الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 311الرجوع إلى "الثقافة"

مشكلة فلسطين

Share

لا يختلف اثنان في أن الاستعمار لعب بالأمس أهم دور في خلق المشكلة الفلسطينية ، وفي تطورها بعد ذلك ؟ لكنى أخالف الدكتور فؤاد حسين فيما ذهب إليه في الثقافة ( عدد ٣٠٥ ) من أن الاستعمار اليوم يحول دون الوصول إلى حل للمشكلة ؛ كما أخالفه في قوله : " لو كان النزاع حول فلسطين قاصرا على العرب واليهود لهان الأمر " .

فقد يجد الدكتور في حوادث الأمس ، كمفاوضات فيصل مع وايزمان في ١٢ يناير سنة ١٩١٩ ، ما يبرر مثل هذا الرأي ؛ أما اليوم ، فأين الدليل على استعداد أحد الطرفين أو كليهما للتهادن والتراضي ؟

إن كراهيته للاستعمار قد اغمضت عينيه عن حقيقة الموقف في فلسطين الآن ، فخلط بين الأمس واليوم ، ناسيا أن السياسة لا تعرف جمودا - فقد وقع هذه الأيام تطوران

أساسيان قلبا الموقف في تلك البلاد رأسا على عقب فأصبحت بريطانيا اليوم مناصرة للعرب ، وأصبحت الخلافات بين الطرفين من الحدة ، ومكانة كل فريق في البلاد من القوة ، بحيث يخشى على البلاد جديا من اندلاع حرب أهلية في المستقبل القريب . ولا سبيل إلى فهم هذا الموقف الجديد فهما صحيحا إلا إذا تبينا أسباب هذين التطورين ، واقتنعنا بما تم اقتناعا لا يقبل جدلا أو حوارا

التطور الأول :

تحولت سياسة بريطانيا بين الحربين من مناصرة صريحة لليهود في أول عهد الانتداب إلى مناصرة مستترة للعرب في هذه الأيام . ويعزي هذا التحول إلى شعور بريطانيا بأن مصالحها أصبحت تتعارض وآمال اليهود

في إقامة دولة يهودية في فلسطين ، وتتفق وأماني العرب في إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ، تشترك مع جيرانها في حلف عربي قوي .

فالإنكليز اليوم يعدلون عن سياستهم التقليدية نحو اليهود التي جروا عليها قرنا من الزمان ؟ فقد كانت انجلترا منذ أوائل القرن الماضي نصيرة اليهود دوليا ، وذلك لأسباب مختلفة ، منها الدينية والعاطفية والسياسية والاقتصادية :

١ - تعلق الإنكليز أكثر من غيرهم من الشعوب الغربية بالدين المسيحي ، خصوصا في عهد الملكة فكتوريا ولليهود في هذا الدين مركز ممتاز ؛ كما أن في الكتب المسيحية واليهودية المقدسة آيات مشتركة يفسرها البعض بأنها وعد إلهي بعودة اليهود إلى وطنهم الجغرافي يوما ما ، ودعوة المؤمنين من يهود ومسيحيين للعمل على تحقيق ذلك . وقد اقتنع بعض الساسة الإنكليز بهذه الفكرة فعملوا على توجيه سياسة بريطانيا توجيها يحقق هذا الوعد .

٢ - ارتقاء الفكر السياسي في بريطانيا أثناء القرن الماضي ، فبلغ التسامح الديني والعنصري أقصاه ، واشترك اليهود في جميع مرافق الدولة ، بما فيها السياسة ، على قدم المساواة مع غيرهم من البريطانيين ، حتى كان منهم رئيس الوزارة المشهور دزرائيلي ، الذي تعتبره بريطانيا بحق من أعظم أبنائها .

أما باقي شعوب أوروبا ، فقد كان اضطهاد اليهود فيها كالبحر اللجاح ، له مد وله جزر ، وله دائما أمواج لذلك فقد اتجهت أنظار يهود القارة إلى بريطانيا ، وعطفت هذه عليهم مستهجنة ما عانوه من صنوف العذاب .

٣ - تشابه الوضع الاقتصادي للشعبين ، مما ساعد كلا منهما على فهم عقلية الآخر وتقدير دوافعه . فالإنكليز شعب يكسب رزقه بالتجارة وإقراض المال ، والتوسط في الأعمال الاقتصادية بين الشعوب والحكومات ؛ واليهود

يكسبون رزقهم بالتجارة وإقراض المال ، والتوسط في الأعمال الاقتصادية بين الأشخاص .

وقد وجد الإنكليز في اليهود خير عون لهم في هذه المسائل ، لاتصال كليهما بدوائر التجارة والمال والاقتصاد في كل بلد ، ونفوذ اليهود الكبير فيها .

