لعل " نزعهة الألباء في طبقات الأدباء" و " إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب" هما أقدم الكتب المطبوعة في تراجم الرجال . والأول لابن الأنباري من رجال القرن السادس الهجري ، والثاني لياقوت الحموي من رجال القرن السابع . وقد استفاد الرجلان من كتب كثيرة ألفت قبل عصريهما بكثير ، ووقعت لهما فيما وقع من الكتب التي كان يستبق العلماء إلى الحصول عليها ونسخها أو استساخها . ولكن كثيرا من هذه الكتب لم يصل إلينا إلى اليوم . إما لأنه ضائع فما ضاع من تراثنا . وإما لأنه لا يزال مخطوطاً يحبسه الاختزان عن الاستفادة منه ، وإلا فأين كتاب أبي بكر محمد بن عبد الملك التاريخي ، وابن درستويه . وابن عمران المرزباني في طبقات النحويين . وأبي سعيد السيراني في نجاة البصرة ، وأبي بكر محمد بن حسن الأشبيلي الزبيدي - من علماء القرن الرابع - في طبقات النحويين ، وابن مسعر المغربي ، وكتاب " شجرة المذهب في أخبار أهل الأدب" لابن فضال المجاشعي ، وغيرها من كتب التراجم ؟
لقد أفاد ياقوت الرومي صاحب المعجمين الثمينين : معجم الأدباء ، ومعجم البلدان ، من هذه الكتب التي ذكرناها والتي نقلناها عن المقدمة الطويلة النفيسة لكتابه في تراجم الرجال . وقد صرح هو نفسه باستفادته من هذه الكتب التي نقل أكثر الفوائد في كثير منها إلى كتابه - كما يذكر في المقدمة . ومن هنا كانت مزية كبيرة الكتاب " معجم الأدباء" وهي أنه حفظ لنا نصوصاً كثيرة جدا ، ونقولا كثيرة من كتب لما تصل إلينا إلى اليوم ؛ كما نقل فوائد كثيرة من كتاب " نزهة الألباء"
لابن الأنباري . وهو كتاب نفذت طبعته من زمن غير قريب ؛ ولا يزال ينتظر من يسلف إلي الأدب العربي بداً بإعادة طبعه وتحقيقه .
وتعد مقدمة ياقوت الرومي لكتابه " إرشاد الأريب " أطول ما كتب من المقدمات في كتب التراجم والطبقات ، فقد مضي الرجل فيها على طبعه الأدبي ، وملأها بكثير من الفوائد ، ووضع فيها بعض مناهجه في الترجمة للرجال الذين اختارهم . أما بقية المنهج - مما لم يشر إليه ياقوت في القدمة فقد استقرأناه من مطالعتنا للكتاب ، ومن معاودة النظر فيه ، وكثرة الرجوع إليه
وأول مناهج " معجم الأدباء " - وهو أسبق من " وفيات الأعيان لابن خلكان " بعشرات من السنين - أنه لم يقصره على طبقة واحدة من الرجال ؛ كالنحويين ، أو القراء ، أو المؤرخين وحدهم ؛ ولكنه جمع فيه كما يقول :
" ما وقع إلي من أخبار النحويين واللغويين ، والنسابين ، والقراء المشهورين ، والإخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين . والكتاب المشهورين ، وأصحاب الرسائل المدونة وأرباب الخطوط المنسوبة والمعينة ، وكل من صنف في الأدب تصنيفا ، أو جمع في فنه تأليفاً .
وواضح من هذا أنه لم يترك مشتغلاً بالعلم والأدب والكتابة والخط إلا ترجم له ، ونظمه في سلك كتابه . ولعل اهتمام ياقوت الرومي بالترجمة للوراقين وأصحاب الخطوط هو نوع من الألفة القديم المهنة وسابق الصنعة . فقد كان في أول أمره يشتغل بفسخ الكتب بالأجرة . وجعل بيع الكتب بعض تجارته كما يقول مؤرخوه ، فحصل
فوائد كثيرة من مطالعة ما يقع له من الكتب ، وقد أفاده هذا التحصيل كثيرا في تأليف كتبه النفيسة .
