الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 211الرجوع إلى "الثقافة"

مصير العالم الاسلامى بعد الحرب

Share

لم يكن بد - وقد شملت هذه الحرب كوكب الأرض كله ، بحره وبره وجوه - أن يصل لهيبها إلي العالم الإسلامي ، وان تعاني أقطاره المختلفة ويلاتها بدرجات تختلف عنفا وشدة من بلد إلي بلد ، ومن قطر إلي قطر وليس من السهل ان نذكر اسم بلد إسلامي واحد قد سلم من شرها السلامة كلها .

لقد ثارت هذه الحرب أول الأمر لسبب عجيب ، وهو النزاع على دنزج والممر البولوني ما بين بولنده والمانيا ولكن هذا السبب المباشر لم يكن إلا الشرارة التي أوقدت نارا قد أعد لها الحطب الكثير ، والوقود المتراكم أكداسا فوق أكداس والعالم الإسلامي بعيد كل البعد عن نشأة هذه الحرب ، ومبادئها الاولى ، وأسبابها المباشرة ، بل لعله بعيد كل البعد أيضا عن أسبابها غير المباشرة . فشتان بين بولنده والمغرب الأقصي ، وما أبعد الصيحة بين دنزج وبلاد الملايو

سهم أصاب ورامية بذي سلم

                              من بالعراق ؛ لقد أبعدت مرماك

وعلي سطح الارض ثلاث دول في برلين وروما

وطوكيو ، قضت السنين تعد للحرب عدتها الجهنمية . ولا تخفي تلهفها لأن تشب لظاها ، لكي تحقق امالا أملتها ورغبات اشتهتها . وفي المعسكر الآخر دول رقدت على جوانب البركان ، وانساها طول الأمن ويسار العيش . عهود الرعب والفزع ، وظنت انها من العظمة والمجد بحيث لا يجرؤ عليها عاد ، ولا تمتد إليها يد بسوء . ومعسكر الطغاة يتدجج بالسلاح على مسمع من الديمقراطية وبصرها فلم يكن بد من ان ينفجر البركان ، وان يحرق لظاه شعوبا كانت أمنة وادعة . وقد اصطلى العالم الإسلامي بأوار حرب لم يكن له فيها ناقة ولا جمل ، ولم تكن له يد في اسبابها القريبة أو البعيدة :

لم أكن من جناتها علم الله وإني بحرها اليوم صال

ولكن العالم الإسلامي كله تقريبا ، لم يقف من هذا النزاع الهائل موقف العابث غير المكترث ، ولئن اختارت معظم البلاد الإسلامية موقف الحياد في نزاع لم تمكن لها بد في إثارته ، فإنها من غير شك لم تكن محايدة بعقولها وقلوبها . لقد كانت بين الدول الإسلامية

والديمقراطية مشاكل واختلافات ، بعضها قد بت فيه بما يرضي الطرفين ، وبعضها لا يزال رهين الحل . ولكن البلاد الإسلامية ، مهما كانت نقطة الاختلاف بينها وبين الدول الديمقراطيه جسيمة ، ومهما كان الوصول إلي حل يرضي الفريقان عسيرا ، فإن المبادي الأساسية التي يقوم عليها نظام الدول الاستبدادية ، هي مما لا يمكن لبلد إسلامي أن يستسيغه . ولقد نادي زعيم من زعمائهم في يوم من الأيام بأنه حامي حمي الإسلام ، فلم يثر هذا النداء بين المسلمين هتافا ، ولم يدخل إلي قلوبهم أمنا ولا اطمئنانا ، بل أشفقوا أن يكونوا قد ظن بهم الضعف وتفرق الكلمة والعجز ، بحيث أصبحوا في حاجة إلي مثل هذه الحماية ومن الواضح البديهي أن المسلمين لن يأتيهم النصر إلا من أنفسهم ، ولن يكونوا في حمى إلا حماهم ، ولن يذود عنهم الأذي إلا جهدهم وأعمالهم . واليوم وسط هذه العوائق التي تجتاح العالم ، يكون أخرق الخرق وأحمق الحمق أن نقعد محدقين في هذه الحوادث الجسام ، منتظرين العقد العديدة لكى تنحل من تلقاء نفسها ، وأن يأتينا الخير محمولا علي الراح دون أن نسعى إليه أو تقتحم إليه السبل وفي الأيام العصبية التي تجتازها اليوم تتوالي الحوادث ، وتتبدل الأوضاع والأشكال بسرعة عجيبة . ولقد يبهرنا وقعها ، وسرعتها ، عن التفكير في عواقبها ومصيرنا من بعدها فإذا جاءت الخاتمة فجأة ألفينا أنفسنا حائرين موزعي الرأي ، عاجزين عن أن ندلي بحل المشاكل العديدة التي نعانيها ، أو أن توجه شئون بلادنا الوجهة التي تضمن للشعوب الإسلامية نصيبا من الأمن والكرامة .

