الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 167الرجوع إلى "الثقافة"

معرض تصوير

Share

وصلني الكتاب الآتي من صديق زار أحد معارض التصوير الحديث التي أقيمت أخيرا في القاهرة ، ففضلت ألا أستأثر به وحدي ، ورأيت نشره في مجلتنا الزاهرة إن سمحتم بذلك :

ولقد خرجت من ذلك المعرض ، ومن قراآتي العديدة ، برأي في الفن الحديث ، أعرضه عليك لتناقشه على مهل ، وتبادلني فيه الصواب ، فأنا كما تعلم لست بالفني المختص ، ولم أدرس أصول التصوير ، ولست أدعي النضج في التفكير ، فما أنا إلا رجل متوسط الذكاء ، ولكني لست محروما من قوة الخيال . وأعتقد أن المصريين قد يقدرون رأيي كواحد من الشعب .

أنا لا أعجب بالفن الحديث بل أكرهه ، وسأبدي لك الأسباب التي أدت بي إلي هذا الحكم الخطير .

يصور الفنان موضوعات مستمدة من الطبيعة إلي أكبر حد ، فهي إما مناظر طبيعية أو أجسام حية أو نماذج صامتة أو حفر أو مبتكرات خيالية . ولقد استحوذ على ذهني منذ نشأتي شعور بأن للمصور الفني قوة إدراك خارقة وبصيرة نافذة وخيالا أعمق مما لغيره ، فهو بذلك ترجمان صادق ورسول الطبيعة للانسان . وأنا عندما أتأمل واحدة من صوره ، أتوقع ان أجد فيها أكثر مما يمكنني رؤيته بنفسي في الطبيعة .

وأنا لما أنصرف إلى الريف ، آخذ فى تقدير جمال الطبيعة وما فيها من سحر الضوء والظل ، وأعجب بألوان الشمس وانعكاساتها ، وأشكال السحب وسيرها ، وتستريح نفسي لرؤية الوديان الخصبة والتلال ، وينال الهدوء من نفسي مكانا كبيرا تحفه الرهبة ، فأصبح بقدرة الخالق في ملكه .

ولما أتجه للانسان وأتأمله ، ألمس الكمال في تكوين جسمه وانسجام حركاته ، فيتملكني الاعجاب بهذا الكمال في التكوين وبتلك الدقة في التشييد .

وحتي النماذج الطبيعية الصامتة ، إذا تأملتها لمست فيها قدرة الخالق جل جلاله في صنعته ، وفي مهارة إتقانها .

والآن ماذا أتوقع ان أري في صورة لمثل هذا المصور الفني ؟ بل ماذا أتوقع أن تكون قيمة ترجمته لما ذكرت ؟ خصوصا وأنا أعتقد كما سبق أن قلت ، أنه أعلى في الادراك من الانسان العادي ، ويستطيع أن يري وينفذ ببصيرته إلى أعمق مما أري وأدرك . إني أتوقع أن يدلني بفنه على ما خفي علي إدراكه أو رؤيته . ولست أنتظر منه دائما أن يترجم إلي المظاهر التي تنال إعجابي ، وأن يتابعني في مجري تفكيري ، كما أني لا أتطلب منه أن لا يصور إلا ما يسر في ويبهج نفسي ، لأني كثيرا ما أري لوحات عظيمة نجحت في تصوير الآلام والهموم والظلم والقسوة ونحوها . وأنا كفرد من الرأي العام أنصت للرأي الجديد ، وأرحب بالأفكار الحديثة المجدية ، وبالفرصة التي تتيح لي درس وجهات نظر غيري وتعاليمه .

فهل يصادفني شئ من هذا في الفن الحديث ؟ وهل يهيء الفن الحديث لي شيئا مما ذكرت ؟ كلا : ذلك لأنه ليست له مظاهر العظمة ولا سعة الالمام ، ولا التبحر في تقدير الجمال والارشاد إليه . وليست له قوة التعبير ولا النضج ، حتى ولا ما يشعر بالجد في العمل وبتحمل المشاق في سبيله . وأنا لا استطيع أن أعتقد أنه صادق في طويته ، لأني أري عليه مظهر التراخي والتقصير والكسل والعجز التام عن تقدير الجمال . فالفنان الحديث ملول شذ عن القديم ، ضجر تملكت الكآبة من نفسه ، وهو لا يثق بالمستقبل ، ولا يفهم الانسان إلا على أنه حيوان وأنه عبد

لشهواته . وهو لا يفهم الطبيعة إلا على أنها قاسية ظالمة . وهو ينكر قيمة الجد في العمل ويجرده من عظمته وهيبته .

