جلس جندب بن جنادة في واد من الوديان التي كانت قبيلة غفار تضرب فيها بيوتها وكان يرعى صِرمة من الإبل هي كل ما يملك من هذه الدنيا ، يشترك فيها مع أخيه أنيس وأمهما العجوز . وكان جندب رجلا قويًا طويل القامة كث الشعر عريض الصدر ، فكان كثير التبرم برقة حاله وقلة ماله ، ويزيد حنقه كلما رأى سادة قومه وقد خرجت عبيدهم تسوق الابل آلافًا لترعى وترد المياه ولا تترك لصرمته من العشب والماء إلا ما لا يغني . وكان كلما تأمل في هؤلاء السادة لم يجد إلا رجالا دونه في بسطة الجسم وقوة الاحتمال ، ولم يبصر منهم إلا جهلا وسخفًا ، يقضون حياتهم بين خمر ونساء ويسجدون لحجارة يسمونها بأسماء ، ويزعمون أنها آلهتهم التي تهبهم الحياة والسلطان ، ويتقربون إليها ويسودون على الناس في حمايتها .
وكان جندب كلما رأى ذلك جاشت نفسه وترك الصرمة لأخيه أنيس ، ثم خرج إلى أطراف القفر وقد امتلأ قلبه بالغيظ والثورة .
فإذا رأى صرم الأغنياء في عماية الصبح خارجة إلى مرعاها يسوقها العبيد ، وقف لها حتى اقتربت منه ، ثم أقبل على العبيد فأسرهم وساق الإبل أمامه إلى منزله ، وجعل يتغنى وهو سائر بها ، بعد أن تكون نفسه قد هدأت واطمأنت مذ شعر بأنه قد سطا بهؤلاء والسادة أهل الكبرياء والبطر . فإذا ما مر في طريقه بأحد تلك الأنصاب الحجرية القبيحة النحت التي كان القوم يتخذونها آلهة ليخضعوا بها رقاب الأتباع ، وليجعلوها حامية لمظالمهم وستارًا لمخازيهم ، وقف
عليه ثم التمس حجرًا صلبًا فأهوى به على الوثن فهشمه وحطمه ، ومضى بعد ذلك في سبيله يتغنى وهو خفيف القلب ، لأنه قد شفى غليله من ظلم هؤلاء السادة الأغنياء ومن ضلال الأوثان وخرافتها .
وفيما كان جندب جالسًا في وادي قومه يومًا يرعى صرمته ويتذكر المواقع التي سلب فيها ما سلب من تلك الإبل القليلة التي يرعاها ، مر به رجل من جيرانه فحياه ضاحكا وقال له :
" إيه جندب . كيف أنت ؟ " فقال له جندب جادًا : " مرحبًا بك من أين أقبلت ؟ " قال الرجل : " جئت من مكة . وقد وجدت فيها خبرًا يسرك " .
قال جندب : " وما ذاك يا ابن العم ؟ " . قال الرجل : " رجل قام هناك يدعو إلى ما تحب من كسر الأوثان ، وإلى ما ترتاح إليه من التسوية بين الناس . رجل لا يرهب العظماء ولا يتكبر على الفقراء " .
قال جندب : " وما خبر ذلك الرجل ؟ " . فأجاب الجار : " كان عهدي به منذ أيام ، والناس يتحدثون بأمره ، والعظماء كارهون له ساخطون عليه ، ولعلهم لا يمهلونه " .
فقام جندب مسرعًا إلى بيته فلقى أخاه وقال له : " هل لك أن ترعى إبلنا وتعنى بأمنا حتى أعود إليك ؟ " قال أنيس أخوه : " إلى أين ؟ " .
قال جندب : " إلى مكة ، فقد قال لي فلان ابن فلان إن رجلا ظهر بها يكره الأوثان ، ويتأله لا يرهب العظماء ، ويقرب الفقراء ، وإني لأحب أن أراه " .
قال أنيس : " هلم كما تشاء . فإني أحب من ذلك مثل ما تحب . ولقد كنت بمكة منذ شهر فسمعت الناس يتحدثون عن رجل لعله يكون هو الذي أتاك نبؤه . يقولون إنه شاعر أو كاهن . ولكني سمعت قوله فرأيته لا يلتئم على وزن شعر ولا على قول كهانة ، بل هو قول حسن يدعو إلى الله وإلى مكارم الأخلاق " .
