١ - تعمل الأقدار عملها فى هذا الوجود ؛ فتهب من تشاء وتحرم من تشاء : تبسط يدها لقوم بالصحة والعافية ، وتحفظ عليهم كامل حواسهم وقواهم ، أو تجود عليهم بالثروة والجاء وطيب العيش ، وتقبض يدها عن آخرين ، فلا يكون لهم من هذه الحظوظ ولا من غيرها شئ . بهذا جرت سنة الله وبهذا تجرى ، ولن نجد لسنة الله تبديلا
ولكن الناس يختلفون فى مواقفهم مما يأتى به القدر إذا حرمهم متعة من متع الحياة أو أداة من أدوات هذه المتع : فمنهم من يستكين ويرضخ ويرضى بما قسم الله له . ظنا أن الرضا بالقضاء رضا بالمقتضى به ؟ فلا يحاول فى قليل أو كثير أن يغير من حاله أو يعوض على نفسه بعض ما فوت عليه . ومنهم من يثور ويعترض ويلح فى الشكوى ويتمرد ، ولكنه لا يحاول أن ينقلب على ما ابتلى به . ومنهم من يسلم بالمقدور اعتقادا أنه لا مفر منه ، ولكنه يكافح ويجاهد وتأبى نفسه الطموح أن ترضخ أو تستكين ؛ فلا يزال يجاهد ويغالب ويطرق كل باب من الأبواب المغلفة أملا أن يلج واحدا منها ، طالبا لنوع من العوض ، إن لم يعدل فى قيمته ما حرم منه فقد يفوقه قدرا . ولهذه الطبقة المجاهدة من الدين قدر عليهم الحرمان وغالبوا حتى كللت مغالبتهم
بالنصر ، مكانهم المرموق فى تاريخ الإنسانية ؛ بل الواجب أن نحلهم من تاريخ الإنسانية محل الصدارة ؟ لأنهم استحقوا البطولة عن جدارة حيث سبقت البطولة إلى غيرهم سوقا ممن مهدت لهم سبل الحياة وذلك لهم كل الصعاب فدخلوا إلى الدنيا آمنين وخرجوا منها آمنين .
٢ - ومن أبطال الجيل الذى نعيش فيه ممن انتصروا على قسوة الأقدار الآنسة الأمريكية " هيلين كبار " . سمعت بهذه المخلوقة العجيبة وقرأت عنها الكثير ، ولكنى لم أتمكن من رؤيتها حتى دعتها جامعة فاروق الأول بالإسكندرية لإلقاء محاضرة بها . ولقد كدت قبل أن أراها أن أنكر ما سمعته عنها ، أو بعضه ، أو على الأقل أعده ضربا من المبالغة والتهويل الأمريكيين ؛ لأننى لم أستطع أن أتصور أن المرأة التى أصيبت بالعمى والصمم والبكم منذ كانت سنها ثمانية عشر شهرا ، تستطيع بعد جهاد طويل أن تتكلم وتلقى المحاضرات ، وأن تسمع عن غير طريق السمع ، وتخوض غمار الحياة العلمية الأكاديمية ، فتحصل على درجة شرف فى اللغات الحية ثم على درجة الدكتوراه ، ثم تصبح بعد كل هذا كاتبة مرموقة بين كتاب العالم . ولكن تبددت كل هذه الأوهام ، واستحال ذلك الشك يقينا عندما
رأيتها رأى العين وأيقنت أنها فى غير جدال إحدى معجزات القرن العشرين .