٤ - اهتمام بريطانيا منذ القرن الماضي بالشرق الأوسط ، لتوسطه بينها وبين الهند ، ولوجود قناة السويس به وهي الشريان الحيوي لتجارتها . لذلك نجد السياسة البريطانية تعمل على زياد نفوذها فيه وإنقاص نفوذ غيرها ،

فقاومت كل دولة قوية حاولت التسلط عليه ، كفرنسا في عهد نابوليون ، ومصر في عهد محمد علي ؛ وانتهزت كل فرصة للزج بنفسها في شئون بلاده ، فانتهزت فرصة الاضطراب المالي في مصر في أيام إسماعيل ثم حركة عرابي في أيام توفيق لبسط نفوذها على مصر - وقد رأي المستر جوزيف تشميرلين في تعضيد بريطانيا لليهود ومساعدتها لهم على إنشاء دولة يهودية في فلسطين ما قد يوطد النفوذ البريطاني في ركن آخر من اركان الشرق الأوسط ، فتكون الدولة اليهودية في الشرق " كالصتر في إيرلندا " ، أى منطقة نفوذ بريطانية في وسط شعوب مناوئة لبريطانيا ؛ كما طلب الصهيون أنفسهم بأن تكون دولتهم مرتبطة بأوثق الروابط مع الإمبراطورية البريطانية .

كل هذه العوامل قد لعبت دورا فيما مضي في علاقة الإنكليز باليهود وفي مساعدتها لهم ، تلك المساعدة التي بلغت اقصاها بإصدار وعد بلفور المشئوم ؛ فقد كان من دوافع إصداره وقتئذ حاجة إنجلترا الماسة إلى مساعدة أمريكا المالية ، وكان الماليون من يهود أمريكا قد اعلنوا مقاطعتهم لما طرح في نيويورك من قروض لإنجلترا ،

وذلك بسبب كرههم لروسيا حليفة بريطانيا في ذلك الوقت لاضطهادها الشنيع لهم قبل اندلاع الحرب الكبرى الماضية بسنين قليلة ، وحبهم لالمانيا التي كانت وطن الملايين من

إخوانهم ، وكانت في ذلك الوقت تعاملهم معاملة حسنة . فأرادت بريطانيا بإصدارها هذا الوعد ان تجذب الملايين من يهود الطرفين إلى جانب الحلفاء ؛ كما ارادت ان توطد مركزها الجديد في الشرق العربي بأن تخلق فيه دولة جديدة تكون تابعة لها في السياسة الدولية .

لكن بريطانيا تري نفسها اليوم مضطرة إلى إعادة النظر في سياستها هذه ، بل إلى تغيير سياستها في الشرق الأوسط تغييرا جوهريا ، وذلك للأسباب الآتية :

١ - لم يلب عدد كاف من اليهود نداء بريطانيا والصهيونيين لإنشاء دولة لهم في فلسطين ، خصوصا قبل ظهور هتلر ، فلم تقم في تلك البلاد دولة يهودية قوية يمكن لبريطانيا الاعتماد عليها في سياستها في تلك المنطقة .

٢ - اقتنعت بريطانيا بخطئها في تقدير مقاومة العرب لها في أول الأمر ، كما أخطأت في تقديرها لسرعة نمو القومية العربية في الشرق الأوسط - فقد قامت فيه دول عربية فتية ، لشعوبها قومية عربية قوية وتضامن فيما بينها يزداد بمرور الأيام - وقد قوت الحرب الحاضرة هذه الشعوب من الوجهة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فوصلت دور البلوغ بعد ان كانت وقت صدور وعد بلفور في دور الطفولة .

٣ - منافسة الصناعة اليهودية الناشئة للتجارة البريطانية في الشرق ، والإنكليز يرون أنها ، ولو لم تبلغ بعد من الأهمية ما قد يقلق بالهم ، لكنها إذا حافظت على سرعة نموها هذه واستمر اليهود في هجرتهم إلى فلسطين بألوفهم وبملايينهم ، فقد تصبح في المستقبل أكبر منافس لبريطانيا في الشرق .

٤ - عطف مسلمي الهند على عرب فلسطين لاشترا كهم معهم في الدين الإسلامي ؛ ولا تريد بريطانيا عمل ما قد يغضب هذه الملايين التسعين بالهند ، لأنها تعتمد عليهم في بقاء سلطتها في تلك البلاد

٥ - اعتناق يهود فلسطين لمبادئ الاشتراكية والبلشفية ، فهم مركز الدعاية للبلشفية في الشرق الأوسط ولا مصلحة لبريطانيا في انتشار مثل هذه الأفكار في منطقة نفوذها .