فقال جندب : " لقد زدتني شوقًا إلى رؤيته " . ثم مضى عنه بعد أن تزود بعض الزاد وسار إلى مكة . فلما دخلها خشى أن يسأل الناس عن ذلك الرجل الذي ظهر فيهم ، فقد عرف أن أهل مكة له كارهون ، وأنهم لا يطيقون أن يروا رجلًا يتقرب إليه . وقضى يومه يبحث عنه فلا يجده ، حتى أدركه الليل فذهب إلى المسجد ليقضي فيه ليلته . وهناك مر به رجل فعرف أنه غريب فعطف عليه ورحمه ، وأخذه إلى منزله ليؤويه ، ولم يسأل أحد الرجلين صاحبه عن شئ . وكان ذلك الرجل الذي أضاف جندبًا علي بن أبي طالب ابن عم الرسول ، ولم يكن جندب هذا غير الذي نعرفه باسم أبي ذر الغفاري ، ولم يكن الرجل الذي قطع أبو ذر الفيافي ليراه إلا محمدا رسول الله عليه الصلاة والسلام .
بقى أبو ذر على حاله تلك ثلاثة أيام لا يستطيع أن يعرف مكان محمد ، ولا يجرؤ أن يسأل أحدًا منه خوفًا من قريش . ثم بدا له أن يسأل ذلك الرجل الكريم الذي آواه في من منزله تلك الليالي الثلاث ، وقد اطمأن إلى حسن جواره وسماحة خلقه . فجعل يستوثق منه بالمواثيق لئن أفشى إليه الذي يريد ليكتمن عليه وليسترنه ، حتى إذا اطمأن إلى موثقه أخبره أنه قد بلغه خروج رجل بمكة يزعم أنه نبي ، فجاء ليلقاه ويسمع منه . فقال له علي وقد امتلأ قلبه فرحًا : " إني غاد
إليه فاتبع أثري حتى تصل إليه " وذهب علي يمشي على حذر وسار أبو ذر يسعى من خلفه ، حتى انتهيا إلى مكان محمد ، ودخل علي ولم يجد أحدًا يخشاه ، وسار أو ذر في أثره حتى دخل وهو يترقب ، فرأى رجلًا جميل المنظر ، حسن السمت ، تبدو عليه السكينة ، ويشع من عينيه نور السلام ثم سمعه يتحدث ، فسمع حكمة وموعظة ، وقولًا يدخل إلى القلب فيستقر فيه . فما قام حتى أسلم من ساعته ، وكان المسلمون عند ذلك لا يزيدون على أربعة أوخمسة من أصحاب الرسول ، ولما قام يستأذن في الخروج سأل النبي فقال : " ما تأمرني ؟ "
فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : " ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري " .
غير أن أبا ذر كان رجلًا لا يطيق أن يكتم في نفسه قولة يراها قالة الحق ، فقال : " والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد على ملأ من قريش " . ثم قام فدخل المسجد فنادى بأعلى صوته : " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله " . ووقف ينظر إلى القوم وقد فزعوا من مجالسهم وتواثبوا نحوه يقولون : " رجل صبأ . رجل صبأ " . ثم أقبلوا عليه يضربونه حتى صرع وارتمى على الأرض كالقتيل .
وكان العباس عم الرسول بين الجلوس ، وهو يومئذ على دين قريش ، فقام إليه وأكب عليه وقال للقوم : " قتلتم الرجل يا معشر قريش ، أنتم تجار وطريقكم على مضارب قومه " غفار " فتريدون أن يقطع عليكم الطريق ؟ " فأمسكوا عنه وجعلوا يؤذونه بالقول والسباب . وسار أبو ذر بعد أن شفي قلبه من النداء بالحق ، وعاد إلى قومه كما أمره الرسول .
أقام أبو ذر في قومه بعد ذلك سنين طويلة ، انتشر الإسلام في أثنائها بين أهل مكة . ثم هاجر النبي وأصحابه
إلى يثرب ، وبدأوا جهادهم في مواقع بدر وأحد والخندق ، ولكن أبا ذر كان في تلك السنوات الطويلة مقيمًا في قومه لم يشترك في موقعة من تلك المواقع . ثم قدم على الرسول بعد ذلك . فأول ما نسمع عنه أنه كان يرعى لقاح النبي في مكان اسمه الغابة على مسيرة يوم من المدينة ، فأغار عليها عيينة ابن حصن الفزاري في أربعين فارسًا فاستاقوها وقتلوا في إغارتهم ابنًا لأبي ذر .
