الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 253الرجوع إلى "الرسالة"

مصطفى صادق الرافعي، بمناسبة مرور سنة على وفاته

Share

سئل الرافعي ماذا يريد أن يقال عنه بعد الموت، فكتب  جوابه قبل وفاته بشهرين صفحة بارزة بين خالدات آثاره: ومما  جاء فيها:

(وبعد الموت يقول الناس أقوال ضمائرهم لا أقوال ألسنتهم  إذ تنقطع مادة العداوة بذهاب من كان عدواً وتخلص معاني  الصداقة بفقد الصديق ويرتفع الحسد بموت المحسود وتبطل المجاملة  باختفاء من يجاملونه.)

ثم أورد بعض الكلمات التي اعتقد أنها ستقال عنه: كمعجزة  الأدب وحجة العرب ومؤيد الدين الخ. . ليستطرد قائلاً: (أما أنا، فماذا ترى روحي وهي في الغمام وقد أصبح الشيء  عندها لا يسمى شيئاً إنها سترى هذه الأقوال كلها فارغة من  المعنى اللغوي الذي تدل عليه لا تفهم منها شيئاً إلا معنى واحداً  هو حركة نفس القائل وخفة ضميره، فشعور القلب الثائر هو  وحده اللغة المفهومة بين الحي والميت). . .

أي أخي مصطفى، إذا كنت أصبت باستجلاء نفسك وهي  لم تزل أسيرة جوارحك، فإنك خدعت بإطلاقك حسن ظنك  على الناس أجمعين، لأنك اتخذت تجردك مقياساً فحسبت أن  خصومك سينصفونك بعد موتك كما أنصفت أنت من جادلتهم  وجادلوك وأردت أن تفهمهم وما أرادوا أن يفهموك.

لقد كانت تنقطع فيك مادة العداوة بذهاب من كان عدواً،  لأن عداءك كان ناشئاً عن اعتقادك بتفوق أسلوبك وروعة  مذهبك، فما ناضلت حين ناضلت إلا عن سلسلة ثقافة تواصلت  حلقاتها منذ نشأ الأدب العربي الصميم حتى انتهى إلى قلمك. أما  هم فقد كان عداؤهم ضغينة لأنهم احبوا أنفسهم واستغرقوا في  أنانيتهم، لذلك قضت عليهم طبيعة نفورهم منك بأن يغتابوك وأنت  مغيب في التراب.

إن الحسد لا يرتفع بموت المحسود كما كنت ترى، لأن مادة  الحسد مستمدة من صغار الحاسد فلا تزول إلا بزواله. إنني لأرى روحك الآن تستشف هذه الحقيقة وهي من  عيوب التراب لا يتملص منها في الحياة إلا الأرواح التي لم تطمع  من الدنيا إلا بما تتزوده منها للآخرة.

وإنني لأراك لا تأبه لما يقال عن بيانك وأسلوبك ولهجتك  فإنها أدوار بلاغ لإلهامك، وإلهامك وحده هو ما يقوم في نفسك  الآن، فأنا أشعر بأن الكلمة التي أكتبها لذكراك لن تجتاز الحد  القائم بين الظاهر والخفي، إنها لكلمة تزحف زحفاً في عالم التلمس  والاستقراء موجة ذاهبة في ضم الآراء المتضاربة تقذف بالأحياء  إلى طلب الرقي وهم متجهون إلى القبور.

أما الكلمة المجنحة التي تبلغ روحك أيها الأخ الحبيب،  الكلمة المأخوذة   (من اللغة التي يتفاهم بها الحياء والأموات)   فإن روحي قد هتفت بها بالصرخة الصماء وبالدمعة العمياء منذ  بلغها رجوعك إلى مصدرك، ولما نزل نهتف بها كلما ارتادت  أجواء الشعور والتفكير

أفما قلت إن روحك ستبحث من وراء الحجاب عن الثمرة  المساوية المسماة القلب في الناس وعن كل كلمة دعاء وكلمة ترحم  وكلمة خير. وإن ذلك ما تذوقه الروح من حلاوة هذه الثمرة

