عرض الأستاذ العلامة أحمد أمين بك على قراء الثقافة ) ١ ( الغراء خطرات ذات شأن في اللغة ، جاء في فقرة منها قوله ) إن دلالة الألفاظ على المعاني يختلف جد الاختلاف بين الاشخاص بحسب مدنيتهم وثقافتهم وعقليتهم . .
وقد ذكرتني هذه الخطرة فصلا للأستاذ ) meillet بين فيه " كيف تتبدل معاني الكلماتcomment les mots chugeut do sens
كنت قرأته في كتاب " اسيرتيه Essertier الأستاذ في جامعة بوانية عن " فلاسفة القرن العشرين وعلمائه philosophes et savants du xxe sieele
والحقيقة ان لكل كلمة معاني مختلفات وقيما متباينات .
وان لها عند كل طبقة من طبقات الناس معنى وقيمة .
ومن الواضح انه كلما اتسعت مدنية امة ، زادت ألفاظها وأفعالها ومشاغلها .
وكلما رفت حضارتها ازداد أهلوها اهتماما بناحيات من الحياة كانوا غفلوا عنها .
ثم كان لكل طبقة نظر في تلك الناحية خاص بها . ذلك لأن العقول والأفهام مختلف وتتباين ؛ فتفكير الزارع ليس كتفكير الجندي ، وتفكير السياسي يباين تفكير المتدين ، وتفكير المدرس يخالف تفكير الصانع .
ولأن لكل طبقة حاجات وأعمالا خاصة بها
ومن هنا كان اختلاف دلالة الألفاظ عند الناس .
مع أنهم ورثوا جميعا لغة واحدة ، وكلمات مختلفات
فكلمة " عملية operationمثلا ، تدل عند
الأطباء الجرراحين على الصبر والجلد ، وتمزيق المشرط الحاد اللحم والجلد ، وسيلان الدم وضربان الالم .
وهي عند مدرس الحساب ، أعداد تجمع ، وأعداد تضاعف وتقسم . .
وهي عند الصيرفي ، رؤوس اموال توضع ، وحسم يؤخذ وربا يضاف ويرفع .
فكل مهنة ، وكل علم ، وكل فن ، يعطي اللفظ الواحد المشترك معنى يوافق حاجاته ويلائمها .
وهذه الألفاظ تنتخب وتدرج على الألسنة إذا وافقت تلك الطبقة أو ذاك العلم
ويقول الجاحظ في الحيوان " ولكل صناعة ألفاظ قد حصلت لأهلها بعد امتحان سواها ، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت مشاكلا بينها وبين تلك الصناعة .
فإذا اشتركت طبقات مختلفات ، أو صناعات متباينات بكلمة واحدة ، وكانت ذات معنى واسع ، فان معناها يتسع أو يضيق حسب اتساع الصناعة أو ضيقها ، وانتشار الطبقة أو ضمورها
ويري الأستاذ " ميبه meillet ان هذا التبدل في المعنى راجع لوفرة حاجات تلك الطبقة ايضا او قلتها ، ومن ثم يضيق معنى الكلمة أو يتسع .
فالفقه لغة العلم بالشئ مطلقا ، ثم خص عند الفقهاء بعلم معروف . فضاق معناها :
والصلاة الدعاء مطلقا ، فأصبحت رسوما وحركات .
فاللفظ ، يتسع معناه إذا خرج من دائرة ضيقة إلي دائرة أكثر سعة ؛ وهو يضيق ويضمر إذا انتقل من دائرة عريضة إلى دائرة أقل سعة .
ولذا كان معنى " العملية " عند الجراح أوسع من معناها عند مدرس الحساب ، وعند قائد الجيش اوسع منه عند الجراح .
وثم أمر آخر .
ذلك أن اختلاف معاني الكلمات ليس منوطا باختلاف المهن . لان لكل جماعة ، مهما كان شأنها ، تفكيرا خاصا كما ذكرت ، وتخضع لرسوم خاصة في الدائرة التي تعيش فيها ، ولذا اثر في هذا التبدل اختلاف العقلية ، والثقافة ، والوسط الاجتماعي ، والسن :
فالنساء والرجال ، والشبان والشيوخ ، والفقراء والأغنياء ، والصغار والكبار ، لكل منهم فهم خاص خاضع لما ذكرناه .
ومن هنا كان لكل كلمة قيمة ، تختلف بين فئة وفئة . خذ النساء مثلا ، فإن لهن كلمات خاصات ليس لها الشأن نفسه عند الرجال .
فلفظ " لبس " أو " تزين " له عند النساء قيمة وشأن ؛ ذلك لأنه يدل على فعل يوجهن إليه العناية كلها . ولهن إليه ميل شديد وهوي .
لأن اللباس زينة المرأة .
والزينة سبيل الإرضاء
وليس للمرأة عمل سوى الإرضاء ، كما يقول " فينيلون " .
وإن المرأة لتجد أندي علي قلبها وأحلي ، أن تشتمها ، من أن تقول لها " إن ملابسك غير أنيقة ، وإن حذاءك قبيح " كما يقول " موروا " .
أما عند الرجال ، فليس لهذا اللفظ ، تلك القيمة كلها . وكلمة " الهو " لا قيمة لها عند الشاب اللاهي ليل نهار الرائع في اللذات كما يشاء ، ولكن ما أحلاها ، وأرفع قيمتها عند المحروم كل شئ التابع في داره لا ريم .
وقيمة كلمة " الرغيف " عند الغني الذي يحمل إليه في داره فلا يأكل منه إلا ما رق ونضج ، ثم يرمي بباقيه ، ليست كقيمتها عند الفقير الذي يفتش عن قطعة الخبز فلا يجدها إلا بعد الجهد والنصب الشديد .
فالأول ينظر إليه ولا يكاد يحفله .
والثاني ينظر إليه ويكاد يلتهمه ، بل يسرع في التهامه كله خوفا أن يطير . .
ويري الأستاذ " ميبيه meillel " ان معاني الكلمات قد تختلف بالنسبة لانعزال فئة من الفئات عن الناس ، أو اختلاطها بهم ، وبالنسبة لرجولتها أو أنوثتها ، صلابتها أو ميوعتها ، انطلاقها أو عبوديتها .
فطبيعة الفئة لها أثر كبير في تبدل معاني الكلم ، لكن هذا التبدل يتسع ويشتد ، كلما رغبت تلك الفئة في الاستقلال عن غيرها ، وكلما ازدادت رغبتها في ان يكون لها كلمات خاصات بها .
وقد يؤدي هذا إلى النحت ، أو إلى إسقاط بعض الحروف ، وإضافة بعضها ، ثم إلى لغة العوام .
ثم يحدث بكلام العامي ، ما حدث بكلام الخاصي . .
وتختلف الكلمات العاميات ، فيفهم القصابون من كلمة ، غير ما يفهمه الفتيان أو الدقاقون .
أما الهيئة الاجتماعية ، فتقاوم هذا وتسعى لتوحيد معاني الكلمات .
هذا ما ذكرتنيه خطرات الأستاذ الجليل ؛ ولعلي أعود فألخص أقوال فلاسفة وعلماء ، في هذا الموضوع ، إن شاء الله .
) دمشق (