لم يظهر أبو ذر في ذلك الموقف بما كان يظهر به أبطال الجهاد من شدة الوطأة على العدو ، ولم يقف في وجه المغيرين وقفة المستقتل المستميت ، ولم يحتل عليه ويراوغه مراوغة الداهية الحوَّلى ، بل أرسل الصريخ إلى المدينة يستنجد بالمسلمين ، فخرج لإغاثته جماعة كان فيهم سلمة ابن الأ كوع ، أسرع إلى العدو مفردا يسير على رجليه ، فأدرك جمعًا من فوارس فزارة ، فما زال بهم يراوغهم ويراميهم ، ويرصد لهم ثم يكر عليهم ، حتى رجع عنهم بعد أن أتم ما خرج من أجله ، وعاد منصورا وحده وقد انهزم عنه الجمع الكثير المدل بقوته ، فاستنقذ لقاح الرسول ، واستلب كثيرا من سلاح أعدائه ومناعهم .
رحم الله أبا ذر ، فقد كان جريئًا في قولة الحق , يتحمل الأذى في سبيل الجهر بها ، ويصر على عقيدته لا يحيد عنها ، وإن أصابه في سبيلها أشد الألم والعسف ، ولكنه لم يكن رجل الحرب والجلاد .
خرج الرسول في جمع عظيم من المسلمين يقصد غزو الروم في تبوك ، واستعد المسلمون لذلك السفر استعدادا كبيرا ، فقد كانت الشقة بعيدة والأوان أشد القيظ . وكانت عدة أصحابه ثلاثين ألفا من الناس ، ومعهم عشرة آلاف من الخيل ، فلم يتخلف عن السير معه في تلك الغزوة إلا جماعات اعتذر بعضهم بأعذار قبلت منهم ، وتعلل آخرون بعلل لم تكن مقبولة . وكان أبو ذر فيمن تخلف
عن الخروج ، ولكنه كان غير ظنين في إسلامه ، ولم يكن مريبًا في إخلاصه . منعه عن الخروج أنه كان يرى السفر بعيدا والمشقة كبيرة ، وحيلته في العدة قليلة ضئيلة . ولم يكن برجل القتال الذي لا يترك فرصة تهيأ له فيه ، ولم يكن له من ماضي جهاده ما يجعل تخلفه محل إنكار ولوم ، فتركه الرسول ، لم يعذره ، ولم يؤنبه . ولما ذكر أمر تخلفه بعد ذلك ، قال النبي : " دعوه ، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه " . ولكن نفس أبى ذر كانت نفس الشهيد ، وإن لم تكن نفس المحارب أخى الهيجاء . فلما رأى نفسه قد تخلف عن المسلمين ، وفاته ما هم مقبلون عليه من تحمل المشقة ، ومعاناة السير في الفيافي ، يضربون في كبدها في وقدة الحر الشديد ، لا يثنيهم شئ عن الرغبة في الجهاد ، لم يستطع المقام ، ولم يستقر له بالدينة قرار . وجعل يلتمس المطية فلم يجدها ، أو لعله قد وجد المطية ولكنها لم تكن مما يقوى على مثل ذلك السفر الطويل ، فلم يترفق بنفسه ، بل أطاع النداء الذي رآه نداء الواجب ، وحمل متاعه على ظهره ، وسار على قدميه في آثار جيش المسلمين يضرب في الصحراء وحده .
ونزل النبي يوما في بعض منازله ، فرفع الآل شخصا ، فنظره ناظر من المسلمين فقال : " يا رسول الله هذا رجل يمشي على الطريق وحده " ، فنظر رسول الله إلى الآل ، ثم قال : " كن أبا ذر " فلما تأمله القوم مقبلا قالوا : " هو أبو ذر " ! فقال النبي : " يرحم الله أبا ذر ! يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده " . فقد عرف عليه الصلاة والسلام أن ذلك الرجل يرى الرأي فيتبعه ما رآه حقا ، وإن خالفه الناس جميعا ، وإن تحمل في سبيله أن يكون وحده ، وأن يموت وحده .
