الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 654الرجوع إلى "الثقافة"

مع الفكر الأوربى المعاصر, تأملات فى القمر، لأولدس هكسلى

Share

المادية والعقلية وغيرهما من الفلسفات التى تقول لا شئ غير كذا لا شئ غير المكان والزمان والمادة والحركة ولا شئ غير الجنس ولا شئ غير الاقتصاد ولا شئ غير الروح ولا شئ غير الشعور ولا شئ غير علم النفس إن عبارة لا شئ غير كذا كلام ناقه بقدر ما هو صغير تنقصه السماحة كفانا قولا لا شئ غير كذا فلقد حان أن تقول مع شئ من الذوق السليم الفطرى ليس هذا وحده ولكن أيضا كذا وكذا

ها هو الليل من وراء نافذنى بناضل ليصحو وتحلم الحديقة فى ضوء القمر بألوانها الذاهية ويبدو الورد قرمزيا بعد أن كان حالكا فى سواد الليل والأشجار ترنو إلى حاقة الحضرة الحية وحاجز الشرفة الناصع البياض يلمع إزاء السماء بزرقتها الداكنة كل هذا يجعلنى أتساءل هل ترقد الواحة هنا وتمتد الصحراء وراء آخر نخلة ويتموج ضوء القمر منعكسا على جدران المنزل البيضاء والقمر بدر وليس بدرا وحسب ولكنه جميل وليس جميلا وحسب ولكنه

أنهم سقراط بالكفر لأنه قال إن القمر حجر وأنكر التهمة قائلا إن عامة الناس يعرفون أن القمر إله وهو يتفق مع عامة الناس ويبدو قول سقراط معقولا بل علميا ردا علي فلسفة لا شئ غير المادية ويفضل قوله قول لورنس من الوجهة العقلية والعلمية معا وجاء قول لورنس فى كتابه العجيب أوهام اللاشعور الذى يجمع بين المادة السيكولوجية الصادقة والمظهر العلمى المختلق يقول لورنس ليس القمر عالما شديد البرودة مثل عالمنا

ثم يرد كلام فارغ فهو عالم من المادة الفعالة مثل الراديوم والفوسفور تجمد على قطب من الطاقة العظيمة ويعيب قول لورنس أنه قد يرهن على بطلانه فما لا شك فيه أن القمر ليس من الراديوم ولا من الفوسفور القمر حجر وكان لورنس ساخطا على فلاسفة لا شئ غير كذا الذين يؤكدون أن القمر حجر وحسب وله الحق أن يسخط فلقد كان يحس أن القمر شئ آخر ويحس بأهمية القمر البالغة ومعناه العميق إحساسا مبنيا على اليقين التجريبى ولكنه أراد أن يفسر هذه الحقيقة الحدسية تفسيرا علميا تفسيرا يقوم على المادة لا على الروح فمن العبث القول أن القمر من الراديوم وليس من العبث القول أنه من مادة إلهية فليس ما يمنع أن يكون الفمر حجرا وإلها

والحجة على أنه حجر وليس براديوم توجد فى كتب الأطفال العلمية هى حجة مقنعة وملزمة وليست الحجة على ألوهية القمر بأقل إقناعا منها ومن الممكن أن نستخلص هذه الحجة من تجاربنا ومن أقوال الشعراء بل يمكن أن نستخرجها من شذرات مبثوثة فى كتب الفسيولوجيا والطب

ولكن ما ألوهية القمر وما الألوهية كيف تعرف الإله فى لغة علم النفس الإله شئ يثير فينا نوعا من الشعور بسميه الأستاذ أونو الشعور بالقوة الخارقة هذا الشعور هو مادة الإله الأولى ومنها استمد العقل أفراد الآلهة الذين يملأون الأساطير اليونانية وغيرها واستخلص منها صفات الإله وهكذا أحس البشر بالفزع والرهبة أمام الكون الخطر المعجز وجعلهم هذا الإحساس يعتقدون فى وجود