ولقد أراد ياقوت أن يأخذ نفسه في مقدمة معجمه الأدبي بطريق الإيجاز في التراجم ، وعبر عن ذلك بقوله : " مع إثبات الاختصار والإعجاز في نهاية الإيجاز " .
ولكنه لم يمض في هذا الشوط إلى غايته ، ولم يلتقي في التنفيذ مع رغبته . . فقد رأينا كثيرا من التراجم تطول إلى حد يجعل من الترجمة للرجل الواحد رسالة خاصة تقوم بكتاب وحده ، وتبلغ بضع عشرات من الصفحات ، ورأينا كثيراً من التراجم تقصر وتوجز إلى حد يخرجها عن الترجمة إلى مجرد الإشارة إلى المترجم له في أسطر قليلة
ومن التراجم الطويلة ترجمته لابراهيم بن إسحق الحربي في بضع عشرة صفحة ، وترجمته لابراهيم بن العباس الصولى في أكثر من ثلاثين صفحة ، وترجمته لنفطويه في حوالى عشرين صفحة ، وترجمته لابراهيم بن هلال الصابي في أكثر من سبعين صفحة ، وترجمته لبديع الزمان الهمذاني في أكثر من أربعين صفحة ، وترجمته لجحظة البرمكى في أكثر من أربعين صفحة ، وترجمته لأبي العلاء المعري في أكثر من مائة وعشر صفحات ، وترجمته لابن فارس صاحب " المجمل " و " مقاييس اللغة " في بضع عشرة صفحة ، وترجمته لابن ثوابة الكاتب في ثلاثين صفحة ، وترجمته لأسامة بن منقذ في قرابة ستين صفحة .
أما التراجم القصيرة فكترجمة أحمد بن شقير النحوي في عشرة أسطر ... وكترجمة أحمد بن الحسن بن اليماني في ثمانية أسطر ، وكترجمة " الحلال" الأديب الوراق في أربعة أسطر ... ولعل أكثر التراجم إيجازا هي ترجمة ابن رضوان النحوي في سطر واحد يضاف إليه كلمة واحدة وعجيب جدا هذا الفرق البعد بين الإطالة في بعض التراجم والإيجاز المخل في بعضها الآخر ! فأين سطر واحد لابن رضوان من مائة وعشر صفحات المعري ؟ وكف يتفق ذلك في كتاب واحد لمؤلف واحد أخذ نفسه بنهج واحد ؟ هنا نرى الأستاذ الكبير محمد كرد علي يقول في خلال ترجمته لياقوت : (ومعجم الأدباء لم يصل إلينا إلا ناقصا ،
وما نشر على أنه من ياقوت ينادي على نفسه بأنه ليس له بل هو مدسوس عليه ؟ ويتجلى ذلك لمن يعارض بين التراجم التي هي من محصول قلمه ، والفصول الأخيرة من الكتاب وقد الصفقت به الصاقاً . فالفرق بين إفاضة ياقوت في الترجمة للرجال والاقتضاب المخزي في التراجم التي نحلوها له (١) .
ومع احترامنا لرأي الصديق العلامة الجليل فإننا نقول إن هذا الاقتضاب المخزي في الكتاب لم يكن في " الفصول الأخيرة من الكتاب " فحسب ؛ ولكن الأجزاء الأولى من الكتاب لا تسلم التراجم فيها من الاقتضاب والإيجاز المخل . فإن تراجم أحمد بن الحسن السكوتي ، وأحمد بن الحسن الفلكي ، وابن اليمان وابن رضوان وعشرات غيرها من التراجم المقتضبة جدا هي في الجزء الثالث من الكتاب الذي تبلغ أجزاؤه عشرين جزءاً .
وأغلب الظن عندي أن معجم الأدباء كتب في مدى طويل وعلى فترات متباعدة ، فنسى باقوت ما ألزم به نفسه في المقدمة ، وخاصة أنه التزم نفسه بالإيجاز لا بالإطالة كما أسلفنا ، فلما مضي في التأليف شغلته الأيام عن قديم الالتزام ، فأطال كثيرا في بعض الرجال ، وأوجز كثيرا جدا في بعضهم ، واعتدل القدر بين يديه في البقية الباقية .
