في متحف الفن الحديث عرض الأستاذ جمال سجينى معرضه الثاني ، وفي هذا المعرض ثورة واضحة ، وهي ليست ثورة على الفن وأوضاعه لحسب ، وإنما هي ثورة فكرية ايضا . وإذا لقيت السجيني فيستجد فيه الشاب المتحمي للتحرر ، وثورته الفنية والفكرية نتيجة لهذا الحماس والحرية .
قد ترتاب في أهدافه ولكنك لن ترتاب في مدى توثيقه ، ويلفظ آخر : إنه يقدم لك الأسباب الوجيهة التى حدث به سواء في التصوير ، أو النحت - إلى التخلي عن بعض الأساليب الفنية المعهودة واصطناع أساليب أخرى جديدة قد انفرد بها ؛ فهو لا يتحرر بقصد الخروج على القديم فحسب ، وإنما ليفسح الطريق أمام العملية الابتكارية التي هي أهم خاصية في الفنان ، وهو لهذا لا يتبني مذهبا معينا من المذاهب الفنية المعاصرة في أوربا ، بل يعتقد أننا في غنى عن تبني هذه المذاهب لأنا نستطيع أن نعمل شيئا ، ولدينا الإمكانيات الكافية لابراز الفن والفنان المصري ولهذا كانت المصرية واضحة في أعماله ( مصري ، مصرية ، السوق ، الأفق المصرى ، ليالي رمضان ، كوبري إمبابه ، إلى فايد ، النيل من أسوان . . ) الخ
أما ثورته الفكرية فتتضح أصولها في بعض الأعمال ، وتظهر نتيجتها في البعض الآخر ؛ ففي ( نصير السلام . السلام - في التصور وفي النحت ) الأصول الفكرية وفي لوحته ( قانون الثعالب ) . وهي لوحة رمزية ، يحقق الفكرة المعروفة في بعض المذاهب من أن رجال الدين يغررون بالناس ويخدعونهم ويقفون بجانب الحكام الأثرياء الذين يملأون لهم جيوبهم بالمال في الوقت الذي يمتصون فيه دماء الناس ويكتمون أنفاسهم ؛ وفي لوحته الرمزية الأخرى (زهور الأشواك )يكمل الفكرة ، إذ رمز بالصبار ( وهو النبات الشوكي ) إلى الصبر المعروف عن المصريين ، ولكن مهما طال الأمد فإن هذا الصبر سينفد ، وتكون زهوره هي تلك الوجوه الغاضبة الثائرة .
قلت إنك قد ترتاب في هذه الأفكار ، وقد تردها إلى أصول أجنبية ، ولكنك لن نستطيع أن تنكر أن المصرية واضحة وغالبة فيها ، وفي ذلك تظهر مهارة الفنان وإحساسه العميق بمصريته وواجبه إزاءها.
أما ثورته الفنية فتتضح في أنه يبيح لنفسه أن يجمع في اللوحة الواحدة وسيلتين من نوع مختلف . فهو مثلا يستخدم الورق اللامع ( القص ، واللزق ) في اللوحات المرسومة بالألوان . وقد يبيح له الفن ذلك ، ولكن هناك
شئ اعتقد أن طبيعة فن التصوير تاباء ، هو الكتابة على اللوحة ، ولم يكن يكتب على اللوحة عنوانها مثلا ، وإنما المكتوب هو الإحساس أو المعنى الذي كان من الواجب أن تستغني عنه اللوحة بما هي عمل تصويري ، وأن تكتفي عن هذا المكتوب بإمكانياتها الخاصة كاللون والحركة والخطوط الخ ، لإشاعة ذلك المعنى في نفس المتفرج ، وفي تمثاله (من أسوان ) لون جديد من ألوان التعبير ، فإنه لم ينحت طاقية الرأس من نفس المادة ، وإنما جاء بهذه الطاقية الحقيقية من أسوان ، وعليها زخارف تحمل الطابع الأسواني وألبسها الرأس ، ثم ركز عمله في نحت وتلوين هذا الرأس ؛ ودفاعه عن هذا الأسلوب هو أنه لم تكن به حاجة إلي نحت طاقية ما دامت الطاقية الأصيلة موجودة ، والمم أنه نجح في نحت الوجه وتلوينه وتخطيطه بصورة منسجمة مع طابع هذه الطاقية ، أى أنه صنع تماما ما يصنعه الكاتب حين يصدر مقالته بعبارة لشخص آخر أوحت إليه الأفكار التي ضمنها مقاله وكان بينها وبين المقال في جوهره اتفاق . وربما كان هذا النوع من التحرر الفني سبيلا إلى التقدم في شق الطريق .