آلهة غضاب ثم آثار فى التفكير فى الآلهة الغضاب الشعور بالفزع والرهبة حتى لو جاءهم الباحث على الفزع من الوجود نفسه الانفعال ثم التعقل ثم الاعمال عملية دائرية متصلة فجاة الإنسانية الدينية تقوم على مبدأ القلق

القمر حجر ولكنه حجر يثير الشعور بالقوة الخارقة فى الإنسان رجلا كان أو امرأة فهناك ضوء القمر الرفيق الناعم الذى يمنحا سلاما يفوق الإدراك وهناك ضوء القمر الذى يثير الخشوع وضوء القمر البارد القاسى الذى يثير فى النفس الشعور بالوحدة والبأس والعزلة والشعور بالتفاهة وعدم الطهارة وهناك ضوء القمر الحالم الحنون الذى يغرى بالحب لاحب فرد وحسب ولكن حب الكون بأجمعه ويلقى القمر شعاعه فى الجسم كما ينفذ شعاعه إلى العقل عن طريق البصر فهو يؤثر فى النفس تأثيرا مباشرا كما انه يؤثر فيها بطرق غامضة غير مباشرة أو دائرية وذلك عن طريق الدم ويحيا نصف الجنس البشرى فى خضوع تام لدورة القمر وهناك من الأدلة ما يؤكد أن الحياة الفسيولوجية ومن ثم الحياة الروحية للرجال والنساء على السواء تقوى وتضعف تبعا لتغيرات القمر فثمة أفراح غير معقولة وأحزان غير مفهومة وضحكات وتأوهات من غير سبب ظاهر هذه الظاهرات الفجائية والأوهام هى نسيج حالاتنا النفسية ومصدر الآلهة والجن وما إليها وهذه الظاهرات مبعثها الدم والأخلاط والدم والأخلاط يخضعان للقمر من بين ما يخضعان له من أشياء فالقمر إذا يؤثر فى النفس تأثيرا مباشرا عن طريق البصر وتأثيرا غير مباشر عن طريق الدم حتى الكلاب والذئاب يبدو أنها تحس على نحو حيوانى مهم بالقوة الخارقة المتعلقة بالقمر إذا حكمنا عليها بنباحها وعوائها فى الليل ولقد وحد بين أرطاميس إلهة كل ما هو وحشى وبين سيلين إلهة القمر فى الأساطير المتأخرة

وإذا نظرنا إلى القمر باعتباره حجرا نجد أن حجريته يكن فيها مبعث الشعور بالقوة الخارقة فهو حجر قديم يخلو من الماء والهواء وصورة لمآل أرضنا عندما تفقد الشمس قوتها بعد عدة ملايين من السنين ولا نستطيع أن نديم التفكير في القمر إلا وتجيش نفوسنا بمشاعر القوة الخارقة وتتدرج هذه المشاعر تحت صنفين معقدين

متضارين يطاق علي الصنف الأول مشاعر التفاهة الإنسانية وعلى الصنف الثانى اسم مشاعر العظمة الإنسانية فإذا تأملت هذا الحجر الغائى يسبح فى الفضاء الواسع تشعر كأنك عشرة أنك وضيع حقير إزاء هذا الجبروت للعجز وتقول مع باسكال سكون هذا الفضاء اللامتناهى يفزعنى وقد تشعر بعكس هذا وتقول مع بول فالبرى سكون هذا الفضاء اللامتناهى لا يغزعنى لأن منظر هذا الجرم الحجرى لا يجمعك تشعر بالضرورة أنك حشرة بل على العكس يجعلك فخورا برجولتك معتزا بها وهناك يسبح ذلك الجرم أقرب رمز للمخاوف الفلكية منا وألفها لنا ولكن الذين اكتشفوا مخاوف المكان والزمان من الفلكيين كانوا بشرا مثلما والكون يتحدى الإنسان على الرغم من تفاهته وحقارته وقد قبل الإنسان هذا التحدى

وينظر إلينا هذا الحجر من اللامتناهى للظلم كأنه يقول تذكروا أن مآلكم الموت ولكن تذكر الموت يشيع فينا كبرياء إنسانية ونشوة هادئة لنا الحق فيها

اشترك في نشرتنا البريدية