج عن اثبت عنصر وابلغه اهمية في مذهبه الانساني الالحادي .
على اننا نجد فى رواية " إبليس والله " قضية اوسع من مجرد قضية الله والطهارة ؛ فالقضية تبحث - بصورة أعم - مشكلة " المطلق " ، وهذا امر جدير بالاهتمام . " فالرواية ، حسب تصريح المؤلف ، تعالج برمتها مشكل علاقات الانسان بالله أو قل - ان شئت - علاقات الانسان بالمطلق " . والمطلق - في الحقيقة - هو موضوع الشك اكثر من الله ؛ " قويتز " - خادم الشر - ما يفتأ متعطشا الى المطلق ، رافضا حدود وضعيته الانسانية ، كى يثبت حرية معنوية ,
خيالية ، متنطعة ، عديمة الصلة بالتاريخ . وهو ، اذ جعل نفسه مقصورا على خدمة الله ، يرمي الى بلوغ المطلق ايضا . وفي كلا الحالتين ، رمى به التعطش الى المطلق خارج الانسانية ، وذلك بصورتين اثنتين : بان عزله عن الموجودات ، وبان جعله قاصرا عن القيام بعمل إيجابي . فلا سبيل الى ان يدخل فى بوتقة الانسان حتى يقبل نسبية منزلته من حيث هو كائن دنيوي زمني ، يخضع لوضعية تاريخية مضبوطة ، ويخوض غمار عمل ملتبس زائف ، وبالتالي حتى يوطد العزم على تطهير عقله من كل علاقة بالمطلق . ويمكن له ان يصيح حينذاك مرددا :
" لا وجود لله ! ما اعظم فرحي : اني لابكى من شدة الفرح ! هللوليا ! لم يبق وجود للسماء ، لم يبق وجود لجهنم ، فلا وجود الا للارض ! وداعا ايها المسوخ ، وداعا ايها القديسون ، وداعا يا صلف ، فلا وجود الا للناس . "
" وداعا يا صلف " لان الصلف هو الذي يغوي الانسان كى يتطلع الى الاتصال بالمطلق .
ليست حملة سارتر على " المطلق " امرا شاذا . فهي في المذهب الوجودي - فلسفة وأدبا - أمر مألوف وعنصر ضمني . ولم تقف هذه الحملة عند نفي وجود الله فحسب ، او عند الشك في قيمة معنى الله ، بل تعدت الى رفض مقولة المطلق رفضا باتا . اما عند " ألبير كامو " ( Albert camus ) فرفض " المطلق " ينفجر حسب اتجاه فكري يخالف التفكير السارتري اشد المخالفة . نجد في مؤلفه " الانسان الثائر " ( L'homme Revolte ) فكرة مهيمنة ، مفادها انه كلما رام الانسان الظفر بمطلق ، سرعان ما تبرز دوافع تجرف الى الطغيان والاغتيال . وهكذا ينقلب معنى الله فتكا بالانسان ، حسب رأي كامو : اذ أن الانسان ، عندما يزعم انه يتكلم باسم الله ، يحس في نفسه اكثر استعدادا لكي يدوس الانسان ، أو ان له ما يبرر هذا الفعل ان كامو يعتمد على النظرية المتعلقة برفض المطلق لينتقد الموقف السياسي الذي ينتصر له سارتر ، فيلاحظ - وهو في هذه الملاحظة غير مخطيء - ان سارتر قبل ان يكون في خدمة الماركسية اعتنق عددا من المقولات الكبرى التي يقوم عليها التفكير الماركسي ، وخاصة تلك النظرية التي هي بمثابة الحجر الاساسي لهذا المذهب ، والتي مضمونها ان للتاريخ تطورا مقررا بصورة
