الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 263الرجوع إلى "الثقافة"

مطالعات أثنات " ، روزفلت، قبل الأربعين

Share

المعروف الشائع عند الناس أن سن الأربعين هي السن  التي يكتمل فيها الجسم ، ويتسم فيها العقل ، وتزدهر عندها في الحياة الآمال . لا تلك الآمال الصغيرة التي تكون والحياة صغيرة ، ولكن تلك التي تكون كبيرة ، وقوة الحياة الدافعة في أشدها ، والقوة العاقلة في عنفوانها ، والقلب الجياش في فورانه .

تصور نفسك وقد بلغت هذه السن ، أو طلعت على مشرف قريب منها . ثم تصور أنك في كنف هذه

السن تستمري العيش ، وتحس دفء الحياة حتى يكاد يكون الدف اصطلاء ، وتحسه في ماض سعيد ذي جاه وذي ثراء ، وتسه في حاضر يدل بشائره علي مستقبل بالنجاح أملأ ، وبالعمل أزخر ، ثم تصور أنك ذهبت يوما إلي فراشك تستجم من برد أصابك ، ثم أخذت تحرك يسري رجليك فأبت عليك الحركة ، ثم أخذت بعد قليل تحرك بمناهما فأبت عليك الحركة ، ثم استطلعت رأي الطبيب استطلاع موجس لهفان ، فقال لك إنه الشلل ،

وإنه " لشلل الأطفال " وإنه داء عياء لا حيلة فيه للأطباء إلا أن يشاء الله ، وقليلا ما يشاء . فكم يبقي عندك وعندي بعد هذه من الحياة ودفئها ، وإلى أي شئ كان يتطاول بنا الأمل ؟ إلي السكون إلي بقية من العيش تستنفذها في ركن هادىء  من أركان الدنيا لا يكاد يرانا فيه أحد ، ولا يكاد يسمع بنا فيه أحد ، ولا تحب أن ترانا فيه عين ناظر ، أو تحس بوجودنا فيه أذن سامع ، حتى من ذوي القربي الأقربين ؟ أم ترانا يتطاول بنا الأمل إلي معترك الدنيا ، إلي حيث موج الحياة أعلى وأصخب ، نطلب  ، لا السيادة في قرية ، ولا السيادة في مدينة ، ولكن نطلب السيادة في أمة ، وفي أمة من أمم الأرض العظيمة ؟

لقد اختار روزفلت ، لما أكمل عند باب الأربعين شبابه ، وأصابه عندها من عنت الأقدار ما أصابه ، اختار معترك الحياة الأصخب . واختارت له أمه ركن الحياة الأسكن ، فأبي عليها . لقد أبي أن يعترف بعجزه ، فكان هذا له أول نصر مبين . وكان نصرا في ميدان النفس ، وهو أصعب الميادين ارتيادا ، وأخفاها خدعا . والمنتصر فيه يهون عليه من بعده انتصار يرومه في ميدان سياسة أو ميدان مال ، أو في ميدان حرب وتزال . وبهذا النصر الأول ، بهذا النجح الأول ، تابع صاحبنا نجاحه في الحياة حتى صار منها إلى ما نعرف : ثالث ثلاثة في أيديهم زمام هذه الكرة من بعد الله ، إذا سئلت أي هؤلاء الثلاثة أعظم ، وأيهم أفخم ، وأيهم أعلى كعبا وأرفع نجما ، لم ندر كيف نجيب .

ولد فرنيكلين روزفلت  FranKlin Rooseveilt في الثلاثين من يناير عام ١٨٨٢ ، فهو متمم عامه الثاني والستين هذا الشهر . وكان أبوه جيمس روزفلت مزارعا ذا ثراء ، وأنجبه أبوه  من زوجة له ثانية . ونشأ في

حجر هذا البيت ، في حضن الريف ، وعلى النهر ، نهر هندسن ، فتعلم على الأرض ركوب الخيل ، وتعلم على الماء قيادة السفن . ونشأ في غير مدرسة ، فقد علمه في البيت أبوه وعلمته أمه . وجري مع والده في الريف الطلق  فتعلم من الطبيعة الخبرة ، وشرب من أفاويقها  وكان وحيد أمه  ، فوجد بعض أنسه عند الجيران ، فلعب مع أطفالهم ، ومعهم درس اللغات وما تعلمه المدرسة من علوم .

وبلغ عامه الخامس عشر ، فبعث به أبوه إلى مدرسة خاصة من خير المدارس ، مدرسة جروتن Groton . وفي هذه المدرسة دخلت في نفسه الريبة ، أول ما دخلت ، من هؤلاء الفتى من ذوي الثراء الذين يطلبون لنفسهم ، حتى على صغرهم ، مركزا بين الناس ممتازا ، يكسبونه علي الأكثر بالترفع عن الفقر ، والتحاجز عن الكافة ، وفي هذه المدرسة تابعة شفقه بالماء ، وقيادة السفن من فوقه وجمع كتبا كثيرة عن السفن وأساطيل البحار ، صارت له من بعد ذلك مجموعة من خيرة  المجاميع في هذا الموضوع ، كان من أثرها في حياته المستقبلة ما كان . وقامت الحرب بين الولايات المتحدة وأسبانيا وهو في هذه المدرسة ، فتركها يطلب أن يلتحق بأسطول الولايات بحارا، ولكن الحصبة أصابته عندئذ فارتد بها على أعقابه .

