الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 310الرجوع إلى "الثقافة"

مصارف الأنسجة

Share

في مصارف الأموال نودع ما فاض من أموالنا ، وما نخاف عليه من غالي الثمن ليكون في أمان . وإيداع كل ذلك امر هين على من يودعه ، كما أنه لا يحتاج من رجال المصرف اكثر من أخذ الحيطة والحذر وقد طلعت  الحرب علينا بالتفكير في إنشاء مصارف من نوع جديد ،

تضطرنا إليها ظروف الحرب القاسية ، وهذه هي مصارف الأنسجة ؛ فيها تتكدس الخلايا لتسحب منها وقت الحاجة وتسحب لحساب من يفتقر إليها دون أن يكون له رصيد قد وضعه في هذا المصرف من قبل وما أشد الحاجة إلى مثل هذه المصارف التي قد يسحب ما تكدس فيها من أنسجة بصك تسجله شظية في جمع حافل أو قوة تقاتل

ومصرف الأنسجة ما زال في بدايته ؛ إذ يحتاج إلي الكثير من اليقظة والحيطة وشدة الحيلة ، وما ذلك إلا لأننا نضع في هذه المصارف أنسجة حية تتنفس وتخرج ، ولذا تحتاج إلى بيئة خاصة تساعدها على البقاء .

خزائن الدماء .

وأول هذه المصارف وأقربها إلى اذهاننا مصارف الدماء ، فحوادث النزف أكثر من أن تعد ، فيها يتعرض المصاب لفقد جزء كبير من دمه . ولما كان المتطوع لا يكون دائماً على قدم الاستعداد لبذل دمه . فكروا في أخذ جزء من دمه وحفظه طازجا بإضافة كيمائيات خاصة ، ثم وضعه بعد ذلك في مبردات تحفظه إلى أجل بسيط ؛ فإذا ما أريد إسعاف مصاب بنقل الدم إليه ، أمكن إجراء العملية بأخذ دم محفوظ.

وكانت الطريقة القديمة أن ينقل الدم بجميع عناصره من كربات حمراء وبيضاء وبلاسمة وغير ذلك . وقد وجد حديثاً أن هذا إسراف لا مبرر له . فالشخص المصاب إما أن يعاني فقراً في الدم ، وفي هذه الحالة فهو يفتقر إلى الكربات الحمراء ، وإما أن يكون قد أصيب بصدمة فهو محتاج إلى البلاسمة ؛ لذا وجب أن يكون الدواء على قدر الداء

ولما كان فقر الدم ناتجاً من نقص في الكريات ، تلك الخلايا التي تقوم بحمل الأكسجين إلى أنسجة الجسم ، فقد لجأ الطب لإيداع الكريات في مصارف لتنقل إلي من يفتقر إليها . وهذه الكريات توضع في خزائن ،

ولكنها خزائن من زجاج تتكدس فيها الكريات تكدس العملة ، يحيطها في الزجاج سائل مالح تركيزه كتركيز البلاسمة في الدم ؛ وتوضع الزجاجات في مبردات وتبقى لمدة أسبوع ، ويمكن استخدامها خلال هذه المدة . وقد نقلت كريات الدم المحفوظة في سائل صناعي لأشخاص أصيبوا بنزف شديد ، ووجد أن هذا النقل كفيل بشفاء المريض في مدة أقصر مما لو عولج بنقل الدم بجميع عناصره .

فالمصاب يحتاج إلى ستة أسابيع في هذه الحالة الأخيرة ليتغلب على أعراض فقر الدم ؛ أما إذا نقلت له الكريات فقط فإنه يشفى بعد بضعة أيام . ولا شك أن توفير ذلك

للقوات المحاربة سيؤدي إلي سرعة شفاء من أصيبوا بنزف  شديد . ويتميز قصر النقل على الكريات الحمراء باقتصاد وتوفير لعناصره الأخرى التي توجد في البلاسمة . فالمقدار الذي يؤخذ من متطوع قد نشتغله لإنفاذ شخصين ؛ إذ تنقل الكريات لشخص مصاب بأنيميا ، بينها ننقل البلاسمة لشخص مصاب بصدمة عصبية . وقد وجدا أيضاً  أن نقل الكريات الحمراء يفيد في جميع أنواع الأنيميا