ما قبلية ، وانه يتحتم على الانسان - متى رام بلوغ الكمال في الحكمة والحرية - ان يسلم بمعنى قوى التاريخ ، وان يجعل نفسه في خدمتها ، ولقد عبر سارتر عن هذا الرأي بصورة رمزية ، في كتابه : " إبليس والله " حيث فاز " ناستي " ( Nasti ) بانتصار عظيم في آخر الامر . و " ناستي " هذا ، شخص ، من بين اشخاص الرواية ، فى دور رئيس المساكين ، يقوم بحرب لا يؤمن بشرعيتها في قرارة نفسه ، الا انه يعتبرها امرا لا مناص منه ، لان المساكين - وهم من لا تخطئ غريزتهم - يرغبون في القيام بها ، ولان هذه الحرب من مقتضيات التاريخ . وهذا موقف ماركسي صرف ، يسميه كامو مذهب الاعتقاد في التاريخ , ويعتقد انه نشأ مع هيقل ( Hegel ) وازدهر مع ماركس ( Marx ) . واهم ما يقوم عليه هذا المذهب ، هو ان المطلق لا يزال يجرف حتى يندمج في تيار التاريخ ذاته . فمما لا مراء فيه ، انه اذا سلمنا مبدئيا ان معنى التاريخ هو تحقيق الطبقة الكادحة الاستبداد بالحكم ، وقيام وتشييد مجتمع خلو من الطبقات ، اصبحت الخدمة التاريخية للشيوعية هي مقياس الخير والشر . " فالمطلق الماورائي " اذن يتبلور في التيار الماركسي للتاريخ ، و " المطلق الاخلاقي " يتبلور كذلك فى نشاط شيوعي ضمن التاريخ ، ان هذه القفزة الى " مطلق " مطبوع بطابع زمني واجتماعي ، تعنى - فى نظر كامو -القرب من مغبة الوقوع ، من جديد ، فى اتجاه اخلاقي اثيم طاغ . وكامو يرغب عن هذا الاتجاه رغبة يصبح معها موقفه بالتالي اكثر مرونة ، وفي الواقع اكثر انسانية من موقف سارتر ، رغم ثباته على رفض كل ماله مساس بالله او بالمطلق رفضا اساسيا . الأنسانية التي يدعو اليها كامو اذن - معتمدا في ذلك على قاعدة عدم الافراط الموروثة عن اليونان ، وعن الفلسفة الرواقية التي نشأت على ضفاف البحر الابيض المتوسط - انسانية مطبوعة بطابع الوضعية والنسبية ولكنها انسانية صريحة الالحاد ، مع ان نفي وجود الله فيها أقل بروزا للعيان واقل حدة منه عند سارتر بيد ان هذا النفي ما برح منبعا للتفكير . لذلك نجد كامو ، وكل المفكرين القائلين بالانسانية ، يحاولون ، بعد ما اثبتوا وجود قيم الضمير الاخلاقي ، تبرير هذه القيم وتعليلها .
ويحسن بنا ، في هذا الصدد ، ان نقرأ فقرة في نص اساسي كتبه كامو اثناء الحرب سنة ١٩٤٢ ، بعنوان : " رسالة الى صديق الماني " ( Lettre a un ami allemand) يعتبر كامو نفسه مخاطبا بهذا الكتاب صديقا له نازيا ويعترف انه - في اول الامر - كان متفقا واياه وان اخلاق صديقه النازي ، واخلاقه هو ، قائمة على مذهب ما ورائي مناقض للتفكير السليم , اعني على التسليم بان العالم عبث بحت . وكلاهما يرى ان الانسان ، والانسان وحده - هو الكفيل بان يعطى معنى لهذه المهزلة
الباطلة - وهنا ينشب الخلاف بين كامو وصديقه الالماني حول الطريقة التى يعطي بها معنى للمهزلة ، فالنازي يعتقد في ارادة القوة وفى هيمنة جنس مصطفى ، اما كامو فهو يزعم ، متاثرا في ذلك بروحه الانسانية الغربية ، اننا نعطي معنى للوجود بفضل اثباتنا للقيم الفكرية ، واليك النص الذى يعلل به رأيه :
