الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 164الرجوع إلى "الثقافة"

مشكلة زيادة السكان

Share

نشكر للأستاذ عبد الله القديم مقاله عن ملثوس ، ومشكلة تزايد السكان فى مصر ، وهو المقال الذى نشرته مجلة " الثقافة " الغراء بعددها رقم ١٥٨ ، إذ أتاح لنا فرصة الكتابة فى موضوع الفقر فى مصر ؛ فمهما زاد عدد الكتاب فى هذا الموضوع فلن يوفوه حقه ، إذ أن مستوى المعيشة بمصر منخفض لدرجة أن أصبح هذا المستوى مشكلة خطيرة .

ومع ذلك فنرجو أن يكون مقال الأستاذ القديم بداية لمناقشة واسعة تستحقها مسألة معقدة تمس كل القلوب ، ألا وهى مسألة تقدم بلدنا المحبوب ورقيه ، على أن تكون المناقشة كما قال الأستاذ القديم ، بعيدة عن كل الأوهام التى أبديت من قبل فى هذا الموضوع .

وأعظم ظننا أن دراسة هذه المسألة - وهى مسألة اقتصادية قبل كل شئ - يجب أن تبكون مرتكزة على الأرقام والاحصاءآت المضبوطة . ولكن مالثوس ( وأبا العلاء ) لم يبن نظريته على أرقام مضبوطة ، إذ كانت الإحصاآت الدقيقة مستحيلة ، فضلا عن قلة الاحصاآت العلمية المقررة فى وقته .

مالثوس يزعم فى نظريته أن سكان معظم البلاد يتزايدون بسرعة بحيث لا يمكن أن تجاريها وسائل زيادة الانتاج الذى تقوم عليه حياة الناس ؛ ولكن مالثوس وقع فى غلطتين كبيرتين . الأول أنه لم يعمل حسابا لما يحققه التقدم الصناعى المبنى على العلم من إنتاج وفير ، والثانية أنه لم يعمل حسابا للفروق الكبيرة في توزيع الثروة الحالى بين الأفراد ، بل وبين الأمم أيضا .

تطور الإنتاج في القرن التاسع عشر :

قد يصح زعم مالثوس فيما يتعلق بالنقطة الأولى ، فى القرنين السابع عشر والثامن عشر ، ولكن خطأه ظهر جليا بعد التطور الصناعى فى بداية القرن التاسع عشر ، إذ ازداد الانتاج بنسبة فاقت زيادة السكان كثيرا جدا .

ويتفق كل المؤرخين على القول بأن كل الشعوب - حتى أحطها مستوى - قد ارتفع فيها مستوى المعيشة إذا قورن هذا المستوى بما كان عليه منذ قرن ونصف قرن ، فى حين ازداد عدد السكان فى هذه المدة زيادة كبيرة فى كل أنحاء العالم .

وفيما يلي أرقام تدل على تطور الزيادة فى الانتاج العالمى فى الحديد فى القرن التاسع عشر (1) .

السنة      الكمية الناتجة ١٨٢٠١ مليون طن ١٨٤٠٢,٧    "  " ١٨١٠٧,٢    "  " ١٨٨٠١٨,١٦"  " ١٨٩٠٢٦,٧٥"  " ١٩٠٠٣٩,٨  "  " ١٩١٠٦٤,٧٦"  "

هذا مثال واحد يمكن أن يقاس عليه فى ضخامة الانتاج الذى ازداد فى القرن الماضى . وإن نحن اقتصرنا على إيراد أرقام الانتاج فى الحديد ، فذلك لأن هذه المادة تدل أحسن دلالة على تقدم الصناعة ، إذ أنها المادة الأولية لصناعة الآلات والعدد التى تستخدم لبقية أنواع الانتاج الصناعى والزراعى ؛ وعلى ذلك فمن الواضح أن كل هذه الآلات الصناعية والزراعية وآلات السكك الحديدية

والسفن الخ ، قد أدت إلى زيادة ما يعتمد الانسان عليه فى معاشه زيادة كبيرة جدا .

هذا من جهة الانتاج . ولننظر الآن إلى زيادة عدد السكان ، فنجد أنه فى حين ازداد إنتاج الحديد من مليون طن واحد إلى ٦٤ مليون طن ما بين سنة ١٨٢٠ وسنة ١٩١٠ لم يزد سكان العالم كثيرا ، فقد كانوا ١٠٠٩ مليون سنة ١٨٤٠ فأصبحوا ١،٨١١ مليون سنة ١٩٢٠ ومعنى ذلك أن انتاج المادة الأولية التى تصنع منها آلات الانتاج قد ازدادت ٦٤ ضعفا فى تسعين سنة ، في حين أن عدد

سكان العالم لم يتضاعف بعد فى ٧٥ عاما (1) ولم تصب هذه الزيادة الضخمة الناحية الصناعية وحدها ، بل أصابت الانتاج الزراعي أيضا ؛ ففى سنة ١٩٢٧ أبيد ٣/٣٠٠/٠٠٠٠ طن من القمح ، فى حين كانت المجاعة تضرب أطنابها فى مناطق أخري (1) هذا علاوة على مئات الملايين من الأفدنة القابلة لزراعة القمح والمهملة للآن ، وفى استراليا وحدها ١٥٠ مليون فدان من هذه الأراضى . هذا قليل من الأمثلة ، وفكر ذكر أمثلة أخرى كثيرة من النمو الزراعى والصناعى .

