الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 298الرجوع إلى "الثقافة"

معركة البلطيق

Share

قل أن نهتم نحن القاطنين في هذا الركن من الكرة الأرضية بما يحدث في الجبهة الروسية الشمالية ، لا لاننا نعتقد بأنها أقل أهمية من الجهات الآخري في ميادين الحرب ، بل لأن المثقف المتوسط الثقافة لا يعرف شيئا كثيرا عن الشعوب المكونة منها دول البلطيق

يجب عليك أن تعرف على الفور أنه في مقدور روسيا السوفيتية اكتساح تلك الجبهة ! اكتساحا سريعا . ولعلك تساءلت أكثر من مرة عن السبب في تراخيها في حربها الأولى مع فنلندة ، فتارة تسمع باعتزامها القيام بهجوم عام عليها ، وطورا تأتينا الأخبار بقيام مسيو باسكيفي لمفاوضة رجال الكيرملن في عقد صلح منفرد ، ولا يمر وقت طويل على هذا أو ذاك حتى نسمع بأن الجيوش الروسية قد استأنفت هجومها بالفعل ، وانها فتحت مدينة فيوري وزحفت غربا نحو هلسنكي عاصمة فنلندة ، ثم تنقطع عنا الأخبار بعض الوقت ، وعندما تستأنف الظهور نفاجأ باختيار الماريشال ماترهايم رئيسا للجمهورية الفنلندية مما يبشر باستقبال عهد مفاوضة ومهادنة ، إن لم يكن عهد صلح مع روسيا

حقيقة الأمر ان روسيا يخالجها عاملان قويان يؤثران أيما تأثير في سير الحوادث حتى ما كان منها عسكريا !

العامل الاول هو رغبتها الصادقة ) ولا مراء هذه المرة ( في كسب ثقة البلاد التي تحاربها الآن ما عدا المانيا ، وهذه الثقة لا تأتي بطبيعة الحال من طريق الغزو ، بل من طريق المفاوضة والإقناع .

يعلم الروس أن الامة الفنلندية ، وإن كانت قليلة العذر ) أقل من ثلاثة ملايين نسمة ( ، هي امة ذات إرادة فولاذية ترتكز إلى ثقافة اسكنديناوية لا تستطيع محقها

بالحديد والنار . فإذا لم يكن بد للدولتين من أن تعيشا جارتين إلي إلابد ، فإن العقل والمنطق يمليان عليها ضرورة البحث عن أساس لتلك الجيرة ولذلك العيش ترضاه فنلندة مختارة حرة ، لا مكرهة صاغرة . لأنك إذا أكرهت الحر بحد السيف كان ذلك إلي وقت قصير . يجب عليك أن تكسب قلب خصمك ما دام مقدرا لك أن تعيش معه في صعيد واحد . ما الفائدة في قمع إرادة الفنلنديين الآن بالقوة . وهم يصبحون من جراء ذلك القمع فوضويين وثوريين ، لا هم لهم إلا الانتقام ؟

تريد روسيا إذن - وهي قادرة على ابتلاع فنلندة متي شاءت وأرادت - أن تفاوض الفنلنديين بالمنطق في حل المشكلات القائمة بين الشعبين ، على أساس يرضي ذلك البلد المثقف ، الذي إذا قل عدده في داخل بلاده لقسوة الطبيعة ، فهو كبير بما انجب من ابناء يبلغون العشرين مليونا في أمريكا وأوربا وفي قلب روسيا نفسها .

الاستقلال التام لفنلندة مثل عال لا يختلف فيه اثنان حتى روسيا . لكن فنلندة ، قد جربت ذلك الاستقلال التام ، وقد كان من نتائجه ان طغت المانيا عليها ، وقد تطغي عليها غدا السويد أو روسيا ، إذا لم يكن بين رجال هذه او تلك قوم يخالج افئدتهم وقلوبهم ذلك الشعور السامي النبيل ، شعور احترام حقوق الأمم ، مهما تكن صغيرة . ما هو الضمان إذن ؟ أعصبة الامم ، وقد برهنت على أن لا حول لها ولا قوة !

