الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 403الرجوع إلى "الثقافة"

معركة السيادة العالمية

Share

يبدو الآفق الدولي في هذه الأيام كدرا تغشاه السحب . ولم يبق ريب في ان الدول الثلاث الكبرى التي اتحدت جهودها واهدافها ايام الحرب العصيبة لبلوغ النصر على العدو المشترك ، أضحت وقد غاض تضامنها وافترقت كلمتها ؛ بل اضحت وقد انقسمت إلي معسكرين تبدو الخصومة واضحة بينهما ؛ فروسيا السوفيتية قد القت القناع، وكشفت عن اتجاهاتها في إحراز مناطق النفوذ والسيادة والسيطرة على الشعوب السلافية ، والاندفاع نحو الجنوب والغرب ، وتحدي الإمبراطورية البريطانية في بعض مناطق نفوذها ولا سيما في الشرق الأوسط وشرقى البحر الأبيض المتوسط ؛ وبريطانيا العظمي وإلى جانبها الولايات المتحدة تبديان عزمهما الواضح في مقاومة التوسع الروسي سواء في غربي أوربا أو في الشرق الأوسط ؛ وتدور المعركة بين الفريقين سافرة سواء في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن

أو مؤتمر الصلح المنعقد الآن في باريس ، أو في الخطب والتصريحات الرسمية ، والحوادث الدولية الأخيرة تحمل كلها طابع هذه المعركة الخطيرة ، فمسألة تريستا وموقف روسيا منها في تأييد بوجوسلافيا ، وحوادث اليونان التي انتهت اخيرا بتقلب النفوذ البريطاني وعود النظام الملكي ، وإتهام أوكرانيا اليونان لدي مجلس الأمن بارتكاب حوادث ابيروس والعمل على تعكير السلم ، وأتهام بريطانيا بأن قواتها في اليونان تشجع العناصر الفاشتية ، وضغط روسيا على تركيا من اجل مسألة الدردنيل ومؤازرة بريطانيا وأمريكا السافرة لتركيا في معارضة المطالب الروسية ، كل هذه دلائل ناطقة بما يسود المعترك الدولي من أسباب الاضطراب والقلق ، وما يسود علائق الابحار السوفيتي وحليفتيه الديمقراطيتين من كدر وفتور.

وقد ألقي مستر بيرنز وزير خارجية الولايات المتحدة

أخيرا في مدينة شتوتجارت بألمانيا خطابا خطيرا يوضح فيه سياسة أمريكا إزاء الشئون الأوربية ، أكد فيه أن أمريكا تنوي أن تؤدي دورا كبيرا وطويلا في الشئون الأوربية ، وأنها لا تقر الأمر الواقع فيما يتعلق بحدود ألمانيا الشرقية ، ولا تنووي أن توافق على اقتطاع بولونيا وروسيا لهذه الأقاليم الألمانية المحضة ، ولا على أن يكون نهر الأودر هو حد ألمانيا الشرقي ، وإن كانت لا تعارض في تعديل الحدود لمصلحة روسيا وبولونيا ، وأن أمريكا تعارض مطالب فرنسا في منطقتى الرور والراين ؛ وأعرب مستر بيرنز عن رغبة أمريكا في توحيد ألمانيا من الوجهة الاقتصادية ومعاونة الشعب الألماني علي النهوض من كبوته والتحول إلي شعب قوي مسالم ، وأنها تؤيد وحدة ألمانيا السياسية وقيام حكومة ديمقراطية ألمانية ، وندد بسياسة فرنسا وروسيا في مقاومة هذه الأهداف ، وحذر مستر بيرنز أخيرا روسيا من التمادي في محاولة دفع نفوذها إلي غربي أوربا ، وأكد أن أمريكا ستقاوم هذه المحاولة وقد كان هذا الخطاب الجريء أقوي وأصرح بيان ألقى منذ انتهاء الحرب عن السياسية التي تنوي الولايات المتحدة انتهاجها إزاء الشئون الأوربية . ومن المعروف أن السياسة البريطانية تؤيد معظم هذه الأهداف وقد اعترضت بريطانيا منذ الساعة الأولى علي إعطاء روسيا لبولونيا أقاليم ألمانية محضة ، وما زالت نبدي رغبتها في العمل على توحيد المناطق الألمانية الممزقة في ظل إدارة موحدة ، وهي محاولة تقاومها روسيا وفرنسا .

