الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الثقافة"

مع الزمان :, يرحم الله أبا ذر

Share

جلس جندب بن جنادة في واد من الوديان التي كانت قبيلة غفار تضرب فيها بيوتها وكان يرعى صِرمة من الإبل هي كل ما يملك من هذه الدنيا ، يشترك فيها مع أخيه أنيس وأمهما العجوز . وكان جندب رجلا قويًا طويل القامة كث الشعر عريض الصدر ، فكان كثير التبرم برقة حاله وقلة ماله ، ويزيد حنقه كلما رأى سادة قومه وقد خرجت عبيدهم تسوق الابل آلافًا لترعى وترد المياه ولا تترك لصرمته من العشب والماء إلا ما لا يغني . وكان كلما تأمل في هؤلاء السادة لم يجد إلا رجالا دونه في بسطة الجسم وقوة الاحتمال ، ولم يبصر منهم إلا جهلا وسخفًا ، يقضون حياتهم بين خمر ونساء ويسجدون لحجارة يسمونها بأسماء ، ويزعمون أنها آلهتهم التي تهبهم الحياة والسلطان ، ويتقربون إليها ويسودون على الناس في حمايتها .

وكان جندب كلما رأى ذلك جاشت نفسه وترك الصرمة لأخيه أنيس ، ثم خرج إلى أطراف القفر وقد امتلأ قلبه بالغيظ والثورة .

فإذا رأى صرم الأغنياء في عماية الصبح خارجة إلى مرعاها يسوقها العبيد ، وقف لها حتى اقتربت منه ، ثم أقبل على العبيد فأسرهم وساق الإبل أمامه إلى منزله ، وجعل يتغنى وهو سائر بها ، بعد أن تكون نفسه قد هدأت واطمأنت مذ شعر بأنه قد سطا بهؤلاء والسادة أهل الكبرياء والبطر . فإذا ما مر في طريقه بأحد تلك الأنصاب الحجرية القبيحة النحت التي كان القوم يتخذونها آلهة ليخضعوا بها رقاب الأتباع ، وليجعلوها حامية لمظالمهم وستارًا لمخازيهم ، وقف

عليه ثم التمس حجرًا صلبًا فأهوى به على الوثن فهشمه وحطمه ، ومضى بعد ذلك في سبيله يتغنى وهو خفيف القلب ، لأنه قد شفى غليله من ظلم هؤلاء السادة الأغنياء ومن ضلال الأوثان وخرافتها .

وفيما كان جندب جالسًا في وادي قومه يومًا يرعى صرمته ويتذكر المواقع التي سلب فيها ما سلب من تلك الإبل القليلة التي يرعاها ، مر به رجل من جيرانه فحياه ضاحكا وقال له :

" إيه جندب . كيف أنت ؟ " فقال له جندب جادًا : " مرحبًا بك من أين أقبلت ؟ " قال الرجل : " جئت من مكة . وقد وجدت فيها خبرًا يسرك " .

قال جندب : " وما ذاك يا ابن العم ؟ " . قال الرجل : " رجل قام هناك يدعو إلى ما تحب من كسر الأوثان ، وإلى ما ترتاح إليه من التسوية بين الناس . رجل لا يرهب العظماء ولا يتكبر على الفقراء " .

قال جندب : " وما خبر ذلك الرجل ؟ " . فأجاب الجار : " كان عهدي به منذ أيام ، والناس يتحدثون بأمره ، والعظماء كارهون له ساخطون عليه ، ولعلهم لا يمهلونه " .

فقام جندب مسرعًا إلى بيته فلقى أخاه وقال له : " هل لك أن ترعى إبلنا وتعنى بأمنا حتى أعود إليك ؟ " قال أنيس أخوه : " إلى أين ؟ " .

قال جندب : " إلى مكة ، فقد قال لي فلان ابن فلان إن رجلا ظهر بها يكره الأوثان ، ويتأله لا يرهب العظماء ، ويقرب الفقراء ، وإني لأحب أن أراه " .

قال أنيس : " هلم كما تشاء . فإني أحب من ذلك مثل ما تحب . ولقد كنت بمكة منذ شهر فسمعت الناس يتحدثون عن رجل لعله يكون هو الذي أتاك نبؤه . يقولون إنه شاعر أو كاهن . ولكني سمعت قوله فرأيته لا يلتئم على وزن شعر ولا على قول كهانة ، بل هو قول حسن يدعو إلى الله وإلى مكارم الأخلاق " .

