قال لي صاحبي في مستهل حديثه ، ولقد رويت لقراء ( الثقافة ) أحاديث عن صاحبي هذا . ولكنني لم أقل لهم من هو ؟ ولا ما صفته ؟ ولم أكشف لهم عن أية خلة فيه ، ولم أشر إلي أي شيء يعطي القارئ ولو فكرة ضئيلة عنه ، حتى يحل أحاديثه من نفسه في الزاوية التي تكافئها من التقدير . وفي الحق أنني ، في هذا ، معذور ، فالرجل صديقي من عهد طويل . وما نكاد نفترق إلا على نية لقاء . فليس من اليسير أن أهتف من صفته بما عسى أن يكره . وكيفما كان الأمر ، فإنني أكتفي في تقديمه اليوم ، بأنه رجل حاد الذكاء وحاد المزاج ، مرهف الحس ، دقيق الملاحظة ، سريع الخاطر ، حاضر الحكم على كل ما يستح له من الأشياء ؛ وكثيرًا ما يكون حكمه نقدًا لاذعًا تدفعه ثورة النفس . وإنه بهذه الخلال ليشقي الشقاء كله ، ويتعب صاحبه التعب أجمعه !
يغضبه ويثيره أتفه شيء يلحظه من الناس مما لا يبعث انتباهي ولا انتباهك ، ولو كان هذا الشيء مما لا يعنيه ولا يتصل به بأي حال . فإذا رأى مثلا بائعًا من هؤلاء الباعة الجوالين يحلف لمساومه بأنه باعه بأقل مما اشترى ، ثار ثائره ، وجعل يرغي ويزيد ، ويرثى لحال الزمان من لؤم أبناء الزمان ! وإذا أصاب ثلاثة يقفون ، في غير حاجة ، على الطوار ( الرصيف ) ، فيعوقون السابلة ، وقد يُلجئون بعضهم إلى التدلي في الشارع ، ليمضوا لطيانهم ، فيتعرضون بذلك لتلك الغوانك العابرة التي أصبح لا ينقطع لها في طرق القاهرة مدد ؛ رأيته
يقف بهم فيلومهم ويبكتهم ، ويضرب لهم أبلغ الأمثال على سوء عملهم ، وقلة ذوقهم ، وفداحة جنايتهم ، في وقفتهم السمجة ، على من لا جناية لهم من الناس ، غير مبال مما يلقى من مثل أولئك الأرذال !
على أنه ، مع هذا ، طيب القلب ، صافي النفس ، لا يحتاج في رده إلى الرضاء إلا إلى أيسر قدر من الاعتذار ، مهما يقع على شخصه هو من أسباب الإعنات والإغضاب ، وإن ليلة واحدة لكفيلة بأن تغسل صدره من كل ما أجن لامرئ من الحقد والاضطغان !
هذا صاحبي ، ويحسبك اليوم معرفة هذا القدر من خلاله . فلتمض في حديثه على اسم الله :
زارني ذات يوم من أيام هذا الأسبوع ، فكان أول ما لحظت منه اطمئنان الوجه ، ووداعة النفس ، ورفق الحديث ؛ وهذه أشياء عهدي بها منه أقل من القليل .
وسألته عن حاله كما يسأل الصديق عن حال الصديق . فقال بعد أن حمد الله وأثنى على جليل فضله : لقد خضت عشية أمس ساعات ثقالًا جدًا ، لقد غاظتني وأبرمتني ، وغرقت نفسي ، وأطارت لبي , حتى جازت بي أقصى حدود الصبر ، وعصفت بكل ما يُقَدَّر للمرء من الاحتمال فقلت له : " شِنْشِنة أعرفها من أخزَم " ولكن قل لي : كيف كان ذاك :
قال : استويت للعشاء ، وكنت شديد الجوع ، وبي من الشهوة للطعام ما لا أجده في أكثر الأيام ، وطعامي ، كما تعلم ، قل أو كثر ، إنما يوضع بين يدي جملة لأصيب من أي ألوانه ما أشاء في أية لحظة أشاء . وماكدت أسمي الله وأحدِر يدي إلى الصحفة بأول لقمة ، حتى رأيت ذبابًا قد هوى إلى مهوى أصابعي من الصحفة ، فذببته ، فعاد لتوه إلى موضعه ، وجعل يلغ كما كان يلغ ، فعدت إلى زجره ، فعاد كذلك . فأدرت الصحفة لأصيب مما
