الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 240الرجوع إلى "الثقافة"

مصرع الفاشستية

Share

في الوقت الذي كادت الجيوش المتحالفة تتم فيه فتح صقلية ، وتقترب من شواطئ إيطاليا الجنوبية ، حدث انقلاب خطير في الجبهة الإيطالية الداخلية : ذلك هو تخلى السنيور موسولينى عن الحكم الذي تولي زمامه زهاء إحدي وعشرين عاماً ، وقيام حكومة إيطالية جديدة على رأسها المارشال بادوليو ، وتولى ملك إيطاليا القيادة العامة لجميع القوات الإيطالية المسلحة ، بدلا من " الدوتشي " الذي لبث طوال هذه المدة يستأثر بالحكم والزعامة والقيادة المطلقة .

واختفاء السنيور موسوليني من الميدان السياسي والعسكري في تلك الآونة العصيبة التي تجوزها إيطاليا . هو بلا ريب حادث جلل في تاريخ إيطاليا المعاصر ، بل لعله أعظم حوادث التاريخ الإيطالي مذ قامت الفاشتية في إيطاليا ؛ فهو في الواقع خاتمة للعهد الذي اقترن باسم

الرجل الذي لبث يسيطر على مصاير إيطاليا والشعب الإيطالي زهاء ربع قرن ، والذي شهدت فيه إيطاليا الحديثة أعظم انقلاب في حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية .

وإنه ليجدر بنا قبل أن نحاول أن ندرس مقدمات هذا الانقلاب الخطير في الجبهة الإيطالية الداخلية ، وما قد يترتب عليه من النتائج المحتملة أن نقول كلمة عن الرجل الذي يودع باختفائه من الميدان عهداً من أعنف العهود ، وأحفلها بالحوادث الجسام ، وعن النظام الذاهب الذي ينبذه الشعب الإيطالي اليوم راضياً مستبشراً .

نشأ بنيتو موسوليني ، الذي يبلغ اليوم الستين من عمره ، في بيئة شعبية محضة ، فهو ابن حداد من قرية من قرى إقليم فورلي ؛ وتلقي تربية ابتدائية متواضعة ، واشتغل مدى حين حداداً في حانوت أبيه ، ثم معلماً وعاملا وصحفياً ، وكان قد ورث عن أبيه حب المبادئ الاشتراكية والثورية ؛

ففي سنة ١٩١٠ أنشأ في فورلي صحيفة اشتراكية أسبوعية عنوانها " نضال الطبقات " وسجن مرارً من أجل كتاباته ؛ ثم تولي بعد ذلك تحرير جريدة " أفانتى" Avanti الاشتراكية الشهيرة في ميلان . ولما نشبت الحرب الكبرى كان يدعو أولا إلى حياد إيطاليا ، ثم دعا بعد ذلك إلي تدخلها إلي جانب الحلفاء ، فكان ذلك سبباً في إخراجه من الحزب الاشتراكي . وعندئذ أنشأ جريدة "بوبولو ديتاليا " ( الشعب الإيطالي ) وقام على تحريرها .

ولما دخلت إيطاليا في الحرب إلى جانب الحلفاء تطوع موسوليني في الجيش جنديا ، وجرح أثناء القتال ؛ ثم ترك خدمة الجيش في أواخر الحرب ، وعاد إلى تحرير جريدته وعكف على محاربة روح المسالمة والاستكانة . ولما انتهت الحرب وبدأت الاضطرابات الاشتراكية تغمر إيطاليا وتشل الإضرابات المتواصلة حياتها الاقتصادية ، نشط موسوليني إلي تنظيم حركة وطنية لمقاومة الثورة الاشتراكية ،

وساعدته الظروف السائدة يومئذ على حشد جماعات كبيرة من الأنصار . وفي مارس سنة ١٩١٩ ، أنشأ " الهيئة الفاشستية " وقام على تنظيمها وتوجيهها . وكان تقدمها بطيئاً في البداية ، ولكنها ما لبثت أن استمالت إليها كثيراً من طوائف العمال ، وأخذت تعمل على مقاومة الإضرابات والفوضي الصناعية . ثم أخذت الدعاية الفاشستية تتسرب إلى الجيش وتغزو وحداته وصفوفه ؛ ولم تلبث الحركة أن عمت إيطاليا من أقصاها إلي أقصاها . وفي أواخر سنة ١٩٢٢ عقد الفاشستيون اجتماعاً عظيما في نابل ، ثم سارت منهم جموع كبيرة مسلحة إلى رومة وأحاطت بها ؟ وعندئذ بادر الملك فكتور إيمانويل بإقالة وزارة السنيور فاكنا التي كانت قائمة في الحكم ، واستدعي موسوليني واللجنة الرباعية الفاشستية المؤلفة من الجنرال دي بونو ، وشيزاري دى قكيو ، وإيتالو بالبو ، ومكيلى بيانكي ، للقيام بتأليف الوزارة الفاشستية . وكان ذلك في ٣٠ اكتوبر سنة ١٩٢٢ .