وتفصل الكريات من البلاسمة بواسطة آلة طاردة مركزية (Centrifuge) ، إذ ترسب الكريات وتبقى البلاسمة التي يمكن فصلها بعد ذلك . وتفيد البلاسمة في حالة الصرعة  والخوف والإصابة بحرق شديد ولأن مثل هذه الأحداث تسبب امتصاص الخلايا لبلاسمة الدم ، ويسبب ذلك خللا في حركته  فيؤدي هذا بدوره إلي اختلال في جميع الوظائف ، ولذا يعالج المصاب بنقل البلاسمة حتى يحوي الدم سائلاً يكفي  لحركة خلاياه

وليس من الغريب أن يفاجئنا العلم باستخدام سائل ملحي لمعالجة أثر الصدمات التى كثيراً ما تؤدي إلي متقاع  لوننا وهنا ليس بالحديث علينا ؛ "قطاسة الخضة" معروفة للجميع ، فإذا ما خاف الطفل من شئ يهاجمه فسرعان ما نسعفه بجرعة من الماء ، وما ذلك إلا لأن الأنسجة في حالة الخوف تمتص من الدم ما يحتويه من ماء ، ونقل حركة الدماء ،

فشرب الماء يعوض هذا النقص . وعلى هذا لا يدهش  القارئ إذا وصف الملح علاجاً لما تحدثه الصدمات العصبية  من أثر في الجسم ويشترط في هذا المحلول أن يكون في تركيزه قريباً من تركيز البلاسمة . وقد جرب ذلك على الجرذان ، فوجد أنها إذا أصيبت بحروق ثم اعطي بعضها جرعة من محلول الملح ، فإنه يؤدي إلي زيادة نسبة من ينجو من الموت ، وإذا زيد في مقدار الجرعة على فترات زادت نسبة النجاة . فإعطاء جرعتين الأولى بعد ساعة

والثانية بعد أربع ساعات من إصابة الجرذان بالحرق أدي إلي النتيجة الآتية :

من عدد مائة جرذ أصيبوا بحروق نفق منها ثلاثة عشر في اليوم الأول ، وسبعة عشر في اليوم الثاني ، بينما في حالة الجرذان التي لم تعط أية جرعة نفق منها ثلاثة وتسعون .

خذائن الأعصاب

أما وقد أصبح الدم ميسوراً تخزينه ، وما هو إلا خلايا تعيش في سائل يحملها ويحجبها ، فلماذا لا يطبق نفس التخزين على غير الدم من أنسجة ؟ وما قول الأعصاب في ذلك ؟ لقد لاح في الأفق القريب شعاع من الأمل يفتح لنا الطريق نحو تحقيق ما نصبو إليه من تخزين بعض من أعصابنا  وعظامنا . ولكن كيف الحصول على جزء منها مهما صغر مقداره ؟ إنها على قدر معلوم ، ولا غني لنا عن فتيلة منها .

ولكن إذا عرف القارئ أن في كثير من العمليات الجراحية تستأصل أجزاء يلقى بها دون أن يستفاد منها . مع أنها أنسجة غالية ، زالت دهشته . والآن قد يكون منها مصرف نأخذ منه معيناً يكون فيه إنقاذ لمن  يصيبهم حادث .

وهذه المصارف ستحوي خزائن ، بها أجزاء صغيرة من الأعصاب والعظام وأربطة العضلات في أحجام مختلفة لتسد جميع الحاجات ، ولتعوض نقصاً في جسم المصاب . ولقد تمكن العلماء من تحقيق الأمل في تخزين الأعصاب .

وما زال العلم يجاهد في الوصول إلي تخزين ما سواها من الأنسجة ، وقد وصلت خزائن الأعصاب إلى الجرذان والقطط والقردة . وإننا ننظر إلى المستقبل القريب عند ما تخزن أعصاب البشر وما أحوجهم إلي ذلك !

وبطل هذا البحث عالم الحيوان الدكتور يول قابس بجامعة شيكاغو . فقد كون مصرفاً للأعصاب الحيوانية بمعمله ، وهذا المصرف بتلخص في مجموعة من المخابير

الزجاجية المحفوظة في مبردات ، وفي كل مخبار أنابيب صغيرة مقفلة من جهتيها ، وفي كل قطع صغيرة من فتائل ملتوية جيرية اللون ، تبلغ ما يقرب من سنتيمتر ؛ وهذه القطع البيضاء إن هي إلا أجزاء متجمدة من أعصاب مجففة أخذت من جرذان أو قطط أو قردة ، وهذه الأجزاء تخزن إلي أجل بعيد دون أن يصبها تلف . والتطعيم بهذه الاجزاء يحتاج إلي مهارة كبيرة حتى يوضع الجزء في مكانه تماماً ،

