في بطن واد من وديان بلاد النمسا بين التلال والسهول المكسوة بالأشجار الباسقة والخضرة الضاربة، قرية صغيرة كانت قبل خمس سنوات مجهولة لا يطرقها طارق، ولا يذكر اسمها ذاكر. ولكنها أصبحت منذ سنة ١٩٢٩ محط الرحال، ومهبط الآمال، تعرفها شعوب الأرض قاطبة، ويحج إليها المريض الأوربي إنجليزياً كان أو ألمانياً أو إيطالياً أو تركياً أو مجرياً كما يحج إليها مرضى القارات الأخرى أمريكا واستراليا وآسيا وأفريقيا، تلك هي قرية جالزباخ Callspach الصغيرة التي تبعد عن فينا أربع ساعات في القطار، وتعلو عن سطح البحر بنحو٣٠٠ متر تقريباً.
عرفت تلك القرية منذ أنشأ فيها (فالنتين تسايلايس) Valentin zileis رجل المعجزات والعجائب كما يسميه أفراد تلك الشعوب، مصحته العظيمة التي كلفته نحو الأربعين ألفاً من الجنيهات. وإذا كان تسايلايس استطاع بمهارته وقدرته ومخترعاته أن يعالج بالألكتروراديوم الأعمى فيبصر، والأخرس فينطق، والمقعد فيمشي، والأشل فيبرأ، وغير ذلك من المرضى فيشفون، فقد حق لتلك الشعوب أن تطلق عليه اسم الساحر أو طبيب المعجزات والعجائب.
ولقد مكنت لي الظروف صيف هذا العام أن أتعرف إلى الكثيرين في تلك المصحة من المرضى النازحين إليها من مختلف شعوب الأرض، بعضهم لعلاج العمى، وبعضهم لعلاج الشلل، وبعضهم لعلاج الربو، وهكذا من شتى المرضى بالعاهات المختلفة، ورأيت فيهم جميعاً روحاً غريبة هي روح الثقة بالشفاء على يدي هذا الرجل إن عاجلاً أو آجلاً، كل حسب شدة المرض عنده. وقد تحدثت هنالك إلى رجل نمساوي كان أعمى وأبصر، فعلمت منه أنه مستمر في العلاج بالألكتروراديوم لتحسين قوة
نظره، وهو يتطوع أبداً لقيادة العميان وأخذهم في صف واحد ممسكاً كل واحد منه بقميص الآخر من الخلف في دخولهم إلى حجرة العلاج وخروجهم منها. كما أني تحدثت مع فتى إنجليزي، وآخر ألماني، كان كل منهما أشل لا يستطيع أن يحرك نصفه الأيسر، وبعد العلاج مرتين أو ثلاث مرات أصبح كل منهما قادراً على المشي بعرج بسيط، وكلاهما يأمل في الشفاء التام بعد تكرار العلاج مرة أخرى أو مرتين، وهناك فوق هؤلاء وهؤلاء عشرات من الشيوخ الذين يحجون إلى مصحة هذا الساحر لاسترجاع شبابهم واستعادة قوتهم. وقد قابلت هناك من المصريين عبد الرحمن فهمي بك السكرتير السابق للوفد المصري، وقد ذكر لي أنه كان يعالج عينيه مما يسمى بالذباب الطائر (1)، وأنه قد برئ منه، وأن هذه سابع مرة يحج فيها إلى تلك المصحة لأنه يشعر بعد كل مرة أن الشباب والقوة يتدفقان في جسمه، وقد حدثني كثيراً عما رأى من معجزات تسايلايس، وكان مما ذكره أنه رأى اخرس عالجه هذا الرجل بطريقته الشاذة العجيبة حتى أنطقه. ورأيت هناك أيضاً من المصريين أحمد حجازي بك عضو مجلس النواب السابق وأسرته لأول مرة له، ليعالج نفسه من الربو، وليعالج كريمته التي عجز نطس الأطباء في أوربا عن شفائها، وهو وإن لم تطل مدة إقامته هناك إلا أنه ذكر لي أنه استفاد فائدة محسوسة من العلاج، وأنه لابد أن يعود في العام المقبل مع كريمته ليستأنف علاجها مدة حتى تشفى على اعتقاده نهائياً. أما أنا وصديقي الأستاذ علم الدين القوصي فقد جمعتنا ظروف المرض العصبي الذي عجز أطباء مصر عن علاجه، فقصدنا لأول مرة تلك المصحة حسب نصيحة الدكتور يوسف قابيل مأمور القنصلية المصرية بفينا، والذي نسجل له على صفحات الرسالة جزيل شكرنا على ما لقيناه منه من مساعدة ونصيحة. قصدناها فعالجنا الساحر النمساوي ثلاثة أسابيع بالألكتروراديوم، فأحس كل منا بالتحسن الكبير في صحته، وعدنا شاكرين الله سبحانه على اهتدائنا لهذا الطبيب.
وقد حصلت على إحصاء رسمي عن آلاف المرضى الذين عولجوا في تلك المصحة في خمس سنين من سنة ١٩٢٩ إلى سنة ١٩٣٣ فكان كالآتي.
سنة ١٩٢٩: ١٠١٠٠مريض، سنة ١٩٣٠: ١٦٣٥٤ مريضاً، سنة ١٩٣١: ١٠١٥٥مريضاً، سنة ١٩٣٢: ١٢٠٩٢ مريضاً، سنة ١٩٣٣: ٧٦٧٠مريضاً، وكان عدد المرضى في شهور سنة ١٩٣٤ كالآتي.
يناير ٣٦٤، فبراير ٣٠٤، مارس ٤١٦، أبريل ٦٠٢، مايو ٦٠٤، يونيه ٧٢٥، يوليه ٨٨٣.
والذي يتتبع هذا الإحصاء يرى تناقصاً في العدد في سنتي ١٩٣٣، ١٩٣٤ ويرجع السر في ذلك إلى إقفال الحدود النمساوية الألمانية، فقد قررت حكومة ألمانية في يونيه سنة ١٩٣٣ على كل ألماني يرغب في اجتياز الحدود النمساوية أن يدفع ألف مارك، أي نحو ٧٥ جنيهاً، فكان هذا سبباً في صد تيار الألمان الذي كان يتدفق قبل ذلك إلى جالزباخ، ويكفي للدلالة على ذلك أن تعلم أن عدد الأجانب الذين هبطوا تلك القرية أخذ في التناقص من ٧٤ % من جميع المرضى في سنة ١٩٢٩ إلى ٥٥ % في سنة ١٩٣٣ إلى ٤٧ % فقط في شهور سنة ١٩٣٤.
أما تسايلايس ومصحته وطريقته في العلاج فقد أثارت ضجة عظيمة في الجرائد الأوربية عامة والنمساوية والألمانية خاصة بين سنتي ١٩٢٩، ١٩٣١، وقد اطلعت على بعض المقالات التى نشرت في الجرائد الإنجليزية تحت عناوين مختلفة، منها مقالة في (الديلي ميل) بتأريخ ١٧ /١٢ /١٩٣٠ تحت عنوان (عمليات بالآلة الكهربائية) أطرت فيها استخدام الكهرباء بدل المشرط في العمليات الجراحية، ومقالة أخرى طويلة في Literary Digest تحت عنوان (معجزات النمساوي صاحب العصى السحرية) وغيرها مما لا يتسع المقام لتفصيله. وسنأتي فيما بعد على طرف من أخبار انتصاره على أساتذة الطب في النمسا وألمانيا، كما سنذكر شيئاً عن الطرق التي يستخدمها في العلاج والأمراض التي يعالجها.