فإذا تحدثنا اليوم عن مصير العالم الإسلامي بعد الحرب ، فإننا لا نريد بهذا أن ندل بنبوءة ، أو أن نتكهن بما ستكون عليه الأقطار الإسلامية بعد أن تضع أوزارها ؛ وإنما نريد ان نشير إلي الضرورة الملحة لان ينتبه قادة كل شعب من الشعوب الإسلامية إلي ضرورة المبادرة بالتفكير في شئون شعبهم ؛ وأن يرسموا الخطة منذ الآن

لبرنامح إصلاحي واسع مديد يبلغ به شعبهم ما يطمح إليه من العزة والرفاهية

وإذا كان هنالك نبوءة نستطيع أن ندلي بها دون أن تخشى أن تكذبها الحوادث ، فهي أن الشعب الذي يقصر في إعداد نفسه منذ الآن ، والذي يهمل التفكير وقت الحرب في مصيره وقت السلم ، فستداهمة الحوادث ، وهو في حال قصور وعجز وقلة إدراك لمصالحه العاجلة والأجلة ، فيفقد زمام قيادة نفسه ، ولا بد أن يتولاها عنه غيره

ولقد يقال : إن هذا الكلام صحيح في كل وقت ، وينطبق على زمن السلم والحرب علي السواء . وردا علي هذا كفي إن نشير إلي الجهود الكبيرة التي تبذل في امريكا وبريطانيا للتفكير اثناء الحرب في مشروعات ستنفذ وقت السلم ولاظهار الحجة في هذا يحمل بنا ان نذكر :

أولا : أن حربا كالتي تدور الآن تمثل عهدا تتطور فيه الأحداث بسرعة كبيرة تشبه الثورة . فالتقلبات التي كانت تستغرق أعواما ، قد لا تستغرق اشهرا أو أياما اذكر كيف عرض المستر تشرشل علي فرنسا في اتحاد الدولتين ، وجعلهما دولة واحدة في صيف عام ١٩٤٠ ولم يقبل عرضه ؛ وكيف رضيت حكومة بريطانيا ان تعير او تؤجر للولايات المتحدة قواعد للطائرات وللسفن في المملكات البريطانية ، وبذلك ارتبطت دولتان عظيمتان برباط وثيق من التعاون ، هيهات ان يضعف او يهن وكيف مدت بريطانيا يدها إلي الهند بمشروع  يضمن لهذا القطر الكبير حقا واسعا في توجيه مصيره وتحقيق أمانيه . فهذه الأمثلة تظهر بوضوح كيف تعجل احداث الحرب تطورات ثورية لم يكن من السهل التفكير فيها ، او الدعاية لها وقت السلم العادي . ومثل هذا يقال ايضا في دعاية المحور لإنشاء نظام جديد ، أيا كان هذا النظام

ثانيا : في حرب هائلة كالتي تدور اليوم يطلب إلي الشعوب جماعات وافرادا ان تبذل تضحيات جسيمة في النفس والمال ، وان يحتملوا ضروبا من الذل والضيق ،

وألوانا من المكاره والحرمان ، وأن يقبلوا عن رضي أنواعا من التعسف والاستبداد الذي لا بد منه ، وان تضيق عليهم حريتهم وهي أعز شئ جاهدوا القرون الطوال لنيله والتنعم به ، فيضحوا بكل هذا عن رغبة ورضي ، ويعدون من ضروب الجلد والصبر ما يعد من معجزات النفس البشرية .

ولكل من هذه الشعوب أمان وأمال ومشروعات للإصلاح كانت تمشي وقت السلم بخطوات بطيئة ، وتلقي من القادة وأولي الأمر الوانا من المعارضة وضروبا من التعنت يقف بها احيانا عن التقدم . وليس بمعقول ان هؤلاء القادة ، بعد أن طلبوا من شعوبهم كل هذه التضحيات ، فبذلتها عن رضي ورغبة ، ان يقيموا العقبات وقت السلم في سبيل تلك المطالب والرغائب .