كان أبو ذر أثيرا عند النبي ، قريبًا إلى قلبه ، وقد
وصفه بالخير في أحاديث كثيرة ، فقال عنه مرة : " ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر " . وأوصاه مرة بأشياء جعله عليها أمينًا ، وكان من بينها أن يقول الحق وإن كان مرا ، وألا يخاف في الله لومة لائم . ولكن رجل العقيدة والمبادئ ، قد لا يكون أهلا لمعاناة الأعمال وتولي أمور الناس ، بل إنه ليكون أعجز عن معاناة أمور الدنيا ، إذا عظم حظه من البحث وراء الحقيقة , والتماس سبيل الحكمة الخالصة . وكان أبو ذر من هؤلاء الذين اتجهوا إلى المعاني المجردة ، وعنوا بالتمسك بها ؛ فلم يدع له ذلك قدرة على المسايرة والمعاملة . فقد سأل النبي مرة أن يؤمره إمارة ، فقال له عليه الصلاة والسلام : " إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها " وقال له مرة أخرى في مثل هذا المعنى : " إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم " وقال عنه علي بن أبي طالب : إنه " وعى علما عجز فيه " .
وقد قدر لأبي ذر أن يشهد في آخر حياته محنة شديدة من أجل قولة الحق ، وفي سبيل العقيدة التي يرى أنها الحق . وتحمل في سبيل ذلك ما تحمل من الشدائد ، وعانى ما عانى من الآلام ، حتى مات شهيد التمسك بما يراه الحق .
لما كثرت الأموال في خزائن الدولة الإسلامية في خلافة عثمان ، تغيرت حياة الناس بعض التغير ، وتبدلت نظرة القواد والولاة في الدولة كثيرا من التبدل
ولكن رجل المبدأ والعقيدة أباذر بقى على سالف سيرته ، وأبى أن ينحرف عن ماضي خطته في الحياة ، فبقى إلى آخر حياته لا ينسى يوم سأل النبي أصحابه فقال : " أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها ؟ " فقال أبو ذر : " أنا " , فقال له
الرسول عليه الصلاة والسلام : " صدقت ! " فكان لا يزال يأخذ نفسه بالزهد أخذا ، ولا يتسامح أن ينحرف عما كان عليه مع الرسول ، وكان يرى واجبه أن يدعو الناس إلى ما دعاهم إليه النبي ، ويجهر فيهم بتلك الدعوة وإن كرهوها ، كما جهر في أول إسلامه بالشهادة في مكة على ملأ من قريش
ذهب ليقيم بالشام فرأى أن الولاة أخذوا يعيشون بها عيشة الروم والفرس ، وأن الناس ساروا بالحياة مثل سيرة ولاتهم ، فكنزوا الأموال ، وأقاموا البنيان وأقبلوا على التنعم والترفه . فلم يرقه أن يسكت وأبى إلا أن يصيح فيهم صيحة يشفي بها قلبه ويؤدي واجبه ، فجعل يدعو الناس للعودة إلي بداوتهم ، ويأمرهم ببذل الذهب الذي خزنوه ، وجعل يقول لهم : " لا ينبغي لأحد منكم أن يدخر ذهبا ولا فضة ، بل يجب عليكم أن تنفقوا كل أموالكم في سبيل الله " ثم صاح في الولاة فقال لهم : " لا ينبغي لكم أن تجعلوا للدولة خزانة تسمونها مال الله ، فليست الأموال إلا أموال المسلمين تنفقونها في سبيل الله ، ولا تدخروا لأنفسكم منها شيئا ما دام في المسلمين فقير " .