وبلغ الثامنة عشرة في عام ١٩٠٠ ، فذهب إلي الجامعة الشهيرة جامعة هارفرد  Harvard . فأظهر بها ذكاء ممتازا ، ولكن فانه صبر التحصيل . وهو إن لم يبلغ فيها مبلغ الطالب الذي يصل بالدرس ليله بنهاره ، فقد تفتق فيها ذهنه ، واتسع أفقه ، وغذائه بالمثل الطيبة فيها أساتذته . ووقع له في هذه الجامعة ما وقع في تلك المدرسة : اشمئزاز صارخ من جمعيات تلك الجامعة ، فهي جماعات

طلبت الترفع عن الناس بالتحاجر عنهم فرأي في ذلك الترفع غرورا ، ور أمى  فيه كذبا . واختبر عضوا في هذه الجمعيات فلم يمنعه ذلك من إعلان سخطه وقاد الحملة عليها . وقد كان له أن يستمتع بما يستمتع الأعضاء منها ، ولكنه لم يكن به استمتاع بغرور ولا إقرار لأحد بمكانة كاذبة .

وما جاء عام ١٩٠٤ حتى كان روز قلت قد انتقل من جامعة هارفرد إلى مدرسة الحقوق بجامعة كولومبيا . وفي عام ١٩٠٥ بدأ عمله في القانون ، فالتحق بشركة المحاماة في مدينة نيويورك .

وفي هذا العام ، عام ١٩٠٥ ، وهو في الثالثة والعشرين ، وهو أملا ما يكون حياة ، وأكثر ما يكون جمال رجولة ، وأبسم ما يكون ثغرا ، تزوج زوجته التي كان لها في حياته ، وفي حياة الولايات من بعد ذلك دور غير قليل . وكانت هذه الزوجة إليبنور روزفلت . ولم تكن بابنة عمه وإن أوهم اسمها بذلك ، ولكنها من بنات أعمامه البعيدين . وكان عمها عند ذاك رئيس الولايات المتحدة ثيودور روزفلت Theodore Roosevelt وهو الذي حضر إلي مصر من بعد ذلك ، وإليه وجه شاعرنا شوقي حديثه في قصيدته " أنس الوجود " ، حيث قال :

أيها المتنحي بأسوان دارا

كالثريا تريد أن تنقضا

اخلع النعل وانخفض الطرف واخشع

لا تحاول من آية الدهر غصا

وكان ثيودور روزفلت جمهوريا . وكان فرنكلن روزفلت عند ذاك ديمقراطى الميل ، ثم كان ديمقراطى  المنهج من بعد ذلك ، فقد باعدت المذاهب بينهما كما باعدت الأرحام .

وحضر ثيودور الزفاف بالطبع ، فقد كان وصي الزوجة ومهدبها في الحفل إلى زوجها . وكان حفلا أرستقراطيا من الأحفال النادرة . وقد أكسب الرئيس الحفل وجاهة ، ولكنه استأثر بأنظار الناس . ودخل الرئيس إلى مكتبة الدار فتجمهر حوله الناس يستمعون له وخلا المكان بالزوجين حيث كانا ، فلم يكن لهما بد إلا اتباع الجمهور ، فذهبا إلي المكتبة مع الذاهبين ، ووقفا عند حافة الجمع يستمعان مع المستمعين .

ويجئ عام ١٩١٠ ، فيفتح لصاحبنا باب السياسة أول انفتاح . خلا مقعد في مجلس شيووح ولاية نيويورك ، وكان شغل هذا المقعد شيخ جمهوري . وأراد الديمقراطيون أن يشغله ديمقراطي . فبحثوا عن رجل يجمع إلي أصالة الاسم وجاهة الثراء ، فوقعوا على فرنكلن روزفلت . وكان في الثامنة والعشرين فانتهر هذه الفرصة ليتذوق السياسة أول مذاق وطاف بالولاية مطاف قادر . وطافها في سيارة . وكانت سيارات هذا العصر - ويعلم هذا من حضر منا هذا العصر في مصر - سيارات لا تكاد تهم حتى تقف ، ولا تكاد تبدأ حتى تنتهى . فكان روزفلت كلما وقفت سياره للإصلاح ، انتهزها فرصة لخطبة الناس . وفار بالمقعد .

