- 4 -
ليس الباب السادس والخمسون من كتاب عوارف المعارف الذى أريد أن أحدثك عنه فى هذا الفصل بابا من أبواب التصوف فحسب وإنما هو قد جمع إلى المكاشفات الصوفية مذاهب فلسفية ونظريات يسيكولوجية لها قيمتها من حيث إظهارنا على معرفة ماهية النفس والروح والقلب والعقل من ناحية. وفي الإبانة عن علاقة هذه الأشياء بعضها ببعض وإعتماد بعضها على بعض وتأثير بعضها فى بعض من ناحية أخرى.
ويرى مؤلف عوارف المعارف بادئ ذي بدء أن الكلام فى الروح صعب المنال. وأن الإمساك عنه خير من التعرض له والإشارة إليه. فقد قال تعالى فى كتابه العزيز: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) وهذه الآية الكريمة هى التى هبط بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله اليهود أن يخبرهم عن الروح وعن كيفية تعذيب الروح التى فى الجسد. ولم يكن قد نزل على النبي حتى ذلك الحين شيء فى الروح فنزلت هذه الآية. وهي تدلك دلالة واضحة لا لبس فيها ولا غموض على أن معرفة ماهية الروح أمر مقصور على الله وحده. وإذن فكيف يتسنى لمخلوق أن يخوض فى هذا الموضوع أو يشير إليه وقد أمسك النبي عنه؟ أليس الأجدر بالإنسان أن يتركه جانبا تشبها برسول الله واستمساكا بتأدبه؟ على أن الفلاسفة والعلماء لم يقفوا عند هذا الحد وإنما عرضوا للروح فتناولوها بالبحث والتحليل وحاولوا محاولات شتى، أرادوا أن يكشفوا بها عن ماهية الروح وكنهها ومصيرها بعد الموت. وهم فى محاولاتهم هذه اختلفوا فيما بينهم اختلافاً قويا نلمسه فى تضاعيف كتبهم التى أودعوها آراءهم ومذاهبهم. ومن هنا ترى مؤلفنا يقول أنه لم يوجد اختلاف بين أرباب النقل والعقل فى شيء كالاختلاف فى ماهية الروح. وأنك لتراه يقول ايضاً إن من بين الذين تناولوا هذا الموضوع قوماً ركبوا متن الشطط فخرجوا على الشريعة وخالفوا أصول الدين. على حين أن من بين الذين استمسكوا بالشريعة وتكلموا فى ماهية الروح قوماً اعتمدوا فى تحليلهم للروح على الاستدلال والنظر. وقوماً آخرين كانت طريقهم طريق الذوق والوجد. ومن هنا خاض علماء الصوفية فى موضوع الروح وأرادوا تعرف ماهيتها، وكان الأولى بهم والأجدر أن يمسكوا عن ذلك تأدبا بأدب النبي.
وبعد أن أظهرنا مؤلفنا على ما لمسألة الروح من خطر عظيم ودقة فائقة تعلو على إدراك الإنسان نراه يعمد إلى تدعيم رأيه بذكر طائفة من أقوال المتصوفة رأوا رأيه وذهبوا مذهبه فى أن الروح أمر يتعذر إدراكه ويدق فهمه. ومن بين الأقوال التى ذكر قول الجنيد الذى جاء فيه: (الروح شيء أستأثر الله بعلمه ولا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود) وقول أبي عبد الله النباجي الذى يظهرنا فيه على أن الروح جسم يلطف عن الحس. ويكبر عن اللمس. ولا يعبر عنه بأكثر من موجود.
وقد اختلف الناس فى الروح هل هو قديم أم محدث. واختلفوا أيضاً فى أمر الروح الذى سئل عنه رسول الله. فذهبوا فى ذلك مذاهب شتى وأدلوا بآراء تختلف فيما بينها اختلافا ظاهرا قويا. ولعل أهم ما يلاحظ على هذه الآراء انها تدور جميعا حول الروح الذى لبس فى الجسد. فأنت ترى مثلا أن فريقا قد ذهب إلى أن الروح الذى سئل عنه النبي انما هو جبريل. وان فريقا آخر قد انتهى إلى أنه ملك. ومهما يكن من شيء فقد اتفقت هذه الآراء على أن الروح الذى هو من أمر الله شيء آخر غير الروح الذى فى الجسد والذي يرى مؤلف عوارف المعارف أن الكلام فيه مباح غير محظور.
