تتمة
- ٣ - كانت الدولة الفاطمية تضطرم بهذا الروح الوثاب، وهذه الخلال البدوية النقية حينما اعتزم المعز لدين الله فتح مصر، وكانت هذه الروح والخلال هي دعامة الدولة الجديدة؛ نشأت في مهدها، كما تنشأ معظم الدول المغامرة التي تجد في قفار المغرب خير ميدان لطالعها ونشاطها. وكانت هذه الإسبارطية الصارمة تطبع تصرفات الغزاة منذ البداية؛ وبينما كان أبو عبد الله الشيعي داعية الفاطميين وطليعة دولتهم يزحف بعصبته من البربر على بني الأغلب لينتزع ملكهم، كان زيادة الله بن الأغلب مكباً على لهوه ومسراته، ولم يك ثمة شك في مصير ملك يغشاه مثل هذا الانحلال في الروح وفي الخلال؛ ولما تم الظفر لأبي عبد الله ودخل رقادة عاصمة الأغالبة، واحتوى على تراث بني الأغلب، عرضت عليه جواري ابن الأغلب وفيهن عدة فائقات الحسن، فلم ينظر إلى واحدة منهن، وأمر لهن بما يصلح شأنهن وأقام على ما كان عليه من تقشف بالغ وخشونة في المأكل والملبس، ولم تزد إقامته في القصر الأنيق على إقامة القفر الساذج
ولما اعتزم المعز أن يحقق أمنية أسرته في افتتاح مصر، استعد لذلك استعداداً عظيماً، وحشد كل ما استطاع من جند وذخيرة ومال، وعهد بتلك الحملة الزاخرة إلى أعظم قواده جوهر الصقلي؛ ومع أن المعز كان قوي الأمل في التغلب على مصر،
ومع أنه كان يعرف من طلائعه وعيونه مبلغ ما انتهت إليه من التفكك والضعف عقب موت كافور، فإنه لم يدخر عدة في الرجال أو المال، وإليك رواية توضح لنا ضخامة هذه الأهبة: استدعى المعز يوماً أبا جعفر حسين بن مهذب متولي بيت المال، وهو في وسط القصر، وقد جلس على صندوق وبين يديه ألوف صناديق مبددة، فقال له: هذه صناديق مال، وقد شذ عني ترتيبها، قال الحسين، فأخذت أجمعها حتى رتبت، وبين يديه جماعة من خدام بيت المال والفراشين،فلما رتبت أمر برفعها في الخزائن على ترتيبها، وأن يغلق عليها ويختم بخاتمه، وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك، فكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار، وكان ذلك في سنة ٣٥٧هـ؛ فأنفقت جميعها على الحملة التي سيرها إلى مصر؛ ويقال إن الحملة الفاطمية على مصر بلغت نيفاً ومائة ألف فارس، غير الجند المشاة، وهي قوة زاخرة تقتضي لكي تقطع هذا القفر الشاسع بين إفريقية ومصر بعددها وعددها جهوداً جبارة؛ ولقد أذكى منظر تلك القوى الجرارة وأهبتها الهائلة وقت خروجها من القيروان إلى مصر في يوم من أيام ربيع الأول سنة ٣٥٨هـ خيال الشاعر المعاصر ابن هانئ، فأنشد في وصفها:
رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروع
غداة كأن الأفق سد بمثله .. فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
فلم أدر إذ ودعت كيف أودع ... ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع
إلا أن هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن ولا بات يهجع
إذا حل في أرض بناها مدائناً ... وإن سار عن أرض غدت وهي بلقع
تحل بيوت المال حيث محله ... وجم العطايا والرواق المرفع
وكبرت الفرسان لله إذ بدا ... وظل السلاح المنتضى يتقعقع
وعب عباب الموكب الفخم حوله ... ورق كما رقَّ الصباح الملمع
فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع
ولم تمض أسابيع قلائل حتى سرت الأنباء في مصر بمقدم