" طالما اعتقدنا جميعا انه لا توجد علة اساسية لقيام هذا العالم واننا مهضومو الجانب . الا اني استنتجت - من هذا الوضع - غير هذا الاستنتاج ( . . . ) انك لم تعتقد ابدا ان لهذا العالم معنى ، واستخلصت من ذلك ان كل شئ فيه سواء ، وان تحديد الخير والشر امر رهن اهوائنا . ( . . . ) واستنتجت كذلك ان الانسان ليس شيئا مذكورا ، وانه في الامكان ان يهلك نفسه . أين توجد نقطة الاختلاف بيننا ؟ هي في استسلامك بسهولة لليأس فى حين انى لم ادع له سببا الى نفسي ، هي في قبولك - بدون معارضة - ما يسلط من ظلم على منزلتنا الانسانية ، فاثقلتها بفعلتك هذه طائعا غير مكره ، فى حين انه يتحتم على الانسان ، حسب رايي ، ان يثبت وجود العدل كي يتيسر له الكفاح ضد الظلم الابدى ، وان ينشئ السعادة كي يشهر بعالم الشقاء . ( . . . ) وصفوة القول ، فانك اخترت الظلم ، وتحيزت الى شق الالهة ( . . . ) اما انا ، فبعكس ذلك ، قد اخترت العدل كي اظل مخلصا للارض . واني ما انفك اعتقد انه ليس لهذا العالم معنى اساسي ، ولكنى اعرف ان شيئا فيه لا يخلو من معنى ، وذلك هو الانسان ، لانه هو الكائن
الوحيد الذى يطلب هذا المعنى ، ملحا في طلبه . هذا العالم يتضمن " على الاقل " حقيقة الانسان ، وواجبنا يقضي علينا بان ننصفه ضد نفسه بالذات . فما معنى تمكين الانسان من النجاة ؟ معنى ذلك توفير الاسباب التى يعم بها العدل ، والانسان وحده هو الذي يمتاز بعقل العدل وادراكه . "
هذا موقف بالغ الاهمية فالالحاد موجود ضمنه : هذا العالم لم يخلق من لدن إلاه حكيم ذي قدرة ربانية ولكنه عالم قائم على العبث ، والقسوة ، والظلم . الا ان الانسان يجد نفسه امام امرين اثنين : فإما ان يقبل هذا الظلم ، واما ان يرفضه بان ينتصر للعدل ويشاقق الله . ولكن باسم من ينتصر للعدل ؟ باسم الانسان . فالانسان يحس في صدره بدافع يصور له عدلا لا يوجد في التاريخ ولا في العالم ؛ ذلك ان الانسان هو الكائن الوحيد يعقل هذا العدل ويدركه ويتوق اليه . وهو انسان لانه يدرك العدل ويرغب فيه .
هو ذا موقف انساني خالص الانسانية ، شريف وفيه خير كبير ، يلتقي بالسنن الاخلاقية البالغة ، التي ازدهرت في الغرب . بيد انه اذا ما حاولنا ان ندقق النظر فيه من حيث تعليلاته الفلسفية ، بدا لنا واهي الاساس . اذ لا بد ان نتساءل كيف امكن لمعنى التسامي والتعالي ان ينشأ فى الكائن العرضي . فاذا صح ان هذا العالم خلق سدى ، وان الحياة ظهرت فيه صدفة ، وان التخلص من مستوى الحياة المادية الى مستوى الحياة الفكرية امر من قبيل الصدفة وليس له مبرر كذلك ، فكيف امكن لحياة الضمير والفكر - هذه التي نشأت عفوا في كائن عرضي - ان تبدو للانسان مطبوعة بطابع السمو والقيمة المطلقة ؟ وكيف تبينت صحة مقتضات الفكر ، اذا وقع التسليم بانه لا وجود لشيء اسمى من الانسان ، واعتبرنا ان الانسان ليس سوى كائن زائل ، ناجم عن تطور بيولوجى بحت ؟ هي ذي عقبة لا يصطدم بها كامو فحسب ، بل كل الفلسفة الانسانية اللادينية التي تعتبر الانسان مركز الكون ؛ وهي ذي حجرة العثرة التي تصطدم بها الفلسفة الانسانية برمتها ، اذ هي تولي الانسان اهتمامها ، كل اهتمامها ، وتضرب عن الله صفحا . لا بد لهذا المذهب الانساني - كي يذلل هذه العقبة - ان يعوض اسم الله باسم جوهر علم : وإنها لا تجد اقرب استعمالا في هذا الصدد من كلمة الفكر : فالفكر ينشر القيم في عالم الرفعة والتسامي ، ويسلط على هذا الكون المبعثر العناصر ، وعلى التاريخ ، نورا يقينا شر القنوط . ( البقية في العدد المقبل )