فقال جندب : " لقد زدتني شوقًا إلى رؤيته " . ثم مضى عنه بعد أن تزود بعض الزاد وسار إلى مكة . فلما دخلها خشى أن يسأل الناس عن ذلك الرجل الذي ظهر فيهم ، فقد عرف أن أهل مكة له كارهون ، وأنهم لا يطيقون أن يروا رجلًا يتقرب إليه . وقضى يومه يبحث عنه فلا يجده ، حتى أدركه الليل فذهب إلى المسجد ليقضي فيه ليلته . وهناك مر به رجل فعرف أنه غريب فعطف عليه ورحمه ، وأخذه إلى منزله ليؤويه ، ولم يسأل أحد الرجلين صاحبه عن شئ . وكان ذلك الرجل الذي أضاف جندبًا علي بن أبي طالب ابن عم الرسول ، ولم يكن جندب هذا غير الذي نعرفه باسم أبي ذر الغفاري ، ولم يكن الرجل الذي قطع أبو ذر الفيافي ليراه إلا محمدا رسول الله عليه الصلاة والسلام .

بقى أبو ذر على حاله تلك ثلاثة أيام لا يستطيع أن يعرف مكان محمد ، ولا يجرؤ أن يسأل أحدًا منه خوفًا من قريش . ثم بدا له أن يسأل ذلك الرجل الكريم الذي آواه في من منزله تلك الليالي الثلاث ، وقد اطمأن إلى حسن جواره وسماحة خلقه . فجعل يستوثق منه بالمواثيق لئن أفشى إليه الذي يريد ليكتمن عليه وليسترنه ، حتى إذا اطمأن إلى موثقه أخبره أنه قد بلغه خروج رجل بمكة يزعم أنه نبي ، فجاء ليلقاه ويسمع منه . فقال له علي وقد امتلأ قلبه فرحًا :  " إني غاد

إليه فاتبع أثري حتى تصل إليه " وذهب علي يمشي على حذر وسار أبو ذر يسعى من خلفه ، حتى انتهيا إلى مكان محمد ، ودخل علي ولم يجد أحدًا يخشاه ، وسار أو ذر في أثره حتى دخل وهو يترقب ، فرأى رجلًا جميل المنظر ، حسن السمت ، تبدو عليه السكينة ، ويشع من عينيه نور السلام ثم سمعه يتحدث ، فسمع حكمة وموعظة ، وقولًا يدخل إلى القلب فيستقر فيه . فما قام حتى أسلم من ساعته ، وكان المسلمون عند ذلك لا يزيدون على أربعة أوخمسة من أصحاب الرسول ، ولما قام يستأذن في الخروج سأل النبي فقال : " ما تأمرني ؟ "

فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : " ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري " .

غير أن أبا ذر كان رجلًا لا يطيق أن يكتم في نفسه قولة يراها قالة الحق ، فقال : " والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد على ملأ من قريش " . ثم قام فدخل المسجد فنادى بأعلى صوته : " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله " . ووقف ينظر إلى القوم وقد فزعوا من مجالسهم وتواثبوا نحوه يقولون : " رجل صبأ . رجل صبأ " . ثم أقبلوا عليه يضربونه حتى صرع وارتمى على الأرض كالقتيل .

وكان العباس عم الرسول بين الجلوس ، وهو يومئذ على دين قريش ، فقام إليه وأكب عليه وقال للقوم : " قتلتم الرجل يا معشر قريش ، أنتم تجار وطريقكم على مضارب قومه " غفار " فتريدون أن يقطع عليكم الطريق ؟ " فأمسكوا عنه وجعلوا يؤذونه بالقول والسباب . وسار أبو ذر بعد أن شفي قلبه من النداء بالحق ، وعاد إلى قومه كما أمره الرسول .

أقام أبو ذر في قومه بعد ذلك سنين طويلة ، انتشر الإسلام في أثنائها بين أهل مكة . ثم هاجر النبي وأصحابه

إلى يثرب ، وبدأوا جهادهم في مواقع بدر وأحد والخندق ، ولكن أبا ذر كان في تلك السنوات الطويلة مقيمًا في قومه لم يشترك في موقعة من تلك المواقع . ثم قدم على الرسول بعد ذلك . فأول ما نسمع عنه أنه كان يرعى لقاح النبي في مكان اسمه الغابة على مسيرة يوم من المدينة ، فأغار عليها عيينة ابن حصن الفزاري في أربعين فارسًا فاستاقوها وقتلوا في إغارتهم ابنًا لأبي ذر .