سمعتها بأذنى تتحدث ، وإن كان حديثها أشبه فى نغمته بحديث الأطفال الذين لم يتكامل نمو أعضائهم الصوتية ، ورأيتها تتلقى الرسائل من وصيفتها ، بأن تحرك هذه الوصيفة أصابعها حركات رمزية خاصة فى يد " هيلين " - كما يرسل عامل التلغراف رسائله بطريق الاصطلاح الرمزى التلغرافى عبر آلته ، ورأيتها تستقبل الرسائل الصوتية من وصيفتها ومن بعض الحاضرين الذين تحدثوا إليها - لا عن طريق السمع - فهى لا تزال صماء - بل بأن تضع أصابعها على فم المتحدث فتترجم الاهتزازات الصوتية الخارجة من فمه إلى ألفاظ ، ثم تأخذ فى الرد على السائل إن سألها سؤالا ، أو فى شرح شئ آخر إن طلب منها بيانا ؛ وهكذا تستمع " هيلين كبار " إلى الموسيقي وتستمتع بها كما يستمتع بها من وهبهم الله حاسة السمع ، وما عليها إلا أن تضع أصابعها السحرية على الآلة العازفة فتنقل إليها الاهتزازات الصوتية كل أنغام القطعة المعزوفة . يا لله ! لقد بلغت من قوة الحس ودقته فى التسحيل مبلغ الآلة الميكانيكية المحكمة الصنع ، إلا أنها آلة حية تفهم ما تسجل وتدرك معانيه العميقة ، وتطرب له إن كان مما يثير الطرب .
٣ - ولم تكن اللغة التى استعملتها "هيلين"ووصفتها بأنها أشبه فى نفسها بلغة الطفل الذى لم يكتمل نموه ، باللغة المادية الساذجة ، بل كانت لغة أدبية دقيقة أحيانا ولغة علمية ناضجة أحيانا أخرى . استطاعت " هيلين كبار " أن تعبر عن أرقى المعانى وأدقها فى الأدب والفلسفة والاجتماع ، وتمكنت من أن تصور بها فلسفتها الخاصة فى الحياة وفى المثل العليا التى يجب أن تتجه إليها جهود البشر فى العصر الذى تعيش فيه ، وهى ترى أن عليها رسالة لابد من أدائها ، وهى الدعوة إلى الأخذ بيد الصم والبكم والعمى ، وإتاحة الفرص الممكنة لهم لكى يعيشوا عيشة إنسانية كاملة ويتمتعوا كما يتمتع غيرهم فى هذه الحياة ، لأنهم بشر ، ومن حق البشر أن تنتمى مواهبهم العقلية والروحية ، حتى ولو لم تسو الطبيعة بينهم وبين غيرهم فى القوى البدنية . فهى تستحث سامعيها بكل ما وسعها من حيلة وما أوتيت من
بيان - وقد تصل فى ذلك إلى مرتبة التعبير الشعرى الرائع - أن يقدموا " الزكاة " راضين مغتبطين عما وهبهم الله من نور الأبصار ، لينقذوا العميان من ألم الحرمان - البدنى والعقلى - وبذلك يضيفون إلى لذة الاستمتاع بأبصارهم لمدة أخرى أقوى وأرفع هي لمدة إنقاذ الإنسانية المعذبة .
٤ - ومن الغريب حقا أن نرى " هيلين كبار " التى حرمتها الطبيعة أعز ما تمنحه فى هذه الحياة ، بل على العكس منحتها كل عذر للنقمة على الأقدار والثورة فى وجهها والسخط عليها . أقول من الغريب حقا أن تراها لا تفارق الابتسامة العريضة شفتيها ؟ فهي أبدا هاشة باشة مرحة ، قوية الإيمان بالله ، واتقة من العدل الإلهى ، مخلصة لدينها أشد الإخلاص متفائلة أشد التفاؤل بمستقبل الإنسانية . تقول : إن الطريق الوحيد لخلاص الإنسانية وإسعادها هو أن يعمل كل منا على تحقيق مثله العليا فى حياته فيما يعمل وما يقول ، وفي أن يحاول كل منا أن يرى وجهة نظر الآخر ، فإنه ليس أضر على الحياة الاجتماعية من الأنانية والاستبداد بالرأى . وأغلب الظن أنها مرت بدور غلب عليها فيه التشاؤم الفائم والحزن العميق والثورة النفسية الصاخبة ؟ ولم يتبدل ذلك التشاؤم تفاؤلا ولا ذلك الحزن بشرا وغبطة ، ولا تلك الثورة سكونا وطمأنينة إلا بعد أن تبدل ظلام حياتها نورا وخرجت من سجنها النفسى إلى سعة فناء الحرية .
