ذكر ابن سلام أنه شهد خَلَفاً وقد قيل له من أشعر الناس؟ فقال: ما ينتهى هذا إلى واحد يجتمع عليه، كما لا يجتمع على أشجع الناس، وأخطب الناس، وأجمل الناس
وإذا أردنا أن نبحث عن السبب فى تشعب الخلاف فى ذلك إلى هذا الحد لم نجده يرجع إلا الى أن علماء الأدب لم يهتدوا فى ذلك الى مقياس عام للشعر يمكن به وضع كل شاعر فى مرتبته التى يستحقها بموجب هذا القياس العام ، ويرجع إليه علماء الأدب فتتفق عليه كلمتهم فى ترتيب طبقات الشعراء ، أو ما يقرب الخلاف بينهم فى هذا ولا يتشعب ذلك التشعب . وإن عدم اهتدائهم إلى ذلك القياس العام للشعر ليجعل خلافهم فى ترتيب طبقات الشعراب على استفحاله بينهم مما يجدر بالباحث عدم الاعتداد به ، لأنه يكار يكون خلافه لفظيا لا حقيقيا ، إذ لكل فريق وجهة نظر فيمن يقدمونه من الشعراء خلاق وجهة نظر الأخرين كما يقدم أهل البصرة امرأ القيس لسبقة الى ابتداع أشياء استحسنها المرب واتبعه فيها الشعراء ، من استيقاف الصحب وبكاء الأطلال ، وتشبيه النساء بالظباء غير ذلك . وكما يقدم أهل الحجاز زهيرا والنابغة ، لأن زهيرا كان أحكم الشعراء شعرا ، وأبعدهم من السخف ، وأجمعهم - لكثير من المعانى فى قليل من الألفاظ ، وأنه كان لا يعاظل بين الكلام ، ولا يتبع حوشيه ، وأنه مع بلوغه ما بلغ فى المدح أحدا بغير ما هو فيه . ولأن النابغة كان أحسنهم ديباجة شعر ، وأكثرهم رونق كلام ، وأجزلهم بيتا ، وكأن شعره منثور لا تكلف فيه . وكما يقدم أهل الكولة الأعثى لأنه كان أكثرهم عروضا ، وأذهبهم فى الشعر فنونا ، وأكثرهم طويلة جيدة
وقد قسم علماء الأدب الشعراء تقسيماً يمكن أن يعد من المقاييس العامة للشعر، ولكنه لا يفيدنا فى ترتيب طبقات الشعراء الفائدة المطلوبة، فقالوا إن الشعراء أربعة أقسام: شاعر
فحل وهو الذى يجيد الشعر ولا يروي لغيره؛ وشاعر خِنْذِيذٌ وهو الذى يجيد الشعر ويروي الجيد من شعر غيره، فهو شاعر وعالم بالشعر. وقد يقال الفحل لما يشمل هذين القسمين فيكون أعم من الخنذيذ؛ وشاعر وسط وهو الذى لا يبلغ رتبة الفحول ولا ينحط شعره إلى الردىء؛ وشُعْرُورٌ أو شويعر وهو الردىء
وقد وضعنا للشعر مقياساً عاماً يتفاضل فيه الشعر باعتبار نبل أغراضه وشرف مقاصده، قبل أن يتفاضل بجماله وألفاظه ومعانيه. ولقد وازنا بهذا المقياس بين امرئ القيس وعدي بن زيد في كتابنا (زعامة الشعر الجاهلي) ، وبين أبى العتاهية وبشار وأبي نؤاس فيما كتبناه في مجلة (الرسالة) الغراء عن أبى العتاهية، فخرجنا من هذا بتفضيل عدي بن زيد على امرئ القيس، وتفضيل أبى العتاهية على بشار وأبى نؤاس، وهو أمر لا يمكن أن يخالفنا فيه أحد يوافقنا على صحة هذا المقياس الذى وضعناه للموازنة بين الشعراء؛ وإنها لميزة كبيرة له يظهر فضلها إذا نظرنا فيما روى فى ذلك عن خَلَفٍ فيما سبق
ولكن جمهرة أدبائنا لا يوافقون على هذا المقياس الجديد، وينكرونه علينا أشد الإنكار. وهم معذورون فى هذا الإنكار أشد العذر، لأن دراسة الأدب قد سارت من نشتها إلى الآن على خلاف رأينا فى هذا المقياس، حتى إن الأصمعي رحمه الله وسامحه كان يقول: إن الشعر لا يقوى إلا فى باب الشر، فإذا دخل فى الخير لان. وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الحمر والخيل والحروب والافتخار وغير ذلك
وقد ذكر قدامة بن جعفر فى كتابه (نقد الشعر) رأيا فى ذلك أخف من رأى الأصمعى، فهو يرى أن الذى يلزم الشاعر فقط أنه إذا شعر في أي معنى كان من الرفعة والضَّعَة، والرَّفَث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح والذم وغير ذلك من المعانى الحميدة أو الذميمة التي يمليها على الشاعر وجدانه، ويوحي إليه شيطانه، أن يتوخى البلوغ من التجويد فى ذلك إلى الغاية المطلوبة
