الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 334الرجوع إلى "الثقافة"

معركة السلم، احتلال ألمانيا - حكمته النفسية - أغراضه - مدته -، فترة الانتقال وأساسها - الخطوات العملية

Share

انتهت الحرب الأوربية فجر يوم الأربعاء ٩ مايو سنة ١٩٤٥ ، يوم ان وقعت المانيا وثيقة الاستسلام المطلق ، على أن هزيمة ألمانيا أدت إلى ظهور مشكلات كثيرة تتطلب الحل السريع ، وسيتتوقف مصير العالم لأمد طويل ، على حسن تدبير الأقطاب لتلك المشكلات

وأولى تلك المشكلات ، التى يضطرم حولها البحث اليوم ، هي مشكلة احتلال ألمانيا ، ذلك الاحتلال الذي نظم أمره أقطاب القرم في مؤتمر بالنا ( فبراير سنة ١٩٤٥ ) بصورة إجمالية ، وقرروا بشأنه ما يأتي :

" وطبقا للخطة التي اتفق عليها ستحتل قوات كل دولة من الدول الثلاث منطقة منفصلة من ألمانيا ، وهذه الخطة تقضي بإيجاد إدارة ومراقبة متناسقتين بواسطة لجنة

مراقبة مركزية قوامها القائد الأعلى لكل دولة من الدول الثلاث ، ومقرها في برلين ، وقد اتفق على أن تدعو الدول الثلاث فرنسا ، إذا كانت ترغب في ذلك ، لأن تأخذ منطقة تحتلها ، وان تشترك في لجنة المراقبة كعضو رابع . أما حدود المنطقة الفرنسية ، فسيتم الاتفاق عليها بين الحكومات الأربع ذات الشأن بواسطة ممثليها في اللجنة الاستشارية الأوربية "

ولقد أراد أقطاب القرم من وراء الاحتلال  عاملا نفسانيا فات الحلفاء في الحرب الماضية أن يعالجوه

ذلك أنه في سنة ١٩١٨ لم  يعن الحلفاء باحتلال ألمانيا ، ولا وطئت جيوشهم أراضيها ، ولهذا لم يستطع الشعب الألماني أن يدرك أنه هزم عسكريا ، وكيف كنت تريد أن يفهم ذلك وهو يرى جيوشه تدق أبواب باريس ؟ وينبئنا

التاريخ أن قواد الحلفاء كانوا قد أعدوا - فعلا - وثيقة استسلامهم لألمانيا ، ولقد استغل هتلر وعصابته ذلك في إفهام الشعب الألماني أنه لم يهزم ، فلن يهزم ، وأنه إنما طعنه اليهود من الخلف ، فعالج الحلفاء هذا العامل النفساني الممثل : بالإصرار على الاحتلال العسكري حتى ينزع الشعب الألمانى من عقله أسطورة أنه " لن يهزم " .

ولكن أقطاب القرم لم يعنوا بتفصيل المسائل التي يقوم عليها الاحتلال والتي تدور حوله ، ولسنا ندري أكان ذلك منهم سهوا ، أم أنهم تركوها - على خطورتها عامدين ، حتى لا يرتبطوا مقدما بسياسة قد يجد ما يدعو إلى إبدالها

ونرجو ألا يسبق إلى الذهن أن الاحتلال مسألة عسكرية فحسب ، ولكنه إلى ذلك ، بل وقبل ذلك ، مسألة اجتماعية هي في أساسها عمل بتأني خطير الشأن . بعيد الأثر

وهو إذا كان يقتضي اولا إبادة القوة الاقتصادية للطبقة العسكرية في المانيا بالقبض على الملكيات الكبيرة للارستقراطية البروسية ، وإذا كان يقتضي إبادة القوة الاقتصادية للممولين ، بالسيطرة على الصناعات الكبرى والمصارف الكبيرة ، وإضافة ملكيتها إلى الدولة ، وإذا كان يقتضي تغييرا شاملا للعلاقات القائمة بين الطبقات المختلفة في الدنيا ، فإننا ينبغي أن نذكر أنه يقتضي إلى جانب هذه الثورة الاجتماعية إقامة ألمانيا جديدة تحكمها عامة الشعب لصالح الشعب ، ذلك الشعب الذي يمقت الحرب ويخشاها ، شأنه في ذلك شأن سائر الشعوب ، على خلاف ما يقرره بعض المتطرفين من الكتاب .

وعلى هذا الأساس ينبغي أن يلقي الحلفاء في أفهام الألمان أنهم لا يقصدون من الاحتلال إجراءً تأديبيا ، وإنما يتوسلون به إلى تأييد الثورة الاجتماعية الديمقراطية . وأنه إجراء موقوت بفترة انتقال ، لا اكثر منها ولا اقل

ولكن إلي أي فترة ينبغي أن يطول الاحتلال بحيث لا يجوز له أن يتجاوزها ؟ إنه لا ينبغي أن يطول إلى اكثر مما يحتاجه لتحقيق أهدافه . وأهدافه ينبغي أن تتركز أساسا في الأخذ بيد ألمانيا في فترة الانتقال . ثم لا مناص لها بعد ذلك من أن تمتد إلى تفصيلات لا تقل عن ذلك أهمية ، كالعمل على توفير الهدوء والنظام مع تكوين إدارة محلية مؤقتة تملك أن تحافظ على الأمن ، والقضاء على النازية او التحقق من أن الألمان قد قضوا عليها ، وإخلاء سبيل المسجونين السياسيين ، والعمل على توفير الغذاء للسكان ، ومراقبة تسريح القوات وتجريدها ، وتنظيم عودة الأسري وتبادلهم ، والتعجيل بعودة النظام العادي للعمل ولاقتصاديات السلم ، ومباشرة عمليات نقل السكان ، وتسليم مجرمي الحرب ، إلى غير ذلك