لم يظهر أبو ذر في ذلك الموقف بما كان يظهر به أبطال الجهاد من شدة الوطأة على العدو ، ولم يقف في وجه المغيرين وقفة المستقتل المستميت ، ولم يحتل عليه ويراوغه مراوغة الداهية الحوَّلى ، بل أرسل الصريخ إلى المدينة يستنجد بالمسلمين ، فخرج لإغاثته جماعة كان فيهم سلمة ابن الأ كوع ، أسرع إلى العدو مفردا يسير على رجليه ، فأدرك جمعًا من فوارس فزارة ، فما زال بهم يراوغهم ويراميهم ، ويرصد لهم ثم يكر عليهم ، حتى رجع عنهم بعد أن أتم ما خرج من أجله ، وعاد منصورا وحده وقد انهزم عنه الجمع الكثير المدل بقوته ، فاستنقذ لقاح الرسول ، واستلب كثيرا من سلاح أعدائه ومناعهم .

رحم الله أبا ذر ، فقد كان جريئًا في قولة الحق , يتحمل الأذى في سبيل الجهر بها ، ويصر على عقيدته لا يحيد عنها ، وإن أصابه في سبيلها أشد الألم والعسف ، ولكنه لم يكن رجل الحرب والجلاد .

خرج الرسول في جمع عظيم من المسلمين يقصد غزو الروم في تبوك ، واستعد المسلمون لذلك السفر استعدادا كبيرا ، فقد كانت الشقة بعيدة والأوان أشد القيظ . وكانت عدة أصحابه ثلاثين ألفا من الناس ، ومعهم عشرة آلاف من الخيل ، فلم يتخلف عن السير معه في تلك الغزوة إلا جماعات اعتذر بعضهم بأعذار قبلت منهم ، وتعلل آخرون بعلل لم تكن مقبولة . وكان أبو ذر فيمن تخلف

عن الخروج ، ولكنه كان غير ظنين في إسلامه ، ولم يكن مريبًا في إخلاصه . منعه عن الخروج أنه كان يرى السفر بعيدا والمشقة كبيرة ، وحيلته في العدة قليلة ضئيلة . ولم يكن برجل القتال الذي لا يترك فرصة تهيأ له فيه ، ولم يكن له من ماضي جهاده ما يجعل تخلفه محل إنكار ولوم ، فتركه الرسول ، لم يعذره ، ولم يؤنبه . ولما ذكر أمر تخلفه بعد ذلك ، قال النبي : " دعوه ، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه " . ولكن نفس أبى ذر كانت نفس الشهيد ، وإن لم تكن نفس المحارب أخى الهيجاء . فلما رأى نفسه قد تخلف عن المسلمين ، وفاته ما هم مقبلون عليه من تحمل المشقة ، ومعاناة السير في الفيافي ، يضربون في كبدها في وقدة الحر الشديد ، لا يثنيهم شئ عن الرغبة في الجهاد ، لم يستطع المقام ، ولم يستقر له بالدينة قرار . وجعل يلتمس المطية فلم يجدها ، أو لعله قد وجد المطية ولكنها لم تكن مما يقوى على مثل ذلك السفر الطويل ، فلم يترفق بنفسه ، بل أطاع النداء الذي رآه نداء الواجب ، وحمل متاعه على ظهره ، وسار على قدميه في آثار جيش المسلمين يضرب في الصحراء وحده .

ونزل النبي يوما في بعض منازله ، فرفع الآل شخصا ، فنظره ناظر من المسلمين فقال : " يا رسول الله هذا رجل يمشي على الطريق وحده " ، فنظر رسول الله إلى الآل ، ثم قال : " كن أبا ذر " فلما تأمله القوم مقبلا قالوا : " هو أبو ذر " ! فقال النبي : " يرحم الله أبا ذر ! يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده " . فقد عرف عليه الصلاة والسلام أن ذلك الرجل يرى الرأي فيتبعه ما رآه حقا ، وإن خالفه الناس جميعا ، وإن تحمل في سبيله أن يكون وحده ، وأن يموت وحده .