لقد عرفت يا مصطفى، وما اقل من يعرفون هذا في الحياة،  قيمة عطف الروح على الروح في هذه الدنيا وبخاصة قيمة هذا  العطف يترامى على ضفاف نهر الموت مناجياً الأحباب الراحلين إذا كان في كل عطف من حي إلى حي نشوة وقوة وأمل، فلا ريب في أن كل خفقة شوق من محب إلى ميت عزيز تحمل  إليه الدعاء والترحم والخير

هنالك لا تغني نفس عن نفس شيئاً، ولكن عطف  الأرواح الأسيرات على الروح المنطلقة في العالم الخفي ليس إلا  مما كسبت هذه الروح من إخلاصها فحق لها أن تجزى بما سعت  وبما اكتسبت

كنت أعتقد أن الرافعي كاتب له شأنه في محيطه الخاص، وأنه  رجل بيان فخم، ولكنه يدور ضمن حلقة ضيقة من العلم، فكنت

مسيئاً إلى نفسي بهذه الفكرة لأنني ما بنيتها إلا على مقال أو بعض  مقال وقع نظري عليه منذ سنوات عديدة في لبنان

ومنذ سنتين أو أكثر شغفت بمطالعة رسالة الأستاذ الكبير  أحمد حسن الزيات لعبقرية هذا المفكر المجدد وحسن اختياره. وفي  أحد أعداد الرسالة قرأت     (رؤيا في السماء)   للرافعي فكنت كلما قرأت  سطراً بعد سطر احسبني اشهد أحلاماً غائرة في سريرتي تنقل  أشباحها حقائق ماثلة لعياني، وما أتيت على آخر المقال حتى  هتفت قائلاً: هذا هو مثال الأدب العربي الذي يمكننا أن نواحه  به الآداب العالمية في نهضتنا. واندفعت أترجم     (رؤيا في السماء)    إلى اللغة الفرنسية ثم نشرتها مقدماً بها إلى أدباء الغرب حجة  على من يدعي منهم أن الأدب العربي ليس إلا عالة على آدابهم

ومضى شهر على ظهور الترجمة في المجلة الأسبوعية الفرنسية  في القاهرة، فإذا برجل مهيب الطلعة يدخل علي ويتقدم مصافحاً  مقدماً نفسه   (مصطفى صادق الرافعي)  فبادرت إلى معانقته وبدأت  أتكلم مرحباً، فإذا به يتفرس فيّ ويبدي إشارات من لم يفهم  ما أقول، وكان يرافق الرافعي الأستاذ كامل محمود حبيب فأشار  إلي بأن نابغتنا أصم وعلي أن أخاطبه بالقلم

ومنذ ذلك اليوم لم يحضر الرافعي مرة إلى الإسكندرية دون  أن يشرفني بزيارته، وقد كان هو الساعي إلى تعريف الأستاذ  الزيات والأستاذ حافظ عامر بك بي فتسنى لي أن أجتمع مراراً  بثلاثة أفذاذ لكل منهم لمعان في آفاق النهضة الأخلاقية الأدبية  وقد كلفوني بإجماع الرأي ترجمة كتاب زرادشت للفيلسوف  الألماني نيتشه

وفي أواخر أبريل سنة ١٩٣٧ جاءني مصطفى في الإسكندرية  وهو يتأبط وحي القلم هدية إلي تحمل كلمة من خطه أحتفظ بها  بين ذخائر من فقدت من أهلي

وأمررنا اليوم معاً نتحدث كعادتنا، أكتب فيتكلم،  ومما قاله لي أن إحدى الصحف كلفته كتابة مقال عنوانه المرحوم    (مصطفى الرافعي بقلم مصطفى الرافعي)  على نحو ما كتب   (ويلز)   وأن الفكرة راقت له ولكنه يريد أن أتولى أنا كتابة هذا المقال  فقبلت مشترطاً أن أكون وضميره الملكين المستنطقين إذا هو  أصر على إقامتي حكماً بينه وبين الحياة، فضحك وقال: ما اخترتك