العساكر الفاطمية؛ ولم يكن مشروع الفاطميين في فتح مصر مجهولاً؛ وكان للمعز بمصرَ دعاة يبثون دعوته خفية، ويبشرون بالفتح الفاطمي. ولم يك ثمة ما تخشاه الأمة المصرية من هذا الفتح، خصوصاً بعد الذي شهدته من عسف الجند العباسيين، وطغيان الولاة المستعربين، وما انتهت إليه شؤونها في أواخر عهد الدولة الأخشيدية من الاضطراب والفوضى، وما توالى عليها من محن الغلاء والوباء؛ ولقد كان من سخرية القدر أن يتولى حكم مصر أسود خصي هو كافور؛ وكان لهذا الحادث الفذ في تاريخ مصر الإسلامية، بلا ريب، وقع عميق في جرح الشعور القومي؛ وكانت الدولة الفاطمية تجذب إليها الأنظار بقوتها وغناها؛ وكان سواد الشعب المفكر يؤثر الانضواء تحت لواء دولة قوية فتية، تستظل بلواء الإمامة الإسلاميةكالدولة الفاطمية، على الاستمرار في معاناة هذه الفوضى السياسية والاجتماعية؛ وهكذا ألفى الفاطميون حين مقدمهم إلى مصر، جواً ممهداً يبشر بتحقيق الفتح المنشود على خير الوجوه
ولما ذاعت الأنباء بوصول العساكر الفاطمية إلى الأراضي المصرية، اشتد الاضطراب في مصر، وكثر الخلاف في الرأي، فرأى جماعة من الزعماء والجند من أنصار بني الأخشيد وكافور أن يحاولوا رد الغزاة بقوة السيف، وأخذوا يتأهبون للقتال؛ ولكن معظم الزعماء المصريين آثروا مهادنة الفاتحين والتفاهم معهم، وقر رأيهم على أن يتقدموا إلى جوهر بطلب الأمان والصلح، واتفقوا مع الوزير جعفر بن الفرات على أن يتولى تلك المهمة؛ وسألوا أبا جعفر مسلم بن عبد الله الحسيني أن يكون سفيرهم فأجابهم إلى ذلك؛ وسار على رأس جماعة من وجوه مصر إلى لقاء جوهر، فلقيه على مقربة من الإسكندرية، في قرية تعرف بأتروجه؛ (أواخر رجب سنة ٣٥٨) فاغتبط جوهر بمقدمهم وأجابهم إلى ما طلبوا؛ وكتب لهم أماناً يعتبر وثيقة هامة في الكشف عن غايات السياسة الفاطمية وأصولها المذهبية؛ وفيه ينوه بمزايا الحماية الفاطمية على مصر (بعد أن تخطفتها الأيدي واستطال عليها المستذل؛ الممعنة نفسه بالاقتدار عليها، وأسر من فيها،
والاحتواء على نعمها وأموالها، حسبما فعله في غيرها من بلدان المشرق) وأن أمير المؤمنين بادر بتسيير الجيوش المظفرة لمجاهدته وحماية المسلمين ببلدان المشرق مما شملهم من الذل واكتنفهم من المصائب والرزايا، ثم يشير جوهر إلى ما تطرق إلى شؤون الحكم من فساد وإلى ما يعانيه الشعب من مظالم ومتاعب، وإلى ما يزمعه أمير المؤمنين من إقامة العدل وتأييد الشريعة وإصلاح المرافق والشؤون، ويختتم ببيان بعض الأحكام الشرعية الفاطمية وتوكيد الطاعة لأمير المؤمنين
وفي هذا الأمان الذي أصدره جوهر لأهل مصر إشارة ظاهرة إلى خطر القرامطة الذين كانوا قد اجتاحوا الشام يومئذ، وأخذوا يهددون مصر؛ وقد كان الخطر حقيقياً لا ريب فيه، ولو لم يبادر الفاطميون إلى احتلال مصر، لسقطت قبل بعيد فريسة هينة في يد أولئك الغزاة السفاكين؛ بل لم يمض على وجود الفاطميين بمصر زهاء عامين حتى اضطروا إلى لقاء القرامطة في أرض مصر ذاتها ولم يردوهم عنها إلا بعد جهد جهيد
على أن جوهراً اضطر مع ذلك إلى خوض بعض المعارك قبل أن يفتتح مصر. ذلك أن فلول الأخشيدية والكافورية ومن والاهم من الجند لم يقبلوا الأمان وآثروا أن يقوموا بمحاولة أخيرة للدفاع عن سلطانهم الذاهب؛ فاختاروا لهم أميراً، واحتشدوا لقتال جوهر بالجيزة؛ ولما وصل الجيش الفاطمي إلى الجيزة ألفى القوى الخصيمة تتهيأ لرده عن عبور النيل، فدفع جوهر بعض قواته فاجتازت النيل خوضاً، ونشب القتال بين الفريقين، فانهزم الأخشيدية بعد أن قتل منهم عدد كبير، ولاذوا بالفرار وتم الفتح الفاطمي لمصر (منتصف شعبان سنة ٣٥٨)
واستجاب جوهر إلى رغبة المصريين كرة أخرى، فجدد لهم الأمان؛ وذهب الوزير ابن الفرات، والشريف أبو جعفر إلى لقائه على رأس العلماء والكبراء؛ وسار جوهر في ركبه المظفر إلى عاصمة مصر في عصر يوم الثلاثاء ١٧ شعبان سنة ٣٥٨ه ـ (٧ يوليه سنة ٩٦٠م) (وعليه ثوب ديباج مثقل، وتحته فرس أصفر) ؛ وشق مدينة مصر (الفسطاط) ونزل في المكان