ومن ذلك الحين تسيطر الفاشستية وزعيمها موسولينى على مصاير إيطاليا والشعب الإيطالي . ومن ذلك الحين

تتخذ الفاشستية مكانتها بين الحركات الانقلابية المعاصرة ، وتقوم بتنفيذ برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي بمنتهي القوة والنشاط ، وتعمل على إقالة إيطاليا من عثراتها والنهوض بها شيئاً فشيئاً إلي المركز الدولي الذي تحلم باحتلاله منذ بعيد إلي جانب الدول العظمى .

وليس من موضوعنا أن نتحدث عن الفاشستية كمذهب سياسي واجتماعي . ويكفي أن نقول إنها تدعو إلى إحياء الروح الروماني القديم وإحياء مجد الإمبراطورية الرومانية ومثلها الاعلى  إنشاء مجتمع تسوده النزعة الروحية ، وتنحصر فيه الزعامة والقيادة في جماعة من الصفوة الممتازة يستأثرون بمناصب السلطة والمسئولية . والفاشستية لا تؤمن بإرادة الشعب ولا بسيادة الأمة ، وتري أن الحرية مسألة نسبية تمنحها الدولة بالقدر الذي تراه ،

وأنها ليست حقاً مطلقاً للفرد ؛ وهي تعتبر الزعامة مسألة مقدسة وتري فيها أفضل ضمان للحكومة المثالية .

والفاشستية من الناحية الاقتصادية تقوم على الفكرة النقابية ، وتعارض الاشتراكية والرأسمالية معاً ، وتقتبس من المذهبين ما يوافق غاياتها . وأما من الناحية الدستورية فان الحزب الفاشستي ( و كذلك المليشيا الفاشستية ) يعتبر هيئة رسمية ، وهو الحزب الوحيد المصرح به في إيطاليا ، وهو كل شئ في الدولة والحكومة ، ومن أعضائه يتكون المجلس الفاشستي الأعلى والبرلمان الإيطالي بمجلسيه ، وهو برلمان من نوع خاص ، يسيره الحزب والزعيم وفق رغباته ، ولا يتمتع بشيء من الضمانات الدستورية المعروفة .

وقد استطاعت الفاشستية ، بالرغم من وسائلها الدكتاتورية العنيفة ، في الأعوام الإحدي والعشرين التي عاشتها ، أن تحقق لإيطاليا كثيراً من الأعمال والمشاريع العمرانية ، ولا سيما في تخطيط المدن ، وإنشاء الطرق والسكك الحديدية ، والترع ، والمصارف ، والمساكن الصحية ، والمستشفيات ، والمنشآت الاجتماعية ؛ وكان اثرها بارزاً بالأخص في العمل علي تحسين الإنتاج الزراعي والصناعي ، وتنظيم الشعب الإيطالي ، والنهوض بمستواه

الاجتماعي والصحي والثقافي والأدبي . ولكن هذه المزايا المادية التى حققتها الفاشستية بوسائلها الخاصة تبدو ضئيلة بالقياس إلي الثمن الفادح الذي دفعته إيطاليا والشعب الإيطالي في سبيل اعتناقها وتدعيمها ؛ فقد قضت الفاشستية على سائر الحقوق والحريات العامة ؛ وخلقت من الجيل الإيطالي الجديد شعبا عبداً لا رأي له ، وبثت إلي نفوس الشعب الإيطالي كثيرا من عواطف الغرور والكبرياء المرذولة والأماني المغرقة ، حتى غدا يتصور لنفسه منزلة السيادة بين الأمم ، وغدا يتصور انه سيعيد مجد الإمبراطورية الرومانية ، ويستعيد ما كانت تملك من أقطار في الشرق والغرب . وكانت إيطاليا في ظل هذا السراب الخادع تملأ العالم قبيل الحرب بدعاويها وصيحاتها ووعيدها ، وكان العالم المخدوع في حقيقة أمرها يهتز لهذه الصيحات . وفي ظل هذا الوعيد وهذا التظاهر بالقوة ، استطاعت إيطاليا الفاشتسية أن تحقق بعض مطامعها الاستعمارية بغزو الحبشة وألبانيا . غير أن أمانيها لم تكن تقف عند هذا الحد المتواضع ؛ فقد كانت لها اطماع محققة في امتلاك مصر وتونس وسوريا وتركيا واليونان وغيرها ؛ وقد دخلت الحرب وهي تضطرم بهذه الأماني الإمبراطورية العريضة ، وتظن تحقيقها أمراً ميسوراً .

