" أخى العمريز قرأت مقال الأستاذ ساطع الحصرى بك في رسالة الاثنين الماضى ، وأظن أن من حق عليك أن تنشر ردى على هذا المقال ، وما أرى أنك تبخل على بهذا الحق وهذا الرد فصل من كتاب ) ستقبل الثقافة ( الذي سيظهر بعد أيام ، فهو إذن قد كتب وطبع قل مقال الأستاذ الحصرى . . ولك أصدق المودة وأخلص الاخاء "
قد أشرت منذ حين إلى أن من الحق على الدولة المصرية للثقافة ان تذيعها فى طبقات الشعب المصرى من جهة ، وان تتجاوز بها الحدود المصرية إلى الاقطار التى تستطيع ان تسيغها وأن تنتفع بها من جهة اخرى
٥-١١ الام = ٠١٦١٤ - ولأمر ما قالت بعض الأقطار الشرقية لمصر إنها زعيمة الشرق العربى ، ولأمر ما صدقت مصر ما قيل لها . فان كان هذا حقا فان ٤ نتائج يجب أن تنشأ عنه وتبعات يجب أن تترتب عليه . وإن لم يكن هذا حقا فان من الواجب علينا ان محققه لان فيه تحقيقا لكرامتنا من ناحية ، ولأن فيه ارتفاعا عن الآثرة التي تليق بشعب كريم . والشئ الذي لا شك فيه هو أن الله قد هيأ لمصر من أسباب القدرة على إحياء الثقافة ونشرها ما لم يهئ لغيرها بعد من الامم العربية . فما لا يليق بالمصريين وقد تسامع الناس بأنهم كرام ، وزعموا هم لأنفسهم أنهم كرام أيضا ، مما لا يليق بهم أن يؤثروا أنفسهم بما اتيح لهم من الخير ويختصوها بما أتيح لها من النعمة ، وإنما الذى يلائم كرمها وكرامتها وما تطمح إليه من المثل الأعلى أن يكون حديثها ملائما لقدمها ، وان تكون مشرق النور لما حولها من الأقطار ، وأن تكون البلد الذي تهوي إليه أفئدة الراغبين للعلم والراغبين فيه
وقد يظن الضربون انهم ببلون فى سبيل ذلك بلاء حسنا فأحب أزه أصارحهم بأنهم لم يفعلوا فى سزيل ذلك شيئا إن الاقطار العربية تقرأ ما ينشر في مصر من الصحف والكتب والمجلات ، ولكن مصر لم تصنع إلى الآن شيئا لتيسر لهذه الاقطار قراءة كتبها وصحفها ومجلاتها . ولعل من هذه الاقطار ١١٠٦٤
ما يلقي كثيرا من الجهد في الظفر بحاجته من هذه الكتب والصحف والمجلات . ولو قد يسرت مصر للاقطار العربية قراءة اثارنا المطبوعة لما بلغت من خدمة الثقافة إلا ايسرها واهونها ، على أن ذلك يبرد عليها بالمنفعة المادية والمعنوية يبينا
نعم ، إن مصر تيسر لبعض البلاد العربية استدعاء بعض المعلمين ولعلها تنفق فى ذلك شيئا من المال ، ولعلها مجد فى ذلك شيئا من الجهد ، ولكن هذا من أيسر الأمر أيضا . وتبعات المركز الممتاز الذى أتييح لها بين الأقطار العربية تفرض عليها أكثر من ذلك . ولست أذكر إلا أمرين اثنين ، أحدهما قد أخذت مصر بأسبابه ولكن فى بطء وتردد ، وهو فتح أبواب مدارسنا ومعاهدنا للطلاب الشرقيين والعناية بهم إذا وفدوا على بلادنا ، لا بأن نيسر لهم طلب العلم فحسب بل بأن نيسر لها حياتهم فى مصر ايضا . وإني لأوازن بين ما تصنعه البلاد الأوربية لتحقيق العناية بالطلاب الأجانب وما نصنعه محن فأوازن بين الوجود والعدم . ومع ذلك فأوربا حين تسنى بالطلاب الأجانب إنما تنشر الدعوة لنفسها وتستخدم الأجانب لينفقوا فيها أموالهم وليعودوا منها وقد تأثروا بها وأصبحوا لها رسلا فى بلادهم . فأما نحن فلسنا فى حاجة إلي نشر الدعوة لأننا لا نطمع فى شئ ، ولأن الدعوة المصرية تنشر نفسها فى الأقطار العربية لما تقوم عليه من الحب والمودة والإخاء . وإنما يجب علينا أن نيسر لطلاب الأقطار العربية الدرس والاقامة فى مصر اداء وتمضا بالواجب ووفاء للأهدئاء وصرفا لهؤلاء الأصدقاء عن الرحلة إلى أقطار الغرب إن وجدوا فى هذه الرحلة مشقة أو عناء .