والروح التى فى البدن هى قوامه ودعامته استحق بها أسم الحياة، بها ثبت العقل وقامت الحجة. ولولاها لتعطل العقل ولما كانت له أو عليه حجته. هى جوهر مخلوق ولكنها الطف المخلوقات وأصفى الجواهر. بها تترآى المغيبات ويكون الكشف لأهل الحقائق. وتنقسم الأرواح إلى أقسام: -
(1) أرواح تجول فى البرزخ وتبصر أحوال الدنيا والملائكة. وتسمع ما تتحدث به عن أحوال الآدميين.
(2) أرواح تحت العرش (3) أرواح طيارة إلى الجنان وإلى حيث شاءت من السعي إلى الله أيام الحياة.
وإذا كانت الروح مخلوقة فقد قال بعضهم. انها خلقت من نور العزة وان إبليس خلق من نارها. وقال بعضهم: - قرن الله العلم بالروح فهي للطافتها تنمو به كما ينمو الجسم بالغذاء.
ويتناول مؤلفنا بعدما قدمت لك أبسط آراء المتكلمين فى الروح، وهو يلاحظ أن أكثر متكلمي الإسلام يميل إلى أن الإنسانية والحيوانية عرضان خلقا فى الإنسان يذهبهما الموت. وأن الروح هى الحياة بعينها بها صار البدن حيا. فإذا انفصلت عنه أصبح ميتا،
ولكنها إذا عادت إليه يوم القيامة عادت إليه الحياة
وذهب بعض المتكلمين إلى ان الروح جسم لطيف مشتبك بالأجسام الكثيفة، وهذا رأي أبي المعالي الجويني.
على أن السواد الأعظم من المتكلمين قد انتهى إلى أنها عرض، ولكن هذا المذهب مردود عليه بالأخبار التى دلت على أن الروح جسم لما فيها من العروج والهبوط والتردد فى البرزخ. ومن ثم لا يمكن أن تكون الروح عرضا مادامت قد وصفت بأنها جسم. فليس الوصف الا معنى والمعنى لا يقوم بالمعنى.
وأما مصير الروح بعد خروجها من الجسد فقد حدثنا عنه مؤلفنا فيما أورد من كلام ابن عباس. سئل ابن عباس: أين تذهب الأرواح عند مفارقة الأبدان؟ فقال: أين يذهب المصباح عند فناء الادهان؟ قيل له: وأين تذهب الجسوم إذا بليت؟ قال: فأين يذهب لحمها إذا مرضت؟
وأكبر الظن أن آراء المتكلمين فى الروح ومذاهبهم التى أوجزها لنا مؤلف عوارف المعارف تكفي لإعطائنا صورة لا بأس بها لهذا الخلاف الضعيف الذى كان بينهم حول مسألة هى من أدق المسائل وأعوصها إن لم تكن أدق المسائل وأعوصها جميعا. ولعل دقة المسألة وخطورتها آتيتان من حيث أن باحثها مضطر بحكم بحثه إلى أن يعرض لما جاء به الكتاب والسنة ثم هو مضطر فوق هذا إلى أن يلائم بين رأيه وبين ما دعا إليه الكتاب والسنة. ومهما يكن من شيء فقد رأى المتكلمون أنفسهم امام ما يقال لهم من ان الموجودات محصورة. فكل موجود أما أن يكون قديما او جسما أو جوهرا أو عرضا. ومن هنا كان لابد لهم من أن يتعرفوا ماهية الروح ويطبقوا عليها هذا الذى قيل لهم عن حصر الموجودات. فهل الروح قديمة؟ هل هى جسم؟ هل هى جوهر؟ هل هى عرض؟ تلك أسئلة رأوا أنفسهم مضطرين إلى الاجابة عنها. وقد أجابوا عنها بالفعل. فرأى فريق منهم أن الروح قديمة لانها أمر والأمر كلام والكلام قديم. ورأى فريق آخر انها جسم. وذهبت طائفة إلى انها جوهر، وطائفة اخرى إلى انها عرض كما أشرت إلى ذلك آنفا. ويرى أبو طالب المكي أن الأرواح أعيان فى الجسد كما يرى ان النفوس كذلك. فهو يقول ان الروح تتحرك للخير ومن حركتها يظهر نور فى القلب يراه الملك فيلهم الخير عندئذ. وان الروح تتحرك للشر فتظهر فى القلب ظلمة يراها الشيطان فيقبل حينذاك بالإغواء.
يتبع