لهذه المهمة إلا لعملي بأن المحبة اشد صرامة في حكمها من العداء  وما كان الرافعي مخدوعاً بما أضمره نحوه من إخلاص مجرد وقد  تحقق أنني قدرت روحه قبل أن أتعرف إلى شخصه

ولما حان ميعاد انصرافه شيعته وأنا أحس بغصة شعرت بمثلها  في كلمة الوداع التي ألقاها إلي وهو يزودني بآخر نظرة لم أزل أراها  أمامي كآخر شرارة من أصفى الأنوار التي شاهدتها في حياتي

وفي أول مايو سنة ١٩٣٧ أخبرني صديق أن أحد أصحابه  استعاد السمع وهو مصاب بالصمم بوضع صفحة من الجلاتين    (وهو الجلاتين المستعمل لمردات السيارات)  بين أسنانه وطيها  قليلاً حتى تنحدب بين الفم والصدر فيؤثر عليها اهتزاز الصوت  تأثيره على ساعة الحاكي فيصل إلى طبلة الأذن الداخلية بواسطة  أعصاب الفكين

بادرت بالكتابة إلى مصطفى وبت أنتظر الجواب بذاهب الصبر  فوردني منه بعد يومين الكتاب الآتي، وهو مؤرخ في ٢ مايو  أي قبل وفاته بأيام قليلة: عزيزي الأستاذ فليكس فارس سرني كتابك لأنه كتابك، وقد جربت الفائدة فإذا هي  قريب مما وصفتم، غير أن الصوت يبلغ إلى الدماغ مصمتاً غير مبين  كأنه لا حروف فيه، وتلك هي العلة من أولها. وسأزاول المران  على هذه الطريقة، فلعل لها عاقبة إن شاء الله، ولعل فائدتها تأتي  بالتدريج!

لماذا تفتر في ترجمة نيتشه فأصبحت تظهر وتختفي. . . أما اعترافات فتى العصر فهي جيدة جداً، ولو كان مؤلفها هو  المترجم لما استطاع أكثر مما استطاع المترجم الشيخ فليكس فارس رسالتك وترجمة رؤيا في السماء قرأهما الأستاذ الفرنسي فأعجب  بهما، وقد سلمت الأصول للدكتور محمد ليرسلها إلى أستاذ الآداب  في جامعة ليون وحفظك الله للمخلص

طنطا في ٢ مايو سنة ١٩٣٧ مرت السنة على وفاة الرافعي وهو - بعد أن وفى قسط جهاده  وانسحب من معاكس الإظلال في هذه الحياة - لم يعد إلا صورة

حفرها الحب في قلوب أهله وأصحابه، وإلا كتباً ورسائل وقصائد  تتداولها الأفكار في العلام العربي، فإن أنا أتناول الكلام عنه  الآن فلا أواجه الصورة المحفورة منه في أعماق القلب لأن النظر  إليها يخرس بياني ولا يستنطق سريرتي إلا الكلمة المجنحة الصامتة  التي أناجيه بها، بل أواجه منه التراث الأدبي الفخم الذي أقام  به لنفسه خلوداً آخر قد لا يهتم له الآن بقدر ما نهتم له نحن لأنه  يشق لنا أفقاً واسعاً من آفاق الضحى في النهضة العربية الحديثة

لقد كان الرافعي في الطليعة من قادة الرأي والبيان، اختطت  له فطرته العربية وثقافته العربية منهجاً لم يقتحم صعابه إلا النزر  اليسير من حملة الأقلام في بلاد العرب

وقد ظهر هذا العبقري بشخصيته الفذة في حقبة من الزمن  كان الأديب فيها متتلمذاً لمدرستين: إحداهما مدرسة الأدب العربي  تحاول إنهاض اللغة من كبوتها وقد طالت قروناً فتحصر كل همها  في تنميق العبارات وتصحيح المفردات والتملص من الأسلوب  السقيم الذي طغت فيه على البيان أسجاع المتحزلقين واجتاحته  الألفاظ العامية. والأخرى مدرسة الأدب الدخيل تغترف من  معين الغرب أوشالاً تريقها بياناً مقلقلاً لا يمت إلى العربية الفصحى  بسبب، وليس فيه من الألفاظ الصحيحة ومتانة الأسلوب ما يقوى  على اقتناص روائع التفكير من بيان الأجانب