وسلكت إيطاليا الفاشستية في السياسة الخارجية مسلكا عنيفا يتفق مع مثلها ووسائلها ، وعمدت إلى انتهاز الفرص بأي الوسائل جرياً علي سياستها التقليدية فغزت الحبشة بالرغم من جميع العهود التي قطعتها . ولما تألق نجم الهتلرية في ألمانيا ، وشعر موسوليني بخطر الدولة الجرمانية الجديدة ، لم يحجم عن التضحية بالنمسا في سبيل مصادقتها ، وعقد التحالف الإيطالي الألماني الذي عرف فيما بعد " بالمحور " واحتلت إيطاليا ألبانيا ، وأعطيت قسما

من أسلاب تشيكوسلوفاكيا الحربية ثمنا لصداقتها . ودخلت  إيطاليا الحرب الحاضرة إلى جانب ألمانيا ، تشاطرها أحلامها الإمبراطورية الضخمة ؛ ولكنها اليوم بعد أن ذاقت أهوال الحرب أكثر من ثلاثة أعوام ، تري نفسها ، وقد فقدت

جميع أملا كها الإفريقية ، ومزقت جيوشها شر ممزق ، وتري جيوش الحلفاء وقد غزت صقلية ، واخذت تدنو من شواطئها ، وأخذت أسرابهم الجوية تمطر مدنها وابلا من النار والدمار .

والآن وقد استعرضنا سيرة زعيم الفاشستية الذاهب ، وخلاصة النظام الذي أنشأه ، وسيقت إيطاليا إلى الحرب في ظله ، نعود فنلقي نظرة على الظروف التي تم فيها الانقلاب الإيطالي الأخير ، وعلى النتائج التي يمكن أن ترتبها عليه .

إن كل ما هنالك يدل على أن استقالة موسوليني أو بالحري إقالته ، ليست خاتمة لزعامة " الدوتشي " فحسب ولكنها أيضا خاتمة للنظام الذي منيت إيطاليا في ظله بتلك المحن الخطيرة ؛ فمن المعروف أن المارشال بادوليو هو زعيم الكتلة المعارضة لموسوليني وسياسته الخارجية ، التى جعلت من إيطالياشبه مستعمرة ألمانية تحتلها القوي النازية باسم الحلف المحوري ، وأن العرش الإيطالي الذي سلبه

النظام الفاشستي كل حقوقه وامتيازاته ، كان من وراء هذه الكتلة المعارضة يؤازرها ، ويتترقب الفرصة للعمل معها ؛ وقد سنحت هذه الفرصة بعد أن توالت الهزائم المؤلمة على الجيش الإيطالي ، وفقدت إيطاليا إمبراطوريتها الإفريقية وانقضت عليها الجيوش المنتصرة تغزو أرضها ، وتثخن أسرابها الجوية في مدنها ، وقد كان لذلك بلا ريب أثره العميق في نفوس الشعب الإيطالي ، وفي قواه المعنوية ، وفي نظرته للنظام القائم ؛ وهكذا يقع الانقلاب الجديد في الجبهة الداخلية الإيطالية في وقت أصبح الشعب الإيطالي يرى فيه سبيل النجاة في التخلص من الفاشستية وزعمائها الذين ألقوا به إلي هاوية لا قرار لها .

ولم يبق شك في أن الفاشستية تلقي مصرعها على يد السلطة الجديدة ، فقد صدر قرار بحل الحزب الفاشستي وأزيلت الشارات الفاشستية في جميع أنحاء إيطاليا , وأدمجت " المليشيا " الفاشستية في الجيش ؛ وقد كانت

هذه المليشيا التي تضم نحو ثلاثمائة ألف من خيرة الجند المدرب ، دعامة النظام ودعامة الحزب الفاشستي .