. - والأمر الثاني دعوت إليه سرا منذ أكثر من عشرة أعوام حين تولى حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا وزارة المعارف للمرة الأولى . فقد شهدت مؤتمرا للاثار عقد فى سوريا ولبنان وفلسطين . فلما عدت رفعت إلى الوزير تقريرا خاصا طلبت فيه أن تنشئ مصر مدارس مصرية للتعليم الابتدأال والثانوى فى هذه الأقطار . وكان الذى آثار فى نفسي هذا الانراح ما رأيته من السلطان العقلي للمدارس الاجنبية على هذه الانطار . وكنت أرى أن العقل المصرى أقرب إلى العقل السورى والفلطيني وأحرى أن يتصل به ويؤثر فيه تأثيرا سنا من العقل الأمريكي أو الفرنسي . ولكن وزير المعارف حينئذ نبهني بإضما إلى أن ذلك
ليس ميسورا ، فقد تريده مصر ولكن السياسة الاجنبية ستاباه من غير شك . وكان هذا حقا حينئذ ، فأما الآن وقد عقد بيننا وبين اوربا اتفاق مونترو ، وقد ظفرت سوريا ولبنان ببعض الحرية ، واستقلت العراق ، فما ارى ان مصاعب سياسية تقوم دون هذا النوع من التعاون الثقافي بين الا قطار العربية التى بجمعها وحدة اللغة والدين والمثل الأعلى ، والتى تشترك في منافع اقتصادية عظيمة الخطر .
ما أظن أن السياسة الوطنية لهذه الأقطار تكره أن تنشأ فيها مدارس مصرية محمل إلى ابنائها ثقافة عربية شرقية ، ويحملها إليهم معلمون شرقيون مثلهم وعزب مثلهم يتحدثون إلى بلغتهم ويشاركونهم في الدوق والمبل والشعور . وما اظن ان السياسة الاوربية تمنع فى ذلك وقد تم الاتفاق بيتنا وبين أوربا على أن تستقر فى بلادنا مدارس أوربية وتتمتع بكل ما يمكنها من النهوض بمهمتها فى حدود القوانين المصرية ، وعلى ان يكون التبادل أساسا لهذا الاتفاق
وواضح أننا لا نريد أن نلشئ مدارسنا المصرية في فرنسا أو انجلترا او إيطاليا ؛ ولكن من حقنا أن ننشئ المدارس المصرية فى البلاد العربية التى تتأثر بسلطان هذه البلاد ونفوذها تأثرا قليلا أو كثيرا
- ٠٢:١ ومن المحقق أننا إذا أنشأنا المدارس المصرية فى الأقطار العربية فسننشها وسنسيرها على النحو الذى محب أن تنشأ عليه المدارس الأجنبية فى بلادنا وان تسير عليه ايضا . سننشئها على أنها معاهد للتعاون الثقافي بيننا وبين أهل هذه البلاد ، لا يستأثر المصريون وحدهم بالعمل فيها ، بل يستعينون بمن يقدرون على معونتهم من الوطنيين . ولا تفرض فيها الجغرافيا المصرية والتاريخ المصرى دون الجغرافيا الوطنية والتاريخ الوطني ، وإنما تكون معاهد ينشأ فيها الوطنيون لاوطانهم لا لمصر ، وحسب مصر انها تعين على ذلك وتشارك فيه وتؤدى ما عليها من الحق لجيرانها وشركانها فى اللغة والدين والاقتصاد ، وحسبها أن تظفر منهم بالحب والمودة والاخاء
وقد يقال إن أعباء الدولة المصرية أثقل من أن تسمح لها بمثل هذا التوسع في إذاعة الثقافة خارج حدودها على حين انها في أشد الحاجة إلى إذاعة الثقافة داخل هذه الحدود . وقد يكون هذا سقا من بعض الوجوه ، ولكن من الحق ايضا ان لحياتنا
المستقلة تبعاتها ، وان التقصير في النهوض بهذه التبعات لايلانم ما نزعمه لانفسنا من الكرامة والزعامة
: - ٠٢ ؟ وممالا لا شك فيه أن هذه المدارس إن انشأ ياها ستكون انفع لمصر وللبلاد التى تنشأ فيها من كثير من القنصليات والمفوضيات التى تبنها فى أقطار الأرض ولا نكاد يجني منها ، ولا تكاد البلاد التى نبنها فيها تجني منها نفعا
- ٤ ومما لاشك فيه ايضا ان السء المالي الذي يتبعه إنشاء هذه المدارس لا ينبغي أن يقع كله على الدولة وإنما ينبغي ان يشارك فيه القادرون على هذه المشاركة من المصريين اولا ومن الوطنيين ثانيا وحسب الدولة أن تعينها معونة قيمة بالمال والرجال