لا تريد روسيا أن تخرب مدن فنلندة الجميلة ، ولا أن تذبح رجال تلك البلاد ، وجلهم من عنصر الفلاحين السذج الكادحين الدائبين على العمل ، لأنها تعلم أن ذلك التخريب ، وتلك المذابح تترك في الأجيال المقبلة اثرا لا يمحوه إلا الانتقام . " تعالي إذن يا فنلندة نحل مشاكلنا معا . فأنت تطلبين الاستقلال التام ، ونحن نقرك عليه

ونعتبره حقك الطبيعي ، ولكن كيف تضمنين لنا ألا تتكرر المأساة التي جعلتنا ندخل معك في حرب ، ألا وهي مأساة تدخل الشعوب كالشعب الألماني في شئونك ؟ "

للروس أن يسألوا فنلندة المستقلة هذا السؤال ، ولهم أن يطلبوا مختلف الضمانات ؛ وذلك لأن المصالح الروسية إذا اصطدمت بالمصالح الالمانية ، هان على الالمان ان ينالوا من الدب الروسي في خليج فنلندة في البحر ، وفي رحابها التي يغطيها الجليد في البر .

انظر إلي برزح كاريليا وموقعه الجغرافي من لينجراد العاصمة الروسية ، نجد ان طلب روسيا ضمانا كافيا لعدم تدخل الالمان في شئون فنلندة ، طلب عدل مشروع لا نزاع فيه ! ولو انه لا يمس المصالح الروسية إلا بطريق غير مباشر

على أن لفنلندة أيضا مطالب من روسيا ، أولها عدم التدخل في النظام الاجتماعي القائم بها ، ولم يعرف حتي الآن مدى الضمانات التي تستطيع روسيا إعطاءها من هذه الناحية ، إذ لا يخفي ان الشعب الفنلندي منقسم على نفسه في هذه النقطة عينها ؛ ففي فنلندة حزب قوي يدين بالمذهب السوفيتي ، كما ان هناك حزبا قويا مناهضا له .

على أنه من الواضح أن سيطرة الألمان على المرافق الفنلندية هي التي كانت السبب الحقيقي لإخفاق المفاوضات بين البلدين .

قلنا إن روسيا يخالجها عاملان قويان ، ذكرنا أولهما وهو المفاوضة والإقناع كي تكسب ثقة جارتها الفنلندية ، بدلا من ان تلجأ إلي ضروب القوة التي هي قادرة تمام القدرة عليها إذا شاءت .

أما العامل الثاني ، فهو شعور روسيا بسمو فنلندة الثقافي ) سموا لا يجدى معه الإرهاب ، ولا تخضعه القوة الغاشمة ؛ لأنك إذا حملت خصمك بقوة السلاح على عقد معاهدة معك فإنه يقبلها على كره ، وينفذها وفي قلبه مرض ،

ويتربص بك الدوائر كي ينال منك في الشدائد ، ذلك لان لسانه يعطيك ما تطلب ، وقلبه يضمر لك ما تكره . فإذا أرادت دولة قوية أن تكسب قلب أمة مغلوبة على امرها وجب عليها بنية خالصة ، وبحسن إرادة لا شك فيه . ان تقدم من الضمان ما يشجع الامة الضعيفة على التعاون معها تعاونا خالصا لا تفاق فيه . ولا شك عندي أنه إذا انهارت صروح النازية في فنلندة فإن الاتفاق بينها وبين روسيا يصبح امرا محققا دون اللجوء إلي الحديد والنار .

ولا تختلف مواقف دويلات البلطيق : استونيا ولاتفيا وليتوانيا وهذه الأخيرة تضم تحت سمائها عشرات الالاف من المسلمين عن موقف فنلندة روسيا ، فقد عمل النازيون سنوات كثيرة قبل الحرب على إخضاعها ماليا ، وحرصوا على توثيق الصلة بين المصارف الالمانية ومصارفها ، فأصبحت ماليات تلك الدويلات خاضعة للنفوذ الالماني إلى حد كبير ، كما ان ثقافة شعوبها خصوصا في العشرين سنة الأخيرة كانت ألمانية أكثر منها روسية ، نظرا إلى العزلة السياسية التي فرضتها اوروبا علي روسيا ، خشية أن تقوم بدعوة إلي قلب أنظمة الحكم

يجب عليك إذن أن تعرف أن الحرب المستعرة في تلك المناطق سببها الآن طرد النازيين منها اولا ، ثم عقد معاهدات بين دول البلطيق أساسها حسن التفاهم المشترك والرضاء التام بين شعوب تلك البلاد ، إيمانا بأن قوة الحديد والنار لا تبقي إلا امدا قصيرا ، فأما كسب القلوب وتبادل الإخلاص فيبقي اثره إلي أجل غير مسمى .

لن تستغرب إذن أن نسمع في القريب العاجل أن صروح النازية قد انهارت في مناطق البلطيق انهيارا أبديا ، وان عهدا جديدا بين دولها وروسيا يبشر بتعاون تلك الدويلات المتمدنة في الأسرة الدولية الكبرى ، تعاونا أساسه تفاهم متبادل واحترام المصالح الخاصة بكل بلد .

اشترك في نشرتنا البريدية