ولكنه لم يلبث أن خيب رأي الحزب فيه . فقد كانت مجالس الشيوخ بالولايات تختار مجلس شيوخ الدولة شيوخه . وكان الحزب الديمقراطي قد اختار رجلا لمجلس شيوخ الدولة لم يكن ممن ترتاح له كل الضمائر . فرفض روزفلت قبوله . وتزعم حركة تدعو إلى رفضه . واستشاط الحزب غضبا ، وهددت آلته بهرس من يتصدى لحركتها ، ولكن روزفلت صمد ، وصمد له أصدقاء  له في الحزب . وانتصر وانتصروا أخيرا . فاختار الحزب رجلا أقمن بالمقعد وأولى .

ولم يكن روزفلت في هذا على حزبه متجنبا فقد أعلن في البدء لمختاريه  أنه لن يرتبط برأي فرد ولا آلة حزب ، كائنا ما كان ، ما خالف ذلك رأيه .

ويمر عام فتتهيأ الأحزاب للصراع على رئاسة الولايات المتحدة . ويتخذ الديمقراطيون ولسن  - الدكتور ودرو ولسن  Woodrow Wilson   ، الرجل الاكاديمى ، أستاذ الجامعة ، ورئيس جامعة برلستن - يتخذونه مرشحا لهذه الرئاسة . ويشترك روزفلت في الصراع ديمقراطيا . ويجاهد في هذا ذا رحمه الأبعد ، ثيودور روزفلت ، رئيس الولايات الأسبق ، فقد كان تنصب مرشحا جمهوريا . ثم يخفق ثيودور ، ويفوز ولسن في الصراع . ويفوز فرنكلن روزفلت بمنصب في وزارة حبيبة إلي قلبه من أيام صباه . ذلك منصب سكرتير مساعد في وزارة البحرية .

كان هذا عام ١٩١٣ . وكان روزفلت في الحادية والثلاثين من عمره .

وتأتي الحرب العالمية الأولى ، حرب عام ١٩١٤ . وتأخذ تقترب من شواطئ الولايات  كما اقتربت هذه الحرب الحاضرة . ويأخذ روزفلت الشاب يوجس من اقترابها خيفة ، كما أوجس خيفة من مثله في هذه الحرب الحاضرة . ويحاول ان يقنع رئيسه رئيس الدولة ، ولسن ، بالتوسع في الأسطول ، والاستعداد قبل الفوات . ولم يقنع ولسن إلا بعد أن كثر عن نابه الشر ، ولم يعد بعد من الحرب مفر . وعندها أنفق روزفلت جهده في إعداد الأسطول للنزال . ودخلت أمريكا الحرب ولم يكد يتسم من ذلك بعض ما اعتزم ولا شك أن كان له فى هذه التجربة الأولى ، في تلك الحرب الأولى ، خير معوان لتجريته هذه الثانية ، في هذه الحرب الثانية ، والموقف واحد ، والعدو واحد ، وله مكان ولسن ولا سنة كثيرة .

وفي الحرب زار أوروبا ، وزار انجلترا ، واتصل برجال السياسة حينما ذهب . وجاءت الهدنة ، وجاء السلم ، فزاده عمله فيهما اتصالا بالرجال . وعاد ولسن إلى الولايات ، ومعه روزفلت ، وعصبة الأمم . وبدأ ولسن حملته لفكرة العصبة ، وحملها معه روزفلت ، فخابا جميعا . وجاء ميعاد الانتخابا لرئاسة الجمهورية ، فنصب الديمقراطيون روزفلت وكيلا للرئيس ويلى روزفلت وعلى الديمقراطيون حملتهم على أساس العصبة ، وأساس اتخاذها نظاما عالميا يحدد علاقات ما بين الأمم على أصول من التسامح ابتدعها هذا الديمقراطى الأكاديمى ، أستاذ الجامعة ، وخاب فيها ، وخدع كما خدع أبو موسي الأشعري ، قبل أن تطأ قدماه ساحل الولايات عند عودته . وخاب روزفلت في هذا الانتخاب ، وخاب الديمقراطيون .

وصنع روزفلت بعد ذلك ما يصنعه كل عاقل : تنحى جانبا ليترك للعهد الجديد أن يجرب حظه من جديد . وعاد إلي ممارسة القانون .

كان هذا عام ١٩٢٠ . وجاء عام ١٩٢١ فأتاه أمر الله بهذه النارلة الجثمانية التى صدرنا بها هذا الحديث . وكان في التاسعة والثلاثين . وحاطته أمه ، وحاطته زوجته بالرعاية . وضربا حوله هذا الجو الذي لا يضر به غير الخلصاء إذا سقط الساقط العزيز ، ليخففوا وقع السقطة ، وليصلوا ذلك الحبل الذي انقطع أو كاد بالحياة وانضم إلي الزوجة والأم صديق صدوق - لويس هاوي   Louis Howie  وجعل من واجبه إدامة الصلة بين صديقه والحياة العامة . ومضى عام ، وثان ، وثالث ، والحركة في رجليه تأبي أن تعود ، ولكنه ظل باسما مستبشرا

ملحوظة : في العدد القادم : " روزفلت بعد الأربعين "

اشترك في نشرتنا البريدية