وقد حملنى ذلك النفور من رأيى فى قياس الشعر بأغراضه ومقاصده قبل ألفاظه ومعانيه على تقييد كل ما أجده يؤيده فى مطالعاتى، فوصلت فى ذلك إلى طائفة صالحة من أقوال الحكماء والشعراء، ولم أقصد من مقالى هذا إلا تقييدها على صفحات مجلة (الرسالة) الغراء
قال الأحوص:
وما الشعر إلا حكمةٌ من مؤلِّفٍ لمنطق حقِّ أو لمنطق باطل
وقال فكتور هوجو: الشاعر مصلح عظيم، ونبى كريم، أرسله الله لقومه هادياً إلى مواطن الحرية والجمال والحب
وقال حسان بن ثابت:
وإن أشعر بيت أنت قائله بيت يقالُ إذا أنشدتَهُ صَدَقا
وإنما الشعر لُبُّ المرء يعرضه على البرِّية إن كيْساً وان حُمقَا
وقال معاوية بن أبى سفيان لعبد الرحمن بن الحكم: إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعرّ شريفة، والهجاء فتهجن كريماً، أو تثير لئيما. وإياك والمدح فهو كسب الأنذال، ولكن افخر بمآثر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك، وإن لم تجد من المدح بداً فكن كالملك المرادى حين مدح فجمع فى المدح بين نفسه وبين الممدوح فقال:
أحللتُ رَحْلى فى بنى ثُعَل إن الكريم للكريم مَحَلّْ (؟)
وقال النابغة الشيبانى:
وإنى حاكمٌ في الشعرُ حكماً إذا ذُكرَ القوافى والنَّشِيدُ
فخير الشعر أكرمه رجالاً وَشَرَّ الشعر ما نطق العبيد
وقال أيضاً:
من الشعراء أكفاءٌ فحولٌ وفَرَّ أُثون أن نطقوا أساءُوا
فهل شعر أن شِعْرُ غِناً وحكمٌ وشعرٌ لا نصيح به سواءُ
وقال أبو نواس:
الشعر ديوانُ العربْ أبداً وعنوانُ الأدبْ
لم أعْدُ فيه مفاخرى ومديح آبائي النُّجُبْ
ومقطَّعاتٍ رُبَّما حلَّيت منهنَّ الكتب
لا فى المديح ولا الهجا ء ولا المجونِ ولا اللعبْ
ودخل العجاج على عبد الملك بن مروان فقال له: بلغنى أنك لا تحسن الهجاء، فقال: يا أمير المؤمنين من قدر على تشييد الأبنية، أمكنه خراب الأخبية، قال: وما يمنعك من ذلك؟ قال
إن لنا عزاً يمنعنا من أن نُظلم، وحلما يمنعنا من أن نظلم. قال لكلماتك أحسن من شعرك. فما العز الذى يمنعك من أن تظلم؟ أصبحت حكيما، قال الأدب المستطرف، والطبع التالد. قال لقد قال وما يمنعنى من ذلك وأنا نجى أمير المؤمنين؟
وقال أبو العلاء المعرى:
مُلَّ المُقَامُ فكم أعاشر أمةً أمرت بغير صلاحها أمراؤها
فِرَقاً شعرتُ بأنها لا تقتنى أدباً وأن شرارها شعراؤها
وقال الفارابى: إن أكثر شعر العرب فى النهيم والكريه، وذاك أن النوع الذى يسمونه النسيب إنما هو حث على الفسوق ولذلك ينبغى أن يتجنبه الولدان، ويؤدبوا من أشعارهم بما يحث فيه على الشجاعة والكرم، فأنه ليس تحث العرب فى أشعارها على شىء من الفضائل سوى هاتين الفضيلتين، وإنما تتكلم فيهما على طريق الفخر، لأن أكثر شعرهم من شعر المطابقة الذى يصفون به الجمادات كثيراً والحيوان والنبات. وأما اليونانيون فلم يكونوا يقولون أكثر ذلك شعراً إلا وهو موجه نحو الفضيلة والكف عن الرذيلة، وما يفيد أدباً من الآداب، أو معرفة من المعارف
وقال محمود سامى البارودى:
الشعر زَيْنُ المرء ما لم يكن وسيلة للمدح والذَّامِ
قد طالما عَزَّ به معشرٌ وَرُبَّما أزْرَى بأقوام
فاجعله فيما شئت من حكمة أو عظة أو حسب نام
وَاهْتِفْ به من قبل تسريحه فالسهم منسوب إلى الرامى
ولا شك أن من ينظر فى هذه الأقوال والأشعار لهؤلاء الحكماء والشعراء يجدها تتفق تمام الاتفاق مع ذلك القياس الذى وضعناه للشعر ليصلح به أمره، ويحسن فى الناس أثره؟