وبينما يحيط به الجمال من كل صوب فهو لا يلبي له نداء ، وقد غمره اليأس واستسلم لعقيدة تعمقت في نفسه ، تقضى بعدم الثقة في المستقبل ، وأهمل الدرس والبحث واستمرأ الكسل ، فقلت مقدرته على الرسم ، وأضحي تصوره مكونا من لطخ هوجاء ، تقوم دليلا على عدم نضجه في صنعته . وما الأشخاص التي يرسمها إلا تشويهات مضخمة معجرفة . وغالبا ما يفقد البقية الباقية عنده من الرغبة في تصوير الاشخاص ، فلا يكبد نفسه مشقة الحصول على نموذج حي ، فيعمد إلى رسم خطوط لا معنى لها . ولكي يخفى نقصه يطلق على رسومه أسماء

معنوية ، ويخلق حوله جوا من العظمة الفارغة ، ويحيط نفسه بمظهر الكبرياء والعجرفة ، راجيا من وراء ذلك أن يوهم الجمهور ويؤثر في نفسه . بذلك خلق الفنان الحديث ما أسميه رطانة فنية ، أعتقد أنه لم ينجح أن يغش بها أحدا إلا نفسه ، وهو إذا أهمل الجمهور فنه ، علا صراخه ، واتهم الناس بالجهل والتأخر وقلة الذوق .

وهو يتخيل أن لبعض الأجزاء أهمية أكثر مما لغيرها ، فيعمد بذلك عند رسمها إلى المبالغة في بعض النواحي ، والحذف الكثير في غيرها ، على زعم منه أن العظمة تقاس بالحذف والتبسيط ، وعلى أن مهمة المطلع على فنه أن يتمم ما نقص في الصورة بخياله عندما يتجه بنظره إليها . وغالبا ما يفشل تقديره في هذه الناحية ، بسبب الفرق بين العقليتين ، ولمقدار البعد بين الحقيقة والخيال ، لا سيما ونحن نعرفه ذلك المثالي غير المتبحر في فنه ، والمكتفي بالقشور دون اللب .

وليست هناك حدود لنزعات الفن الحديث ، فإنتاجاته كلها مجهودات فردية هي ضرب من الاعلان عن النفس . ونحن نعلم أنه ليست للأمور الشخصية جاذبية القضايا العامة التي تهم كل إنسان .

ولما نجحت آلة التصوير الشمسي نجاحها الذي بلغ حد الكمال ، فبدت بعض منتجاتها تحتل مكان الصور الفنية اليدوية ، ولما اشتهر الفنان الشمسى واحتل مكانه بين بقية الفنانين ، تساءل الفنان الحديث عما بقي له من صنعة الفن ، وحزت المنافسة الجديدة في نفسه ، فحاول أن يتخذ له أسلوبا جديدا في التصوير لا تتمكن آلة التصوير الشمسي أن تنافسه فيها ، فعمد إلي نزعاته المختلفة ، وكان للسينما دخل كبير ، ففيها تكرار سريع متواصل ولما كان الفنان الحديث يميل بطبعه للتجديد ، فانه صور على طريقة السينما ، فكرر الحركات لا في ذلك الشريط الطويل المعهود ، بل في لوحة محدودة ، وفي أوضاع تكاد تكون فوق بعضها في طبقات .

وربما اتهمتني يا صديقي بأنني ثائر مندفع في نقدي . ولكن لا بد أنك زرت معارض الموسم السابق بمصر . ورأيت إلى أي مدى سرت العدوي بين ناشئتنا ، فلطخوا لوحات اشمأزت لرؤيتها نفوس الناس . وقد حاول بعض النقاد الاشادة بذكرهم على صفحات الجرائد ، ولكني أحمد الله أن تلك المعارض انتهت للخفاء كما بدت نكرات ، فالبقاء للأصلح ، ولا يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس

فالفن الحديث فن زائف وسيبلي كما يحدث عادة للعملة الزائفة إذا اندست بين الصحيحة ، فإنها لا تلبث أن تكشف فتعدم ولكن سيظل أثر الفن الحديث علما على عصر من اليأس ، هبت فيه زوبعة من الصنعة الكاذبة . وعندما يصفو الجو ، وتعود للفنان الحديث مبادئه القويمة ، وإدراكه الحقيقي السامي ، ويفتح عينيه فيري نور الفن الحقيقي ، ويعود إليه تحمسه ، فيوجه جهوده كلها لصميم الفن ودراسته الصحيحة ، فحينئذ ، وحينئذ فقط ، يعود الفن إلى مكانته السامية ، فيكتسب عطف الجمهور وتأييده له كما كان ...

(طبق الاصل)

اشترك في نشرتنا البريدية