وفي الوقت الذي تنهار فيه الفاشستية إلى غير رجعة تتحرك الأحزاب الديمقراطية القديمة من سباتها الطويل ، وتتحفز لاستئناف نشاطها الذي قبرته الفاشستية بوسائلها العنيفة أعواماً طويلة ، وتتري المظاهرات والمنشورات في طول البلاد وعرضها مهللة بزوال النظام الذي صفد الشعب الإيطالي جسما وروحا مدى إحدي وعشرين عاما .

والواقع أن انهيار النظام الفاشستي نتيجة طبيعية للانقلاب الجديد ، فإيطاليا المنهزمة الجريح تحاول أن تجد سبيلا للخلاص قبل تفاقم الهزيمة ؛ وقد أكد زعيما الدول المتحدة مستر تشرشل والرئيس روزفلت في ندائهما الذي وجهاه إلى إيطاليا قبل الانقلاب بأيام قلائل ، أن الدول المتحدة لا يمكن أن تفاوض إيطاليا أو تهادنها ما بقي لنظام الفاشستي قائما فيها ؛ وسواء أكان لهذا النداء أثر في حدوث الانقلاب أم لم يكن ، فإن وقوع الانقلاب في هذه الظروف ، دليل على اقتناع الشعب الإيطالي بأن تحطيم الفاشستية هو أول خطوة يجب اتخاذها لتمهيد السبيل لخلاص إيطاليا من محنتها .

  أما الخطوة التالية التي يمكن أن تترتب على وقوع هذا الانقلاب فما تزال موضع الحدس ، وليس في بيان ملك إيطاليا وبيان المارشال بادوليو ما يدل على أن إيطاليا تعتزم وقف الحرب في الحال ، والقتال ما يزال دائرا في صقلية على أشده ؛ وتؤكد الإذاعة الألمانية كما تؤكد جريدة " فلكشر بيوباختر " وهي التي تنطق بلسان هتلر ، ان إيطاليا ستبقى رغم الانقلاب وفية لعهودها ، وستمضي في الحرب إلي جانب حليفتها ؛ ومن جهة أخري ؛ فإنه ليس في بيان مستر تشرشل الذي ألقاء في مجلس العموم عن الحوادث الإيطالية ما يدل على تفاؤل الحكومة البريطانية من هذه الناحية . وما يزال مستر تشرشل ينذر إيطاليا بأن الحرب سوف تجتاح أراضيها حتى تنفصم عن حليفتها ألمانيا عدوة بريطانيا الأولى . ومع ذلك فقد

استقبلت دوائر لندن وواشنطون الانقلاب الإيطالي بابتهاج واضح ؛ وقد يكون لهذا الابتهاج ما يبرره ، إذا صح ما يتوقعه البعض من أن هذا الانقلاب إنما هو تمهيد لانسلاخ إيطاليا من الجبهة المحورية ، وخروجها من الحرب ، وسعيها إلي عقد هدنة مستقلة مع بريطانيا وأمريكا .

وهذا ما تشير إليه بعض الأنباء في الواقع ، إذ يقال إن مفاوضات الصلح المستقلة بين إيطاليا والحلفاء قد بدأت بالفعل ، وأن الفاتيكان هو الذي يتولى أمرها . ومن الواضح أن نجاة إيطاليا من الهزيمة المطلقة والدمار الشامل تقضي عليها بسلوك مثل هذا الطريق ؛ ومع أن دوائر لندن وواشنطون ما تزال تؤكد بأن انهيار الفاشستية لا يغير موقفها في وجوب التسليم بلاقيد ولا شرط ، فإن بلا ريب ترحب بمثل هذه الخطوة من جانب إيطاليا ؛ هذا من جهة ، ومن جهة أخري فإن انهيار الجبهة الفاشستية في إيطاليا لابد أن يحدث أثره النفسي في ألمانيا وفي الجبهة النازية الداخلية ، وقد يكون فوق ذلك نذيراً بتصدع الجبهة المحورية العسكرية ، وهو ما يقرب أجل الحرب ، ويقرب أجل النصر الذي تنشده الأمم المتحدة .

اشترك في نشرتنا البريدية