وبحيث تقابل أطراف القطعة العصبية أطراف العصب المصاب . ويشترط أن يكون الطعم مأخوذا من حيوان من نفس النوع حتي يلتئم العصب وينمو ، كما هو الحال في العصب الحي

وتعد الأعصاب لتخزينها بأن تجمد وتجفف ، فتزال الأعصاب من الجسم في جو خال من الجراثيم ، ثم تغمس  في أزوت سائل في درجة ١٩٥ م تحت الصفر . وبهذه  الطريقة تتجمد الأعصاب فجأة ، ثم تنقل إلى فراغ تام باستخدام مضخة التفريغ ، ويكون التفريغ مصحوباً بالتجفيف بوساطة خامس أكسيد الفسفور في درجة ٤٠ م تحت الصفر ، وبعد ذلك تكون قطع الإعصاب معدة للتطعيم.

وقد عرف التطعيم بالعصب منذ الحرب الماضية ، ولم تكن النتائج منسجمة في هذا الوقت ، وقد أوصي بها جراحو بريطانيا كآخر ما يلجأ إليه الجراح لإسعاف المصاب . وكانت العقبة في ذلك الوقت عدم الحصول علي الأعصاب بمقياس معين يتفق تماماً والعصب المصاب ، كما أنهم لم يتمكنوا من حفظ العصب بطريقة التبريد والتجفيف كما هو الحال الآن .

وإذا تمكن الدكتور قايس من إجراء عملية التنظيم للإنسان باستخدام أعصاب أعدها بطريقته ، فقد يساعدنا ذلك على التغلب على الخطوة الأولى من هذه العملية . أما الصعوبة الثانية فهي إصلاح ما أصاب العصب من قطع

أو تهتك ؛ فالذي يحدث عند حدوث قطع في العصب ، أن نهاية القطع التي نحو المخ تنمو منها زوائد دقيقة ليفية ، إذ تبقى حية ، أما الطرف الآخر فإنه يموت ، فاذا تمكنت هذه الألياف من أن تقابل الطرف الحديث وهو البعيد عن المخ  فإن الألياف الدقيقة تستمر في نموها حتى تصل إلي نهاية العصب المصاب ، ويتم اتصال هذا النمو الحديث بعصب ىخر يكون سليما ، وبذلك يضمن استمراره التيار العصبي دون انقطاع

ولما كان العصب ينمو دون توجيه معين ، فإنه إذا لم يقابل طرف العصب الآخر فسرعان ما تنمو الإنسجة المحيطة بالجزء المصاب وتسد الثغرة ، فلا تجد الألياف المتكونة طريقها إلى نهاية العصب . وإيجاد نهاية الأعصاب وتطعيمها ليس بالأمر الهين ، حتى ولو استخدم الجراح  المجهر ، فقد يخطئ الموضع ، إذ أن نهاية الألياف من الدقة بحيث لا يمكن رؤيتها حتى بالمجهر . وقد تغلب قايس على هذه الصعوبة باستخدام قطعة من شريان دقيق ، ويكون عملها كعمل أنبوبة المطاط التي تصل أنبوبتين من الزجاج

وقد أدى استخدام الأنبوبة الشريانية إلى مساعدة الألياف على إيجاد طريقها نحو الطرف الميت من العصب المقطوع ، ووجد أن الأنبوبة الشيرانية تعمل كنفق يتجمع فيه ما يفرزه الطرف الحي من العصب من سائل يساعد على نمو الألياف وأغلفتها ؛ كما تمتاز هذه الطريقة بأن الشريان ينكمش فيقرب طرفي المصب المقطوع ، ويضيق الشريان  بتجلط ما به من دم فيزيد ذلك في ضيق النفق ويساعد على توجيه الألياف النامية نحو الطرف الآخر من العصب

وقد استخدم بعض الجراحين في بريطانيا بلاسمة الدم لتقوية طرفي العصب بدلا من الخياطة ، كما استخدموها لتثبيت الطعم في مكانه . وسواء كان هذا أو ذاك فكلها عمليات ما زالت في فجرها ، وما زال العالم ينتظر تقدمها

وتطبيقها . وإن غدا لناظره قريب

اشترك في نشرتنا البريدية