وروسيا السوفيتية لا تترك من جانبها أية فرصة للتنديد بسياسة بريطانيا العظمي وأمريكا ، وهي تتهم السياسة البريطانية بنوع خاص بأنها ما تزال تضطرم بنزعتها الاستعمارية القديمة ، وانها تحتفظ بقفوات عسكرية ضخمة في اليونان ومصر وفلسطين ، وتعمل لتدعيم سيطرتها الاستعمارية في الشرق الأوسط من مصر إلي إيران ، وأنها

تقاوم أماني روسيا المشروعة في شرقي البحر الأبيض وتفرض على الشعب اليوناني بقوة السلاح حكومة لا يرضاها ونظاما لا يرضاء لتدعيم مركزها الاستراتيجي في البلقان ، وأنها نكثت عهودها في ميثاق الأطلنطيق ، إلى غير ذلك من أوجه النقد والتجريح وكذلك تحمل روسيا على السياسة الأمريكية في تدخلها في الشئون الأوربية بطريقة تعارض الأماني الروسية ، وتأييدها لسياسة المقاومة والخصومة التي تبديها بريطانيا نحو الاتحاد السوفيتي ، واتجاهاتها الاستعمارية الجديدة في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى ، وتنعي روسيا علي أمريكا بالأخص ما تبديه من حرص على الاستئثار بسر القنبلة الذرية وحماسة في التسليح ، وهو ما يؤيد في نظر روسيا نياتها العدائية نحو السلام ونحو الاتحاد السوفيتي ؛ وقد كان آخر مظهر من مظاهر تحدي روسيا لبريطانيا وأميريكا ، ما طلبه المندوب الروسي في مجلس الأمن من أن تقدم كل دولة من الدول بيانا بما تحتفظ به من القوات العسكرية والعتاد في البلاد الآخر ، وذلك بقصد التنديد بأعمال انجلترا في اليونان ومصر وفلسطين وغيرها من البلاد التي تحتفظ فيها بقوات عسكرية كبيرة بالرغم من إرادة أهلها ، وهو اقتراح تعارض فيه بريطانيا وأمريكا ، لأن توزيع القوي العسكرية في المناطق المختلفة أمر لا يهدد الأمن

وهكذا تضطرم الحركة الدولية جهارا بين المعسكرين الجديدين اللذين انقسم إليهما عالم القوة والنفوذ بعد الحرب العالمية الثانية . والعالم يرقب هذه المعركة حائرا ، ويساوره الجزع أحيانا فيتساءل أيكون هذا التنافس الخطر على إحراز السيادة العالمية هو مقدمة لحرب عالمية جديدة ؟ ويؤيد بعض المتشائمين هذا الرأي المزعج . ويقولون إنه لا مناص من ان تصفي بريطانيا العظمي وأمريكا حسابهما مع روسيا السوفيتية قبل ان يتاح للعالم ما ينشده من أسباب السكينة والاستقرار ، وإنه لا مناص ان تم هذه التصفية بقوة