الذي غدا فيما بعد مدينة القاهرة، واختط العاصمة الجديدة في نفس الليلة إيذاناً بقيام الدولة الجديدة، وبعث البشرى إلى مولاه المعز بالفتح العظيم، فوصلته في منتصف رمضان، وأنشد ابن هانئ بهذه المناسبة قصيدة مطلعها:
يقول بنو العباس قد فتحت مصر ... فقل لبني العباس قد قضي الأمر
وقد جاوز الإسكندرية جوهر ... تصاحبه البشرى ويقدمه النصر
- ٤ - وقامت القاهرة عاصمة الدولة الجديدة بسرعة، وأعدت بقصورها ومسجدها (الجامع الأزهر) لتكون منزلاً ملوكياً لبني عبيد وعاصمة للخلافة الفاطمية، وبدأ الحكم الفاطمي بمصر على يد مبعوث الخليفة الفاطمي وقائده جوهر؛ وكان خطر القرامطة الذي أشار إليه جوهر في رسالته لأهل مصر يشتد ويتفاقم، ويهدد مصر بالويل والدمار، وملك الفاطميين بالفناء العاجل. وقد زحف القرامطة على مصر بالفعل في أوائل سنة ٣٦١هـ بقيادة زعيمهم الحسن الأعصم، ونشبت بينهم وبين الجيوش الفاطمية بقيادة جوهر، معارك هائلة في ظاهر الخندق (على مقربة من القاهرة) انتهت بهزيمتهم وارتدادهم نحو الشام. ولما رأى المعز أن ملكه الجديد قد توطد بمصر، سار من أفريقية إلى مصر بأهله وأمواله فيركب هائل تفيض الرواية المعاصرة في وصف ضخامته وروعته، فوصل إلى الإسكندرية من طريق برقة، في ٢٤ شعبان سنة ٣٦٢؛ وهرع وفد من أكابر المصريين للقائه وتحيته عند المنارة، فقال لهم (إنه لم يسر إلى مصر لازدياد في الملك أو المال، وإنما سار رغبة في الجهاد ونصرة المسلمين وإقامة الحق والسنة) . ودخل المعز القاهرة، عاصمته الجديدة في أوائل رمضان، ولما وصل إلى قصره خر ساجداً في مجلسه شكراً لله، ثم صلى ركعتين، وصلى بصلاته كل من دخل؛ وسطعت في الحال آيات من عظمة الملك الجديد
وبذا استقرت الخلافة الفاطمية في مصر، وبدأت زعامتها الدينية في المشرق؛ وكانت الإمامة الدينية أخص الصفات التي تبدو بها الخلافة الجديدة، وكان المعز لدين اله يحرص جد الحرص على صفة الإمامة ورسومها؛ بيد أن الفاطميين قدموا إلى مصر يحيط بنسبتهم وإمامتهم نفس الريب الذي أحاط بهما منذ قيام دولتهم في المغرب؛ وقد أثيرت هذه المسألة عند مقدم المعز إذ اجتمع به جماعة من الأشراف العلويين الذين ينتسبون إلى علي وفاطمة، فسأله الشريف عبد الله بن طباطبا عن نسبه، فأجابه المعز أنه سيعقد مجلساً ويتلو عليهم نسبه. ثم عقد المعز مجلسه بالقصر ودعا إليه الكبراء، وسل نصف سيفه من غمده وقال لهم هذا نسبي؛ ونثر عليهم ذهباً كثيراً، وقال هذا حسبي؛ فقالوا جميعاً سمعنا وأطعنا!، وفي ذلك ما يدل على اعتداد الدولة الجديدة بقوتها وجاهها، قبل اعتمادها على إمامتها وهيبة انتسابها لآل البيت، وإن كانت قد اتخذت الإمامة شعارها لدى الكافة منذ الساعة الأولى، وأقامت ملكها السياسي على أسس دعوتها الدينية
وكان عهد المعز بمصر عهد توطيد ودفاع عن الملك الفتي. وكان خطر القرامطة لا يزال جاثماً في الأفق ينذر دولة الفاطميين الجديدة بالمحو والفناء. ولم يمض بعيد حتى غزا القرامطة دمشق وانتزعوها من يد حاكمها الفاطمي. ثم زحفوا على مصر بقيادة الحسن الأعصم كرة أخرى، فلقيتهم جيوش المعز على مقربة من بلبيس في أواخر سنة ٣٦٣هـ وأوقعت بهم هزيمة فادحة. بيد أنها لم تكن خاتمة النضال؛ فقد لبث المعز حتى وفاته في معارك مستمرة في الشأم مع القرامطة والروم؛ بيد أنه أتيح له قبيل وفاته أن يشهد ظفره؛ ولم يغادر هذه الحياة، (في ربيع الثاني سنة ٣٦٥) حتى كانت الخلافة الفاطمية تبسط سلطانها وإمامتها على المغرب ومصر والشأم والحرمين
(تم البحث) (النقل ممنوع)