كان الرافعي في تلك الفترة يخطو خطواته الأولى بعيداً عن  المدرسة الثانية متصلاً بالمدرسة الأولى بجامع اختيار الألفاظ  وتنميق الأسلوب غير أنه ند عن هذه المدرسة بإرسال نظراته  إلى أغوار الأدب العربي القديم غير واقف عند لامعات الأصداف  الطافية على سطوحه

إن للآداب أنواعاً من الجمال لا يمكن للنفوس على اختلاف  أذواقها أن تتفق على ترجيح إحداها، وليس للمتأدب المنصف،  إذا هو أدرك هذه الحقيقة، أن يتعصب لذوقه فيضع في ميزانه  عبقريات الأدباء بالمقابلة والترجيح

لئن سر العبقري الحقيقي أن تتناول الأقلام تحليل تفكيره  وخياله وديباجته بعرضها على الفن،   (بالرغم من أن الفن نفسه  ليس ناموساً ولا قاعدة ولا مقياساً) ، فإن هذا العبقري ليأنف  أن يحشره كاتب في كفة ميزان ليضع في الكفة الأخرى عبقرياً  آخر يطمح إلى الحط من قيمته وقدره

ما ضر الكاتب المتحزب لو قال إن مثله الأعلى من العبقريين  يتدفق إنسانية وشعوراً دون أن ينكر هذه الصفات على أنداده  بل على كل ذي قلب شاعر ورأس مفكر في هذه البلاد. . . والله، إنني لا أدري أية نسمة مشئومة تهب على هذا الشرق  العربي مقحمة الحزبية ميدان الأدب نفسه، وما الأدب الرفيع  إلا النسب الشريف والرابطة المكينة بين النفوس الحساسة الحائرة  في هذه الحياة تتلمس حقيقة القلب وتتطلع إلى أنوار الفكر

أفلا يكفي الأدباء ما يعانونه من مجتمع لما يزل في بدء تكوينه  وتكاد كتلته الكبرى تتبرأ من بيانهم، حتى ليقوم التحاسد بينهم  فيتناكرون، وعهدنا بالأدب دولة يتساند جنودها على المرتقى  ولا يستغني حامل أكبر مشعل بينهم عن أنوار اصغر المشاعل  المتألقة حوله في اعتكار الظلمات

إن دولة الأدب ديمقراطية في روحها، بل اشتراكية، بل  إباحية بأعمق معاني الكلمة، لأن لا حطام فيها لمالك ولا  تخوم لحد شخصية تجاه شخصية أخرى، وما الفكر إلا نسمة  لا نعرف لها مهباً ولا ندرك لها مستقراً

وعندي أن كل أديب ينشئ لنفسه بلاطاً لينظر إلى من  حوله نظرة الأمير إلى أتباع يسيرون في ركابه، إنما هو مدع دخيل  يسد على نفسه كوى الإلهام ويقيم بغروره عقبة في سبيل اعتلائه الأدب رسالة لخير الأمة وخير المجتمع الإنساني، والأدباء  متضامنون في تأدية هذه الرسالة وإن اختلفت مراتبهم، وأرقى  الأدباء مرتبة من يرسل نظراته مفتشاً عن أديب يحاول الصعود  ليمد إليه يده ويسدد خطاه ويصحح أخطاءه، لا من يزدري  أترابه المساوين له ويحتقر المتحفزين للحاق به

إن أقطاب الأدب قادة فيالق في عالم التفكير، وشر القواد  من احتقر الجنود لأن عظمته تقوم على شجاعتهم، وخلوده يبنى  على كواهلهم

فإذا كان الرافعي لم يسلم في حياته الأدبية من ثورات غضب  حولت عبقريته إلى النضال العنيف؛ فما كان ذلك إلا لأنه وهو  يتسلق المرتقيات ويمد بساعديه إلى ما فوق لم تعثر يداه إلا على  أرجل ترفس استكباراً وحسداً، فاضطر إلى تصفيح قبضتيه فولاذاً البقية في العدد القادم

اشترك في نشرتنا البريدية