كان أبو ذر أثيرا عند النبي ، قريبًا إلى قلبه ، وقد

وصفه بالخير في أحاديث كثيرة ، فقال عنه مرة : " ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر " . وأوصاه مرة بأشياء جعله عليها أمينًا ، وكان من بينها أن يقول الحق وإن كان مرا ، وألا يخاف في الله لومة لائم . ولكن رجل العقيدة والمبادئ ، قد لا يكون أهلا لمعاناة الأعمال وتولي أمور الناس ، بل إنه ليكون أعجز عن معاناة أمور الدنيا ، إذا عظم حظه من البحث وراء الحقيقة , والتماس سبيل الحكمة الخالصة . وكان أبو ذر من هؤلاء الذين اتجهوا إلى المعاني المجردة ، وعنوا بالتمسك بها ؛ فلم يدع له ذلك قدرة على المسايرة والمعاملة . فقد سأل النبي مرة أن يؤمره إمارة ، فقال له عليه الصلاة والسلام : " إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها " وقال له مرة أخرى في مثل هذا المعنى : " إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم " وقال عنه علي بن أبي طالب : إنه " وعى علما عجز فيه " .

وقد قدر لأبي ذر أن يشهد في آخر حياته محنة شديدة من أجل قولة الحق ، وفي سبيل العقيدة التي يرى أنها الحق . وتحمل في سبيل ذلك ما تحمل من الشدائد ، وعانى ما عانى من الآلام ، حتى مات شهيد التمسك بما يراه الحق .

لما كثرت الأموال في خزائن الدولة الإسلامية في خلافة عثمان ، تغيرت حياة الناس بعض التغير ، وتبدلت نظرة القواد والولاة في الدولة كثيرا من التبدل

ولكن رجل المبدأ والعقيدة أباذر بقى على سالف سيرته ، وأبى أن ينحرف عن ماضي خطته في الحياة ، فبقى إلى آخر حياته لا ينسى يوم سأل النبي أصحابه فقال : " أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها ؟ " فقال أبو ذر : " أنا " , فقال له

الرسول عليه الصلاة والسلام : " صدقت ! " فكان لا يزال يأخذ نفسه بالزهد أخذا ، ولا يتسامح أن ينحرف عما كان عليه مع الرسول ، وكان يرى واجبه أن يدعو الناس إلى ما دعاهم إليه النبي ، ويجهر فيهم بتلك الدعوة وإن كرهوها ، كما جهر في أول إسلامه بالشهادة في مكة على ملأ من قريش

ذهب ليقيم بالشام فرأى أن الولاة أخذوا يعيشون بها عيشة الروم والفرس ، وأن الناس ساروا بالحياة مثل سيرة ولاتهم ، فكنزوا الأموال ، وأقاموا البنيان وأقبلوا على التنعم والترفه . فلم يرقه أن يسكت وأبى إلا أن يصيح فيهم صيحة يشفي بها قلبه ويؤدي واجبه ، فجعل يدعو الناس للعودة إلي بداوتهم ، ويأمرهم ببذل الذهب الذي خزنوه ، وجعل يقول لهم : " لا ينبغي لأحد منكم أن يدخر ذهبا ولا فضة ، بل يجب عليكم أن تنفقوا كل أموالكم في سبيل الله " ثم صاح في الولاة فقال لهم : " لا ينبغي لكم أن تجعلوا للدولة خزانة تسمونها مال الله ، فليست الأموال إلا أموال المسلمين تنفقونها في سبيل الله ، ولا تدخروا لأنفسكم منها شيئا ما دام في المسلمين فقير " .

ووجدت صيحته قبولا عند الفقراء ، وجعل العامة يتناقلون أقواله ويعيدونها بين أنفسهم ، حتى ضجر منه حاكم الشام ، وكان عند ذلك معاوية بن أبي سفيان . فأرسل يشكوه إلى الخليفة عثمان ، ويقول إنه يوشك أن يفسد عليه الرعية ، ويدعوها إلى الثورة والعصيان . فكتب إليه عثمان يدعوه إلى المدينة ، فأطاع وأسرع إليه ، لأنه إن كان يرى واجبه أن يدعو إلى ما يراه الحق ، فقد كان يرى من واجبه كذلك أن يطيع أمير المؤمنين . وأقام في المدينة بجوار الخليفة يدعو إلي ما كان يدعو إليه بالشام ، فدعاه عثمان إلى ترك تلك الدعوة فأبى . وكان لا يتحرج ان يدخل عليه فيجهر عنده برأيه ويدعوه إلى اتباع مذهبه . فإذا زجره عثمان وأمره بأمر أسرع إلى الطاعة والإذعان وقال له : " لو أمرتني