السلاح . والحقيقة أن المبالغة في التشاؤم إلي هذا الحد أمر لا مبرر له نعم إن معظم ما يعانيه العالم الان من أسباب القلق يرجع إلي تنافس هذه القوي الخصيمة التي أصبحت تسيطر علي مصايره ، وهي منافسة لا تقتصر على ميدان التوسع والنفوذ السياسي ، بل تقوم في الوقت نفسه حول النظم الاجتماعية التي يعيش في ظلها كل من العسكرين الخصيمين ؛ فروسيا السوفيتية تعيش في ظل النظم الاشتراكية الجماعية ، وتعيش كل من بريطانيا وأمريكا في ظل النظم الفردية الديمقراطية أو النظم البورجوازية كما ينعتها الفريق الآخر ؛ وربما كانت هذه المعركة بين النظم هي أخطر مظاهر هذا النضال ، وأعظم بواعث هذا القلق ذلك لأنها لا نقف عند تداجر القوي السياسية الظاهرة ، بل تنفذ إلي أعماق الجماعة ؛ ففي أوربا المخربة الجائعة ، وفي بريطانيا ومعظم أنحاء الإمبراطورية البريطانية ، وفي الولايات المتحدة ، تهب علي المجتمع ريح من الاضطراب والقلق ، وتتجاذب الأذهان مختلف النزعات والاتجاهات ، وتقف الحكومات والقوي السياسية والعسكرية من وراء هذه المجتمعات القلقة تؤيد النظم القديمة وتذود عنها ؛ وقد تكون المعارك السياسية في معظم الأحيان صدي هذا النضال الداخلي ؛ وتدرك روسيا كل الإدراك خطورة هذه العوامل الداخلية في البلاد الآخرى ، وتحاول أن تعمل على استغلالها ما وسعت . وتعمل الدولتان الديمقراطيتان من جانبهما على مقاومة هذه العوامل المزعجة والقضاء عليها

ويلوح لنا أن بريطانيا وأمريكا قد استطاعتا حتى الآن أن تصمدا امام الهجوم السياسي والاجتماعي العنيف الذي تشهره عليهما روسيا السوفيتية ، بل هما تشنان اليوم عليها هجوما مضادا ، ففضلا عن المقاومة السافرة التي تبديانها اليوم لمطامع روسيا ومحاولتها في سبيل التوسع . فان الحديث يكثر اليوم عن مثال الديكتاتورية البلشفية ، وعن أساليب الإرهاب التي يخضع لها الشعب الروسى ،

وعن المنازعات الداخلية التي تضطرم بين الزعماء البلاشفة حول إحراز السلطان وغير ذلك مما يراد به إبراز روسيا في صورة قاتمة . والحقيقة ان الدعاية تلعب في ذلك سواء من هذا الجانب أو ذاك دورا كبيرا .

على أن معظم هذه العوامل المزعجة يمت بصلة وثيقة إلي تركة الحرب المنقضية ، وما زالت هذه التركة المثقلة رهن التصفية ؛ ومن المعقول أنه كلما تقدمت الدول خطوة جديدة في سبيل هذه التصفية ، خفت عوامل القلق الدولي . وبالرغم من ان الخلاف بين روسيا السوفيتية وبين الدولتين الديمقراطيتين يبدو اليوم في اوجه ، فانه من المرجح أن تنتهي المحاولات والمساومات المختلفة إلى نوع من التسوية . وليس من شك في ان الزمن سوف يفعل فعله في تقريب وجهات النظر بين الفريقين . ومن المبالغة ان نعتقد أن حربا جديدة قريبة الوقوع ، لأن نزاعا يدور بين روسيا وبريطانيا أو أمريكا على مناطق النفوذ ، وإذا كان كل من الفريقين يحتفظ إلي اليوم بقوات عسكرية كبيرة او يمضي قدما في التسلح . فذلك لكي يدعم وجهات نظره في ميدان السياسة والنفوذ

ومن واجبنا نحن ابناء الأمم الشرقية او الأمم المغلوبة التى ما زالت ميدانا للتنافس الاستعماري ، ان ترقب هذه المعركة على السيادة العالمية بين حلفاء الأمس بمنتهي الاهتمام واليقظة ، يبد أنه يجب علينا ان نذكر دائما خلال الأزمات التى تنتاب جهادنا القومي انه من الخطأ ان ننشد العون والمؤازرة في هذا الفريق أو ذاك ؛ فكلاهما يعتبر الشرق الأوسط ميدانا لبسط النفوذ واجتناء المغانم ؛ وكلاهما تحدوه نفس النزعة الاستعمارية ونفس النيات الخطرة على سلامنا وحرياتنا

اشترك في نشرتنا البريدية