ولكن الأفضل أن نحصر كلامنا فيما يتعلق ببلادنا التى شاهدت فى القرن الأخير نهضة لا بأس بها ، فقد تضاعف انتاج القطن ثلاث مرات عما كان عليه منذ خمسين عاما ، بل هو اليوم يبلغ أربعين ضعفا لما كان عليه منذ مائة سنة ؛ ولم تأت الزيادة على حساب الحاصلات الأخرى كالقمح والذرة ، بل إن هذين المحصولين قد ازداد إنتاجهما ايضا بفضل العناية بتسميد الأرض وريها بالطرق العلمية . وقد حدث نفس الشئ فى كل بلاد العالم التى عرفت طرق الانتاج العلمية الجديدة . لكن هذا لا يعنى أن هذا التقدم

أفاد كل إنسان ، وقد نكتب فى هذا الموضوع فيما بعد .

لهذا كان من الصواب أن نقول إن كل بلاد العالم أثبتت أن نظرية مالثوس لم تصدق على القرن التاسع عشر .

تطور الثروات فى القرن العشرين

جاء على نظرية مالثوس بعد إذاعتها حين من الدهر كانت نسيا منسيا . وكانت الحكومات فى ذلك الحين تشجع الزواج والنسل ، لأن ذلك كان فى مصلحة تطور الانتاج الصناعى الذى كان فى حاجة شديدة إلى الأيدى العاملة .

ولكن ما كاد القرن العشرون يبدأ حتى توقف هذا التقدم الصناعى . وبدأت المجتمعات تتحدث عن الأزمات وعن فيض الإنتاج وظهرت جيوش من العاطلين بين العمال ، لاسيما البلاد الصناعية ، بلغ عددها عشرات الملايين بل  مئاتها . ومن ثم ظهرت نظرية مالثوس إلى الوجود مرة أخرى . وكان يجوز أن يظن غير المدققين أن سكان الأرض ازدادوا أكثر مما ينبغى ، ما دام الكثير منهم لا يجد عملا ، ولا يستطيع أن يجد قوته بسهولة ؛ ولكن الحقيقة كانت وهذا الظن على طرفى نقيض ، فقد أجمع

الاقتصاديون على أن كل أزمات قرننا التى سببت كل ذلك الشقاء ، وكل تلك التعاسة ، إن هى إلا أزمات نتجت عن فيض الانتاج لا عن نقصه فالمواد الأولية والمنتجات الصناعية ، بل والزراعية أيضا ، قد فاضت لدرجة لجأت معها بعض الدول إلى إحراق إنتاجها ، أو إهداره فى البحر ، وحرمت بلاد أخرى زراعة القمح أو القطن مخافة أن ينقص سعرها فى السوق - وحديثنا هنا ينصب على وقت السلم بطبيعة الحال - وإنى مستطيع أن أدلى هنا بكثير جدا من أمثلة إعدام المحصولات أو منع زراعتها ؛ ولا إخال القارئ لم يسمع عن إهدار القمح والبن والتبن والقطن والماشية فى كل بلاد العالم التى تنتج هذه المنتجات ، كما لا إخاله لم يسمع عن وقف المصانع الضخمة للتقليل

من الإنتاج ، يحدث كل ذلك فى الوقت الذى يجوع فيه بنو الانسان فى بلد آخر . من هذا يتضح أن الأزمات ليست أزمة فيض فى السكان ، بل أزمة فى توزيع الثروة بين الناس ، ولقد سمعنا أخيرا بنبأ ذلك العامل الذى مات بردا فى الإسكندرية ، مع أن بالبلاد القناطير من القطن المهمل .

مشكلة زيادة السكان فى مصر :

أما الغلطة الأساسية الثانية التى وقع فيها مالثوس ومن جرى مجراه ، فتتلخص فى أنهم يفرضون أن عيوب النظام الاقتصادى ونقائصه شئ لا يمكن تفاديه ، ويظنون أن الانسان يجب عليه أن يضحى فى سبيل هذه النقائص وألا يهىء النظام الاقتصادى بحيث يكون أكثر انطباقا على حاجات البشر . فهم فى ذلك مثلهم مثل الطبيب الذى

يتصدي لانقاص عدد الفلاحين المرضى بالبلهارسيا ، فينصح بالاقلال من تناسل الفلاحين ، بدل أن يحارب هذا المرض بالطرق العلمية التى تساعد الفلاح على الحياة سليما .