التطور الثاني :

نما الشعور القومي المتطرف عند كل من العرب واليهود نموا خطيرا في الوقت الذي زادت فيه قوة كل شعب منهما زيادة كبيرة ؛ ويرجع ذلك إلي عوامل شتى : منها ازدياد عدد اليهود بالهجرة من ٤٠.٠٠ إلى ٤٠٠ ، والعرب بالتوالد من . . ٦٠٠ إلى ١,١٠٠٠ ؛ ونجاح اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين في بناء الوطن القومي نجاحا منقطع النظير ، مما زادهم تحمسا له والعرب تجهما ضده ؛

وتسلط اليهود الاقتصادي علي فلسطين بفضل علمهم ونشاطهم والمائة المليون من الجنيهات اليهودية التي دخلت البلاد بين الحربين ؛ والنهضة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي عمت الشرق العربي كله في زمن قصير ،

والتي سرت عدواها إلي عرب فلسطين فطالبوا باستقلال كاستقلال جيرانهم ولو كان مبتورا ؛ وانتشار التعليم بين العرب مما زادهم إدراكا لمصالحهم الحقيقية ، ومقاومة لكل مغتصب لها ، ودربة ونظاما  وقوة في تلك المقاومة ! واضطهاد اليهود في اوروبا اضطهادا زاد عطف العالم عليهم وزود الصهيونيين بسلاح ماض وحجة قوية ؛ ونجاح العرب نجاحا جزئيا بثورتهم المسلحة ضد الاستعمار والصهيونية ،

فلفتوا الأنظار إلي قضيتهم ، واقنعوا جانبا مهما من الرأي العام الدولي بعدالة مطالبهم ، واضطروا بريطانيا إلي إعادة النظر في سياستها نحوهم ؛ إلى غير ذلك مما لا يتسع المكان أو الزمان لسرده .

لقد زادت هذه العوامل الهوة بين الفريقين اتساعا ، حتى أصبح لتطاحنهما المقام الأول في المشكلة بعد أن

كانت تدور حول الاستعمار والتخلص منه ، وأوجس الكل خوفا مما قد يجره الخلاف بينهما من عواقب وخيمة على البلاد . فالحرب الأهلية تهدد اليوم فلسطين تهديدا لاشك فيه ؛ وقد انتهز كل فريق فرصة الحرب القائمة فراح يستعد لها ، فتطوع أبناؤه في القوات المتحالفة للتدرب على استعمال الأسلحة الحديثة

لقد تطورت المشكلة إذا من خلاف على استقلال فلسطين بين العرب والإنكليز لعب فيه اليهود دورا ثانويا ، إلى خلاف على امتلاك فلسطين بين العرب واليهود .

لقد جنت الجغرافيا علي التاريخ في فلسطين ، فمركزها على عتبة الشرق قد جعل منها ، طيلة هذه القرون كلها ، ممرا لكل فاتح ومقرا لكل استعمار ؛ مثلها في تاريخ الشرق القديم والجديد مثل بلجيكا في تاريخ اوروبا الحديث - فقد تداولتها ايدي الفراعنة ، فالبابليين ، فالأشوريين ، فالفرس ، فالإغريق ، فالرومان ، فالعرب ، فالاتراك ، فالفرنسيين ،

فالمصريين ، فالأتراك ، حتى استقرت أخيرا بعد الحرب الماضية في أيدي البريطانيين - وكان الفاتح في كل عهد يتوخي في حكمها مصلحته الذاتية فقط ، فلم تكن للشعوب المغلوبة وقتئذ حقوق ، بل كانت الحقوق الدولية وقفا على الشعوب القوية .

أما اليوم ، فلأول مرة في التاريخ الطويل يجد المستعمر لفلسطين ان من مصلحته ان يعمل على استقلال الكثرة من اهلها ويوجه سياسته لتحقيق ذلك وقد تكون هذه الفترة فترة انتقال بين استعمارين ، الاستعمار البريطاني والاستعمار الامريكي ، فقد خرج الامريكان عن عزلتهم القديمة وأعلنوا ، في جرأة غريبة ، عن تعضيدهم لليهود في فلسطين تعضيدا كاملا شاملا - ولا تقتصر الدوافع لهذه السياسة الجديدة على محاولة إرضاء اليهود الامريكان الذين لهم نفوذ كبير في السياسة والاقتصاد ، بل تعزي أيضا إلي خروج أمريكا من عزلتها القديمة ، واهتمامها اليوم بالشرق الاوسط ،

لما فيه من زيت لمصانعها ، وأسواق لبضائعها ، ومراكز لطائراتها وسفنها ، إلى غير ذلك ؟ وهي تعتقد خطأ انها تستطيع ان تخلق لنفسها نفوذا فيه وتعارض بذلك نفوذ بريطانيا ، إذا هي انتصرت لليهود واقامت لهم دولة في فلسطين ، كما ان بريطانيا تنتصر للعرب ولا تعارض في تكوين حلف لهم .

إن مستقبل العالم العربي كله يتوقف على مبلغ استعداد الشعوب العربية لانتهاز هذه الفرصة ، فان احسن انتهازها كتب للشرق العربي مستقبل كله أمل .

اشترك في نشرتنا البريدية