" . ٠ على هذا النحو تحمل مصر تببعاتها وتنهض بواجباتها الثقافية ، وتلائم بين حديثها وقد يمها ، فقد كانت مصر فيما مفى من المهود الاسلامية مصدر الثقافة والعلم للا قطار العربية في الشرق القريب . لم تقصر في ذلك إلا حين اضطرها السلطان العثمانى إلى التقصير فيه . فأما الآن وقد استردت استقلالها فيجب أن تسترد مكانتها الثقافية فى الشرق القريب . ودناك بلاد عربية لم ينشئ فيها الأجانب ولا يستطيعون أن ينشئوا فيها المدارس والمعاهد ، ولا بجد اهلها فضلا من المال ينفقونه فى تنمية الثقافة كما ينبغى . فالحق على مصر أن تسرع إلى معونة هذه البلاد وألا تدخر جهدا إلا بذلته فى هذه السبيل ، وهذه البلاد هي الحجاز وبلاد الدولة العربية السعودية وجه عام . وما اشك في ان المصريين يرضون كل الرضى عن انشاء مدرستين على اقل تقدير ، إحداهما في مكة والآخري في المدينة ، بل ما أشك في أنهم يتجاوزون الرضى إلى البذل والانفاق . وقد علمت أن أهل الحجاز أنفسهم يتمنون ذلك ويلحون فيه
وليس هذا كل ما ينبني أن تنهض به مصر لنشر الثثافة فى الأقطار العربية ، بل هناك شئ اخرقا عز الشعور به واشتدت الحاجة إليه حتى أخذت وزارة المغارف تفكر في وتستعد له وهو : التعاون على تنظيم الثقافة وتوحيد برامجها بالقياس إلى الأقطار العربية كافة . يدعو إلى ذلك حاجة هذه البلاد إلى توحيد الجهود ما دام مثلها الثقافي الأعلى واحدا ، ويدعو إلى ذلك ان التعليم العالي في مصر قد بلغ من الرق درجة تدعو إليه طلاب العلم في الأنطار العربية ، وللتعليم العالي في مصر نظم دقيقة شاقة قد يحول بين هؤلاء الطارب وبين الانتفاع به والظفر بإجارات
ودرجاته ، فلا بد من ان يهيا هؤلاء الطلاب لهذا التعليم تهيئة حسنة تلائم تهيئة المصريين له . وقد اجتمع فريق من قادة الرأى الشرقي العربى منذا كثر من كيف لجنة التأليف والترجمة والنشر وتشاوروا فى ذلك كما تشاوروا فى غيره من الوان التعاون الثقافي ، ورسموا لذلك خطة وشرء واله نظاما . ثم اخذت وزارة المعارف تفكر فيه وتستعد للدعوة إلى مؤتمر عربي شرق . والدى ارجوه ان يكون انعقاد هذا المؤتمر دوريا وان يكون هذا المؤتمر متنقلا في الأقطار العربية على نحو ما يسير عليه المؤتمر الطى الذى أنشئ منذ حين .
وقد شهدت في العام الماضي - ممثلا لوزارة المعارف - مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكرى ، فحدثت فيه إلى المؤتمرين بأن مصر تستطيع ان تكون مركزا من اهم المراكز لهذا التعاون الفكرى إذا نهضت بتبعاتها الثقافية نحو الأقطار العربية . ذلك لانها بحكم مركزها الجغرافي وبحكم نهضتها الحديثة اصدق صورة لما تطمح إليه عصبة الامم من هذا التعاون الفكرى الخالص الذي يقارب بين الأمم ولغي ما بينها من الفروق ويرتفع بحياتها العقلية عن ألوان الخصومة وضروب النزاع . فالجامعة المصرية مثلا بيئة تلتقي فيها الثقافات الانسانية كلها تقريبا ، يحملها إليها أساتذة ممتازون من المصريين ومن الأوربيين على اختلاف أوطانهم ومذاهبهم في السياسة والدين والاقتصاد . وهذه الثقافات كلها تلتقي وتمتزج وتصهر في العقل المصرى الذى يسيغها ويتمثلا ويطبعها بعد ذلك شيئا ما بطابعه المصرى الخاص . وهو قادر بعد هذا على أن يذيعها فى بلاد الشرق شرقية غريبة عربية أوربية بريئة مما يفسد الثقافة عادة من التعصب والهوي .
وقد وقع هذا الحديث من المؤتمرين موقعا حسنا . فهل يقع هذا الحديث من المصريين أنفسهم موقعا حسنا ، وهل يشعر المصريون بأن فرصة ذهبية كما يقال تتاح لهم الآن ؟ ، فلكل شر اثر حسن ، والشر ان حاجتنا إلى الأوربيين لا تزال شديدة فى التعليم ، والآثر الحسن لهذا الشر أننا نستطيع أن نكون ر . العلم والثقافة والأمن والسلم والتوفيق بين الشرق والغرب جميعا فاذا أرادت : عسر أن تنتهز هذه الفرصة فذلك يسير عليها لا يحتاج إلا إلى أن تعنى بقوية الصلة بينها وبين لجنة التجارية الفكر فى جنيف ومعهد التعاون الفكري في باريس من جهة ، وبينها وبين البيئات والمعاهد العلمية فى الشرق العربي ، بل في الشرق الاسلامى من جهة اخرني .