ومن مناهج ياقوت التي ذكرها في مقدمة معجمه الأدبي الخالد ، أنه ذكر مواليد المترجم لهم وتواريخ وفياتهم ما قدر على ذلك ووجد إليه سبيلا ، وإلا فإنه يترك الإشارة إلى ذلك ، ويقول عن ذلك في مقدمته : ( ولم آل جهداً في إثبات الوفيات ، وتبيين المواليد والأوقات ).
وقد بلغ من دقته وتحريه وجه الحق في تعيين المواليد أنه كان يسأل المترجم لهم من معاصريه عن تاريخ ولادتهم ، وأمامنا في متن الكتاب الطويل الضخم عشرات من الأمثلة على هذا ، نجتزئ منها بما يأتي : في ترجمته لإبراهيم بن محمد الخوارزمي يقول : (سألته عن مولده ، فقال : كانت
ولادتي في ذي الحجة سنة تسع وخمسين وخمسمائة ( ١ ) . وفي ترجمته لإسماعيل بن جعفر الصادق وهو معاصر له يقول : ( وأخبرني أحسن الله جزاء - أن مولده ليلة الاثنين ، الثاني والعشرين من جمادي الآخرة سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة (٢ )
ولم يقل تحقيقه للوفيات عن تحريه لحقيقة المواليد ؛ وأحيانا يربط بين وفاة شخصية يترجم لها وبين بعض الأحداث التي جرت له هو شخصيا ؛ فيقول في ترجمة حميه ياقوت الرومي الكاتب : ( وتوفي في السنة التي عدت فيها من خوارزم إلى الموصل ، سنة ثمان عشرة وستمائة عن سن عالية (٣)
وكما كان يسأل ياقوت الرومي عن ميلاد المترجم لهم ، كان يستخبر غيرهم عن تاريخ وفياتهم ؛ ففي ترجمته لأحمد بن عبد الله الغرغاني يقول : (وكانت وفاته - كما أخبرني المصريون بها - في سنة اثنتي عشرة وستمائة ، عند كوتي بها) (٤). وفي ترجمته لأحمد بن علي البيهقي يقول : ( مات فيما ذكره أبو سعد السمعاني في مشيخة أبيه ، في سلخ شهر رمضان ، سنة أربع وأربعين وخمسمائة ، أخبرني بذلك الشيخ الإمام المظفر عبد الرحيم بن سعد السمعاني ، عن والده ، وأخبرني أيضا أن مولد. إلخ (٥) .
ولياقوت طريقة اخري في تحقيق المواليد والوفيات تدل على سلامة منهجه العلمي ، في ترجمته لأحمد بن فارس اللغوي ذكر رواية ابن الجوزي أن ابن فارس مات سنة تسع وستين وثلاثمائة ، وذكر أيضا ما وجد خط الحميدي من أن ابن فارس مات في حدود سنة ستين وثلاثمائة ، ثم قال معقباً على ذلك : ( وكل منهما لا اعتبار؛) لأني وجدت خط كفه - يعني ابن فارس - على كتاب " الفصيح" تصنيفه
وقد كتبه في سنة إحدي وتسعين وثلاثمائة (١) . ولم يكتف ياقوت الرومي في تحقيق المواليد والوفيات لشخص يترجم له بسؤاله أو سؤال واحد غيره ؛ ولكنه كان يعني نفسه بالبحث ، ويسأل كثيرا من العارفين حتى يهتدي إلى وجه الحق . ويؤيد لنا ذلك ما ذكره في ترجمته لإسماعيل بن حماد الجوهري صاحب " الصحاح " في اللغة ، قال :( وكنت بحلب في سنة إحدي عشرة وستمائة ، في منزل القاضي الاكرم . والصاحب الأعظم أبي الحسن علي ابن يوسف بن إبراهيم الشبابي ، فتجارينا أمر الجوهري ، وما وفق له من حسن التصنيف ، ثم قلت له : ومن العجب أني بحثت عن عن مولده ووفاته بحثا شافيا ، وسألت عنهما الواردين من تيسابور فلم أجد مخبرا عن ذلك (٢) ) .
فهل بعد هذا البحث والسؤال واستخبار القصاد والوراء مزيد لمن يتحري الأخبار ، ويدون الآثار .
(للبحث بقية)