ولكن قد يكون صحيحا أن مصر قد وصلت فى انتاجها إلى الحد الأقصى ، فقد زاد سكانها فى أربعين سنة بنسبة ٦٠ % ، إذ كان عدد السكان سنة ١٨٩٧ ٩,٧١٤,٥٢٥ مليون نسمة ، وهم في سنة ١٩٣٧ ١٥,٩٠٤,٥٢٥ نسمة ، في حين أن مساحة الأرض المنزرعة لم تزد إلا بنسبة ٤ % ، إذ كانت ٥٨٧,٨٨٦ فدانا ، فأصبحت ٢٨٨.٦٢٢ ر ٥ فدانا . كذلك لم تزد المساحة المنزرعة حتى بعد الرى الدائم إلا بنسبة ٢٢ % ،

فقد كانت ٦.٨٤٨,٣١٦ ، فأصبحت ٨.٣٥٨,٤٩٨ ، ونقص ما يخص الفرد من هذه الحاصلات إذ اصبح ٤,٠٨ جنيهات سنة ١٩٣٧ ، فى حين كان ما يخصه سنة ١٩١٣ ٥,٥٥ جنيه . فالقول بأن مصر لم تعد تستطيع أن تغذى أبناءها ، وأنه يجب تخفيض عدد سكانها ، صحيح على فرض

أن الظروف الاقتصادية لا يمكن أن تتغير أو لا ينبغى أن تتغير . فإذا كان علينا أن نعتقد أن مصر قد كتب عليها أن تبقي إلى الأبد بلاد زراعية ، تزرع أراضيها بالشادوف الذي اخترع منذ خمسة آلاف سنة ، وإذا كان علينا أن نعتقد أن أراضى شمال الدلتا القابلة للزراعة والتى تبلغ مساحتها مليون فدان وثمانمائة ألف فدان تقريبا (1) ، لا يمكن زرعها أو لا ينبغى أن تزرع ، لأن المال اللازم

لمشروعات ريها أولى به أن يصرف فيما هو أهم ، وإذا كان علينا أن نبقى على زعمنا أن الثروات المدفونة فى باطن الأرض المصرية كالحديد والبترول والمانجانيز والزنك والذهب الخ ، يجب أن تبقى أبد الدهر تسعد بالنعاس تحت الأرض ، وأخيرا إذا كان علينا أن نظل معتقدين أن مصر لا يمكنها أن تكون بلدا صناعيا حديثا ولا ينبغى لها أن تكون - إذا كان علينا أن نظل على هذه العقائد ، فان

مصر حقا لن تستطيع أن تغدى أبناءها . ولكن العشرين عاما الأخيرة من تاريخ مصر كذبت تماما هذه العقائد وبددت كل هذه الأوهام فقد تقدمت الصناعة فى هذه الفترة ؛ ورغم أنها بدأت بداية التردد الذى نضع له أكثر من جهة واحدة العقبات فى سبيله فقد أصبحت هذه الصناعة تنتج من الثروات ما يكاد يعادل الثروات الزراعية . فمصر تنتج اليوم ما تحتاجه من الأسمنت والبنزين والأحذية والصابون ؛ كما تنتج جزءا كبيرا ما زال يزداد على مر الأيام مما تحتاجه من الملابس القطنية الخ .

ولكن برغم هذا التقدم الصناعى الذى ضاعف ثروة مصر عما كانت عليه قبل خمسين سنة فان البؤس والفقر ما زالا ضاربين أطنابهما بين أغلبية الشعب . وعلاج هذا الفقر لا يكون بانقاص عدد السكان بل يكون باستخراج الثروات الضخمة الراقدة تحت التراب والتى تستطيع أن

تغذى شعبا أكبر عددا من شعبنا المصرى هذا ، وأن تحفظ له كيانه وتضمن سعادته .

من أجل هذا يجب علينا أن نوجه اهتمامنا ، كما قال بحق الأستاذ العميد أحمد أمين بك فى مقالة المنشور بعدد الثقافة رقم ١٥٩ تحت عنوان ( كنوز فى بيت جائع ) ، إلى استخراج هذه الثروات المدفونة والتى أهملت نتيجة لتوزيع الثروة غير المناسب ، أو نتيجة لعدم اهتمام الناس ولنقص تعليم الأغنياء الذين يظنون أن الأرض هى النبع الوحيد لثروتهم ، أو نتيجة المعارضة المباشرة التى تبديها

بعض الأوساط لنهضة الصناعات وتطبيق طرق الانتاج العلمية . وإنه لمن واجب الشباب المصرى المثقف أن يجاهد عن طريق العلم والثقافة الفنية الصناعية في سبيل تحقيق مستوى مرتفع للمعيشة يتمتع به الشعب المصرى جميعا ، ذلك الشعب الذى يحس بحقه فى الحياة ، ويرى أنه ليس فى حاجة إلى وضع الحدود غير الطبيعية فى سبيل نموه

اشترك في نشرتنا البريدية