ولا نستطيع أن نتكهن بالزمن الذي يستغرقه إنجاز هذه المهام ، ولكن ذلك سيتوقف إلى حد كبير على لباقة السلطات العسكرية ، وعلى مبلغ استجابة الألمان للثورة الديمقراطية . ولو سارت الأمور على ما نشتهي ونروم ، فلن تحتاج الأمم المتحدة إلى احتلال أطول من سنتين ، ولو أريدت إطالته إلى أكثر من هذا ، فلا يلزم أن يزيد عن الاحتفاظ ببعض المواقع العسكرية .

على أن المحقق الذي نقطع به من الآن ، أن الاحتلال الطويل يعطل الثورة الديمقراطية المرتقبة ، والتي قلنا إن معاونتها لزام على الدول الظافرة المحتلة . ذلك بأن بقاء جيوش الاحتلال - طويلا - سيمنع أية حكومة ألمانية من اكتساب محبة الشعب واحترامه ، ومن الفوز باحترام الدول الأجنبية ، وسيكون من يحكم تحت مثل هذا الظرف كأنه دارلان ولا فال عند الفرنسويين . وسينجم عن ذلك - أردنا أم لم نرد - يقظة الشعور الوطني المتعصب ، وسيعيد التاريخ نفسه في أقل من ربع قرن

وليعتبر الحلفاء في هذا المقام بمصير جمهورية فايمر

فلقد عاشت تلك الوليدة أربعة عشر عاما ، مريضة ، لقيت خلالها من الحلفاء كل إذلال ، فلم يطلقها الشعب الالماني ، وأصبح قيامها في نظره مسبة ينبغي ان تزال : لم يزرها وزير بريطاني واحد ، حتى إذا ما ارتقي هتلر الحكم ، مزمجرا ، رأينا إدن وجون سيمون وتشمبرلين مرتين في برختسجادن وميونيخ - ودلادبيه يزورون ألمانيا - ثم إيطاليا مجاملة لألمانيا - وكأنهم لا يفهمون سوي لغة الحديد والنار

لا تقل إنها أمور تافهة ، ولا تقبل ان يقال لك إن الألمان وحدهم - من دون سائر الشعوب - هم الذين يتأثرون منها

وينبغي أن تقوم فترة الانتقال على أساس إعطاء فرصة سانحة للديمقراطية ؛ ذلك بأنه حتى ولو قدر للحلفاء . ان يوفقوا إلى الرحال الصالحين للحكم من بين الالمان وتلك مهمة شاقة - فإن هؤلاء الرجال سيعجزون عن كسب ثقة مواطنيهم وولائهم لهم . لقد تملؤهم الوطنية والأمانة ، ولكنهم سيظلون في أعين الشعب كويسلنجات يعتمدون في سلطاتهم على الحراب الأجنبية

ولا يصح أن يتوقع الحلفاء ، إمكان التفاهم مع الصنف الممتاز من الرجال ليحكموا تحت إمرتهم ؛ فذلك مما ترفضه النفوس الأبية . وإنما أغلب الظن - بل قل اليقين - انهم سيكونون من ذلك النوع الوصولي من الامعات الذين يتهافتون على كل راغب في الشراء ما دام يعرض شيئا من المال أو النفوذ الرخيص

وإذا فمن الخير أن يحكم الوطن من يختارهم أبناء الوطن ، فهم ادري من غيرهم بمن يصلح لمهمة الحكم والسلطان .

والخطوات العملية التي ينبغي اتخادها لتحقيق ذلك الهدف الكبير ، ان يبدأ الحلفاء بتطبيق النظام الدستوري والقانوني لجمهورية فايمر ، مع إجراء التعديلات اللازمة ،

حتى تستطيع المانيا المحررة الحرة وضع دستور جديد لها . ولقد أشار فقهاء ، القانون الدولي العام - تمهيدا لذلك العهد الدستوري الجديد بأن تستفيد ألمانيا من اللامركزية المتأصلة فيها - من قبل الحكم النازي فتعيد النشاط إلي المجالس البلدية - وهي برلمانات محلية لمدة شهرين أو ثلاثة ، ثم تتكون مجالس مقاطعات ، تنتخب أعضاءها المجالس البلدية ، ويعقب ذلك مجلس وطني  يتألف من أعضاء انتخبتهم مجالس المقاطعات وستكون مهمة ذلك المجلس الوطني إقامة حكومة وطنية موقتة تشرف على انتخابات الجمعية التشريعية ، التي ينبغي ان تعطى لها فرصة مناقشة شروط الصلح ، قبل صياغتها النهائية ، حتى لا تتكرر مأساة فرساي

وهكذا تنتقل السلطة تدرجا - من سلطة الاحتلال إلى الحكومة المحلية ، انتقالا بعيدا عن الطفرة التي تؤذي " الرجل المريض " .

تلك هي النظرة التى ينبغي أن ينظم الحلفاء احتلال ألمانيا على أساسها . فان فعلوا - وسيفعلون - فالأمل كبير في مستقبل مزدهر لعالم جديد محرر من الخوف ، " والخوف هو جماع الاستعبادات " .

اشترك في نشرتنا البريدية