على الرغم منى أعود إلى التفكير فيك، وعبثا أحاول أن أصرف فكرى إلى حديث غير حديثك، وذكر غير ذكرك..
ولماذا أصرف فكرى عنك؟.. ألأني آلم اذ أفكر فيما تعانين، وما قد عانيت على مر السنين؟ ألم تعد فى النفس بقية من الشجاعة؛ فأقابل بها الحقيقة؛ وان كان أعذب ما فيها علقما مريرا؟..
ألعلي أخشى إن أدمنت التفكير فيك، أن أكون أبدا مقطب الجبين، سجين الكآبة، ثائر الفؤاد؛ لا أستقر على قرار، ولا أعرف للحياة لذة: فلا يبسم لى ثغر، ولا تقر لى عين؟
لماذا أصرف الفكر عنك؟ ألأنى رويت من نميرك، وغذيت من ثراك، ونشقت من نسيمك، ورتعت فى رياضك، وأظلنى دوحك، وأطربنى شدو غناء أطيارك. وهدانى بدرك المنير الى سر الجمال، وسماؤك الصافية الى وحى الخيال، ونجومك اللامعة إلى جلال الكون، وشمسك المشرقة إلى قدرة الخالق؟ مع هذا أحاول أن أصرف فكرى عنك؟ فأى عقوق هذا العقوق؟ وأى جحود هذا الجحود؟
أى مصر | لقد كنت من قبل عظيمة جليلة. كنت من قبل ورأسك يسامى النجم. وقد ترامت على أقدامك الأمم؛ لتقتبس منك النور؛ وتلتمس منك الهداية. لقد كنت وفى كفك الهائلة صولجان من الذهب ذو كرة مشرقة لامعة. يوم أن كانت الشعوب الأولى فى ظلامها الحالك؛ ما لها موئل غيرك؛ يوم لا نور إلا نورك؛ ولا هدى الا هديك.
كانت فى كفك كنوز الحضارة؛ وكنت تنثرينها بسخاء؛ للقريب والبعيد. فباتوا وهم أغنياء بما التقطوا من خيراتك، وما اقتبسوا من هباتك.
ثم حالت الحال، فأمسيت وقد تحطم الصولجان، وكسر الجناح وانتهك الحمى! وذل الأنف العزيز وانسكب الدمع العصى!!
فماذا دها الكون؟ وأى اصبع قد أدارت الفلك تلك الدورة الهائلة، حتى قلبته رأساً على عقب؟.. يقولون انك قد عقمت!.
عقمت فأصبحت لا تلدين الأحرار، ولم يعد ثراك ينبت الأبطال! أجل يزعمون أن تربتك لم تعد تخرج إلا الزعانف والقزم: الذين همهم من العيش شهواتهم. ويعيشون فوق ثراك كالحشرات الطفيلية، يستمرئون خيره، ويحتسون رحيقه، ثم لا يخطر لهم أن يذودوا عن حوض رواهم، وموئل آواهم، ودوحة أظلهم فرعها وغذاهم ثمرها. . ما هم بالرجال ولا بأشباههم، ولا يجري فى عروقهم دم، بل جبن مذل. وخنوع مهين!
يقولون هذا كله عن بنيك يا مصر. فيا ليتهم كذبوا فيما ادعوه ويا ليت بنيك ينهضون لتكذيبهم!
أى مصر ! يقولون ان العام ربيع بعده صيف، يتلوهما خريف وشتاء. فهل مضى ربيعك وبان؟
أكتب لك الشتاء الأبدي والزمهرير السرمدى أن كان هذا حكم الدهر فما أجوره! أن كان هذا حكم القضاء فما أقساه!