ثالثا : في هذه الحرب التي شملت كوكب الأرض كله لم يكن من الممكن أن تحترم حرمة الأراضي المستقلة في البلاد المحايدة ، فدخلت الجيوش المحاربة عنوة أقطارا لم تكن لها يد في هذه الحرب ، وفرضت على الشعوب المحايدة التي تسكنها ألوان من الشدة ، وضروب من التضحيات المختلفة . ولا بد من التسليم بأن هذه الأعمال من الضرورات التي لم يكن عنها مندوحة . وقد أدركت روسيا هذا الأمر منذ بداية النزوح ، فبادرت بإحتلال دول البلطيق في الشمال وإقليم بساراييا في الجنوب ؛ وأسرفت ألمانيا في انفاذ هذه الخطة بالإغارة على دانمارقه ونروج ، ثم على بلجيكا وهولنده عام ١٩٤٠ ، ثم مضت في خطتها هذه باحتلال البلقان في ربيع ١٩٤١ . واضطرت الدول الديمقراطية أيضا لأن تنهج هذا النهج باحتلال إيران وسوريا ، والإغارة الأخيرة علي بلاد المغرب ، وبالاستكثار من جيوشها في أقطار اسلامية عديدة ، وما يتبع هذا كله من ضروب الضيق والتضحيات التي طلب إلي الشعوب المحايدة أن تتحملها فقبلتها راضية مختارة وقد أدرك قادتها أن الحرب العالمية تخلق ظروفا شاذة ، وتتناول شئوناتهم العالم كله ، فلا ينبغي وقت الحرب أن يصر أحد علي التمسك الشديد بالحقوق المحلية الصرفة ، مهما كانت مقدسة وطبيعية

ولكن قبول هذه التضحيات يفرض على قادة هذه الشعوب ان يعدوا العدة لتحقيق امانيها ، ويجب الا يهملوا في رسم خطة واضحة مستكملة جميع اركانها وتفاصيلها الدقيقة منذ الآن ، وإلا اضطروا - وليست لديهم مثل تلك الخطة - أن يقبلوا ما يرسم لهم ويفرض عليهم

رابعا : وأخيرا لا بد لنا أن نذكر أن حربا عالمية هائلة كالتي تدور اليوم تتطلب ( إنفاق آلاف الملايين ، والإقدام علي أعمال في منتهي الجرأة والسرعة المدهشة في الإجراءات التي تتخذ ، وكل هذا ينشأ عنه ما يسمى ) عقلية الحرب " . وكثير من صفات هذه العقلية يظل قائما بعد انتهاء الحروب فيعتاد القادة كما يعتاد الناس أن يبت في الأمور بسرعة ، وان تقرر مشروعات تنطوي علي الحياة النادرة ، وان تنفق في سبيل ذلك الأموال الضخمة ، فإذا كانت هنالك مشاريع مدروسة ، وخطط مرسومة ، امكن تنفيذها من غير تردد ، ولم تقف العوائق المالية حاجزا يحول دون التنفيذ . وإنما الخطر كل الخطر في مثل هذه الحال ، الإقدام على أعمال لم يتضح التفكير فيها ولم يتناولها البحث الدقيق . ومن المعروف ان الحرب إذا داهمت شعبا لم يستعد لها عاني من الكوارث الشداد كل ويل وعذاب ، ولكن الذي لم يفهمه الكثير إلي اليوم أن الأمم يجب أن تتأهب للسلم كما تتأهب للحرب . وإهمال الاستعداد في كلا الحالين يعقب ويلات للفريق المهمل ، ويعطل التقدم أجيالا .

وهكذا نري في وضوح أن الحرب العالمية فترة تققلبات ثورية في حياة الشعوب وكيانها ، ومرحلة من مراحل التطور السريع . والدول الإسلامية لا تستطيع ان تقضي هذه الفترة في جمود سلبي ، وعجز عن انتهاز الفرص ، وقلة إدراك لما تجيش به صدور أفرادها من أمان ورغبات .

ولقد يعترض معترض بأن الشعوب الإسلامية التي لم تخض غمار الحرب لا ينبغي لها ان تطالب بنصيب من ثمرات النصر وهذا القول إنما يكون صحيحا إذا كانت الشعوب الإسلامية تطالب بحصة من اسلاب القتال وغنائم المنتصرين . فأما والأمم الإسلامية إنما تطالب بحقها الطبيعي

في الحرية والحياة ، وبأن تساهم في الحياة الدولية المنتظمة ، التي لا بد من إنشائها بعد نهاية الحرب ، فإن مطالبها هذه منطقية على ابسط قواعد العدل والإنصاف

وهنالك ناحيتان من التفكير أو ثلاث لا بد لقادة الشعوب الإسلامية أن يعالجوها بالبحث الدقيق ، وان يصلوا في كل منها إلي خطة واضحة ورأي صريح

أولها ، المسائل الخاصة بكل قطر من الأقطار الإسلامية على حدة ، فإن لكل بلد إسلامي مشاكله الخاصة التي لابد أن تحتل المكان الأول من تفكير القادة ؛ والنجاح في هذا الأمر الأول هو الأساس الذي يبني عليه كل شئ . والهدف الطبيعي لكل شعب إسلامي أن ينال نصيبه من الحرية والاستقلال ، وان توفر لجميع الطبقات اسباب المعيشة الرغدة والتقدم المطرد ؛ فإذا كانت هنالك عقبات دون هذا الهدف سواء اكان ذلك في علاقة ذلك القطر حكومته الخاصة أو بحكومة اجنبية ، فلا بد من المبادرة بعلاج تلك العلاقات والوصول بها إلي حل يرضاه الجميع .