كذلك كان شأن بيتهوفن الموسيقى العظيم الذى كافح كفاح الأبطال عندما أصيب بالصم وهو لم يزل بعد فى شرخ الشباب وحرم حتى لذة الاستمتاع بنتاج عبقريته الفذة ، فثار ثورة كادت تؤدى به إلى الانتحار ، وصور فى ألحانه الخالدة قسوة القدر ومغالبته إياه تصويرا يكاد يسمعك أنات قلبه فى نغماته . ثم تصوف ورضي بقضاء الله . فاغلب تشاؤمه تفاؤلا ، وكان فى أخريات حياته لا يرى فى الوجود إلا خيرا وجمالا وسعادة وغبطة ، وصور كل ذلك أروع تصوير في سمفونيته التاسعة التى تسمعك بهجة الخلق وهم يرتلون أناشيد الحمد والثناء لله صاحب الخلق ورب العالمين ومفيض الوجود والخير على العالم . ٥ - ولما انتهى مجى من أمر " هيلين كبار " البكماء الناطقة والصماء السامعة ، وأكاد أقول العمياء المبصرة ، بدأ عجبى من أمر مدرستها ومربيتها آن ساليفان التى كان لها أكبر
الفضل فى تعليم تلميذتها وترويضها وخلق تلك الحواس الجديدة فيها . فإننا لو وصفنا " هيلين كبار " بأنها معجزة من المعجزات ، لحق لنا أن نصف " آن ساليقان" بأنها سائحة تلك المعجزة كيف استطاعت هذه المربية أن تقتحم تلك الحوائط الصلبة السميكة التى صورت بها نفس تلميذها الصغيرة ؟ لقد كانت حوائط لا منافذ فيها كالقشرة الصخرية التى تغلف حجرا من الأحجار . والنفس من ورائها حبيسة سجينة بكل ما أودع فيها من مواهب واستعدادات ، فكيف نقلت إلى هذه النفس السجينة فبعثت فى سجنها أول بصيصى من النور العقلى ؛ وكيف أحالت ذلك الحجر الأصم إلى كائن حساس عاقل مفكر ؟ كيف علمتها اللغة وكيف صعدت معها من الملموس - لا أقول المحسوس إطلاقا فإنها لم تكن تعرف من المحسوسات سوى الملموسات - إلى العقول المجرد ؟ ثم كيف أنطقتها عن طريق غير طريق السمع ؛ كل هذه أسئلة استقل بالرد عليها كتب ألفها مؤلفون فى هذا الموضوع؛ فإن " هيلين كبار " قد كانت دائما موضع بحث علماء النفس
واللغة منذ عرفت قصتها . ولكن لا يتسع التمام هنا لذكر المسائل التى عالجها العلماء مما يتصل بالحياة السيكولوجية التى تحباها هذه السيدة الخارقة للعادة . ولكن الذى لا شك فيه هو أن لولا " أن ساليفان " لكانت " هيلين كبار " اليوم فى عداد الجمادات - لا أقول الحيوانات ، فإن الحيوانات تسمع وتبصر وتفيد من تجاربها السمعية والبصرية فى تشكيل حياتها .
لهذا لم تنس النفيذة الدين العظيم الذى تدين به لمربيتها ، لأنها هى التى وهبتها الحياة الحقة وكونتها جسما وعقلا وروحا . بل إنها لتشعر بهذا الدين لمربيتها أكثر من شعورها بالدين لوالديها اللذين كانا سببا فى وجودها . وأكبر أمانيها اليوم تلك التى تعبر عنها بقولها : " إننى لأتطلع بفارغ الصبر إلى الحياة الأخروية ، حيث أتحرر نهائيا من تلك الأغلال البدنية التى كبلت بها فى هذه الحياة ، وحيث تلتقى روحى مرة أخرى بروح معلمتى المحبوبة".