ووجدت صيحته قبولا عند الفقراء ، وجعل العامة يتناقلون أقواله ويعيدونها بين أنفسهم ، حتى ضجر منه حاكم الشام ، وكان عند ذلك معاوية بن أبي سفيان . فأرسل يشكوه إلى الخليفة عثمان ، ويقول إنه يوشك أن يفسد عليه الرعية ، ويدعوها إلى الثورة والعصيان . فكتب إليه عثمان يدعوه إلى المدينة ، فأطاع وأسرع إليه ، لأنه إن كان يرى واجبه أن يدعو إلى ما يراه الحق ، فقد كان يرى من واجبه كذلك أن يطيع أمير المؤمنين . وأقام في المدينة بجوار الخليفة يدعو إلي ما كان يدعو إليه بالشام ، فدعاه عثمان إلى ترك تلك الدعوة فأبى . وكان لا يتحرج ان يدخل عليه فيجهر عنده برأيه ويدعوه إلى اتباع مذهبه . فإذا زجره عثمان وأمره بأمر أسرع إلى الطاعة والإذعان وقال له : " لو أمرتني
بأن آخذ بعرقوتي قنب لأخذت بهما حتى أمرت " . فلما رأى تشدد عثمان في نهيه عن مذهبه طلب منه أن يأذن له في الخروج إلى مكان بعيد عن المدينة ، حتى لا يجد حوله من تجب عليه دعوته ، وحتى يكون له العذر في وحدته أن يمسك عن الجهر بعقيدته . فأذن له عثمان في الخروج إلى الربذة على مسيرة يوم من المدينة ، فخرج أبو ذر إلى منفاه مختارًا راضيًا ، وهو قرير العين بأنه أدى الأمانة ما استطاع إليها سبيلًا .
وكان أبو ذر في حياته مصداقًا لما رأى من عقيدته . فكان كل ما في بيته من الأثاث لا يقوَّم بأ كثر من دراهم معدودة ، وسئل مرة : أليس له ثوب غير الذي عليه ؟ فقال لسائله : " لو كان لي لرأيته علي " . فقال له الرجل يحاوره : " لقد رأيت عليك منذ أيام ثوبين " فقال أبو ذر :
" يا ابن أخي أعطيتهما من هو أحوج إليهما مني " . فقال السائل : " والله إنك لمحتاج إليهما " . فأجاب أبو ذر : " أللهم غفرًا . إنك لمعظم للدنيا . أليس ترى عليَّ هذه البردة ، وليَّ أخرى للمسجد ، ولي أعنز نحلبها ، ولي أحمرة نحتمل عليها ميرتنا ، وعندنا من يخدمنا ويكفينا مهنة طعامنا ، فأي نعمة أفضل مما نحن فيه ؟ " وقال : " إني لأخاف أن أحاسب بالفضل " .
وكان لا يكتفي بأن يأخذ نفسه بهذا النمط من الحياة بل كان لا يرضى عن أحد بدَّل وغيَّر ، ومال إلى خطة في الحياة غير خطته ، وإن كان ذلك أعز أصحابه وأكرمهم عليه لقيه أبو موسى الأشعري يوما وكان له صديقًا ، فأقبل
عليه يسلم ويحي قائلا : " مرحبا بأخي " ، فقال له : " إليك عني . لست بأخيك . إنما كنت أخاك قبل أن تستعمل " ولقيه أبو هريرة يومًا فأقبل عليه يحييه . فقال له أبو ذر : " إليك عني . هل كنت عملت لهؤلاء ؟ " قال أبو هريرة : " نعم " قال : " هل تطاولت في البناء ؟ أو اتخذت زرعًا أو ماشية ؟ " فأجاب : " لا " فقال له : " أنت أخي . أنت أخي " . وما زال أبو ذر في الفلاة بالربذة وحده مع زوجته ،
حتى وافاه أجله ، فلم تجد امرأته أحدا يساعدها على دفنه ، حتى أقبل عليها ركب يقصد المدينة من العراق ، فساعدها أصحابه على تجهيزه ودفنه ، ولما مات لم يكن له من الثياب ما يكفي أن يكون له كفنا ، ولم يكن لامرأته ثوب يسعه ، فأوصى ألا يكفن في ثوب أحد كان أميرًا على إمارة ، أو كان عريفًا أو نقيبًا أو بريدآ أو عاملا من عمال دولة كان يعتقد أنها غيَّرت وبدَّلت وحادت عن الجادة التي أوصاهم النبي بلزومها .
وكان في الركب الذين دفنوه رجل من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهو عبد الله بن مسعود ، فلما رآه وعرف قصته بكى وهو يدفنه وقال : " يرحمك الله أبا ذر . صدق رسول الله ، تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك " . ثم أخذ يحدث أصحابه مما قاله عنه النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك .
حاشية : سأل بعض الفضلاء عن الثغر الذي قتل فيه عبد الله بن قيس الحارثي ، فهو من ثغور ساحل آسيا الصغرى .