ومن العبث أن يقال إن الدول الكبرى تقيم عراقيل في سبيل الشعوب الصغيرة ، فقد بات واضحا لكل مفكر فى كل قطر أن الاستعمار القديم مقضي عليه بالزوال ، وان هنالك صيحات قوية تنادي بأخوة الشعوب والأمم ، ولا بد للشعوب الإسلامية ان تستغل هذه القوي التي تعمل للخير وان تتصل بها وتتعاقد معها

ولا بد لنيل الشعوب الإسلامية امانيها من ان توحد كلمتها ، وان يتضامن قادتها . وأكبر الخطر أن تواجه العالم برأي موزع ، وقيادة اوهنها الانقسام ، وكيد بعضها لبعض . ومن السخف البين ان ننتظر من العالم ان يكون ارأف بنا من انفسنا ، وان يرحم من لا يعرفون كيف يرحمون انفسهم .

الأمر الثاني الذي لا بد لقادة المسلمين أن يفكروا فيه هو التعاون الوثيق بين الامم الإسلامية والروابط التي تربطها بعضها ببعض . ومن الإسراف ان نتوهم ان من الممكن إيجاد اتحاد سياسي يضم جميع الأمم الإسلامية

وأولي بنا أن نستبعد جميع الاحتمالات الوهمية التي تستنفد جهود الباحثين دون أن توصلنا إلي نتيجة ؛ وإنما السهل الميسور إنشاء تعاون ثقافي اقتصادي بين الشعوب الإسلامية ، وأن ينظم هذا التعاون تنظيما واضحا

والشعوب الإسلامية بينها عطف ومودة لا سبيل إلي انكارهما ، ولكن مثل هذا العطف في حاجة إلي التنظيم ايضا بحيث يستطيع العالم الإسلامي كله ان يحس الالم الذي يسبب فردا  من أفراد اسرة الشعوب الإسلامية ، وان يبذل جهدا مشتركا في إزالة ذلك الالم وإذا انشئ بعد الحرب نظام دولي يضم جميع الشعوب ، فلا يمنع هذا من ان تكون الشعوب الإسلامية أسرة قوية في داخل هذه الجمعية الكبرى .

فإذا استحر بين الدول الإسلامية خلاف - كما قد يحدث بين الإخوة وأبناء العمومة - فلا بد أن يشتمل نظام التعاون بينها علي وسيلة لحل هذا الخلاف في داخل الأسرة الإسلامية ، دون أن يلتجأ إلي عصبة الدول الكبرى .

والأمر الثالث والأخير ، الذي لا بد أن يتناوله التفكير والتدبير ، هو ذلك النظام العالمي الجديد الذي لابد من إنشائه لكى يضمن العالم به حياة السلم بين الشعوب ومعاقبة كل من يعكس صفاء وجسم كل نزاع يخشى أن يستفحل ويؤدي إلي كارثة كالتي نعانيها اليوم . ولقد شقيت جميع الأقطار الإسلامية بويلات هذه الحرب كما شقي بها غيرها في واجب قادة الدول الإسلامية ان يكون لهم نصيب في إنشاء وبناء النظام الجديد الذي لابد من إقامته لضمان قسط معقول من الهدوء والاطمئنان لسكان هذا الكوكب المسكين

هذه هي الأمور الثلاثة التي لا بد لقادة العالم الإسلامي ان يضطلعوا بها ، وان يؤدوا الأمانة عن شعوبهم بجد وإخلاص وإنكار للذات فإذا لم يوقفوا في هذا ، فإن مصير العالم الإسلامي بعد الحرب سيتقرر بواسطة الناس من غير أهله ، ويكون من الظلم ان يلام هؤلاء الناس إذا اهملو مصلحة من مصالحه او نسوا امنية من أمانية والذين يهملون تنظيم منزلهم واضطروا غيرهم لأن يتولى هذا الامر عنهم ، فلا ينبغي لهم أن يلوموا إلا أنفسهم

اشترك في نشرتنا البريدية