بأن آخذ بعرقوتي قنب لأخذت بهما حتى أمرت " . فلما رأى تشدد عثمان في نهيه عن مذهبه طلب منه أن يأذن له في الخروج إلى مكان بعيد عن المدينة ، حتى لا يجد حوله من تجب عليه دعوته ، وحتى يكون له العذر في وحدته أن يمسك عن الجهر بعقيدته . فأذن له عثمان في الخروج إلى الربذة على مسيرة يوم من المدينة ، فخرج أبو ذر إلى منفاه مختارًا راضيًا ، وهو قرير العين بأنه أدى الأمانة ما استطاع إليها سبيلًا .

وكان أبو ذر في حياته مصداقًا لما رأى من عقيدته . فكان كل ما في بيته من الأثاث لا يقوَّم بأ كثر من دراهم معدودة ، وسئل مرة : أليس له ثوب غير الذي عليه ؟ فقال لسائله : " لو كان لي لرأيته علي " . فقال له الرجل يحاوره : " لقد رأيت عليك منذ أيام ثوبين " فقال أبو ذر :

" يا ابن أخي أعطيتهما من هو أحوج إليهما مني " . فقال السائل : " والله إنك لمحتاج إليهما " . فأجاب أبو ذر : " أللهم غفرًا . إنك لمعظم للدنيا . أليس ترى عليَّ هذه البردة ، وليَّ أخرى للمسجد ، ولي أعنز نحلبها ، ولي أحمرة نحتمل عليها ميرتنا ، وعندنا من يخدمنا ويكفينا مهنة طعامنا ، فأي نعمة أفضل مما نحن فيه ؟ " وقال : " إني لأخاف أن أحاسب بالفضل " .

وكان لا يكتفي بأن يأخذ نفسه بهذا النمط من الحياة بل كان لا يرضى عن أحد بدَّل وغيَّر ، ومال إلى خطة في الحياة غير خطته ، وإن كان ذلك أعز أصحابه وأكرمهم عليه لقيه أبو موسى الأشعري يوما وكان له صديقًا ، فأقبل

عليه يسلم ويحي قائلا : " مرحبا بأخي " ، فقال له : " إليك عني . لست بأخيك . إنما كنت أخاك قبل أن تستعمل " ولقيه أبو هريرة يومًا فأقبل عليه يحييه . فقال له أبو ذر : " إليك عني . هل كنت عملت لهؤلاء ؟ " قال أبو هريرة : " نعم " قال : " هل تطاولت في البناء ؟ أو اتخذت زرعًا أو ماشية ؟ " فأجاب : " لا " فقال له : " أنت أخي . أنت أخي " . وما زال أبو ذر في الفلاة بالربذة وحده مع زوجته ،

حتى وافاه أجله ، فلم تجد امرأته أحدا يساعدها على دفنه ، حتى أقبل عليها ركب يقصد المدينة من العراق ، فساعدها أصحابه على تجهيزه ودفنه ، ولما مات لم يكن له من الثياب ما يكفي أن يكون له كفنا ، ولم يكن لامرأته ثوب يسعه ، فأوصى ألا يكفن في ثوب أحد كان أميرًا على إمارة ، أو كان عريفًا أو نقيبًا أو بريدآ أو عاملا من عمال دولة كان يعتقد أنها غيَّرت وبدَّلت وحادت عن الجادة التي أوصاهم النبي بلزومها .

وكان في الركب الذين دفنوه رجل من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهو عبد الله بن مسعود ، فلما رآه وعرف قصته بكى وهو يدفنه وقال : " يرحمك الله أبا ذر . صدق رسول الله ، تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك " . ثم أخذ يحدث أصحابه مما قاله عنه النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك .

حاشية : سأل بعض الفضلاء عن الثغر الذي قتل فيه عبد الله بن قيس الحارثي ، فهو من ثغور ساحل آسيا الصغرى .

اشترك في نشرتنا البريدية