تزدحم في رواية من روايات " أناتول فرانس " وقد فرغت من قراءتها في هذا الأسبوع ، أفكار شتى في الفلسفة والاجتماع والسياسة والاقتصاد وما شاكلها ولكن هذه الأفكار لا يعرضها صاحبها على شكل جامد ، فهي تأتي متقطعة مختصرة في اثناء الرواية ؛ وقد يكون هذا الطراز من العرض في مذهب الأدب الحديث أعمل في القلوب وأسهل دخولا على الأذهان ؛ قد يكون هذا النمط من تلخيص أفكار في موضوعات رفيعة ، سواء اعرضت هذه الأفكار في قصة أم في رواية ، أشد استمالة للقارئ ، ولكن ليس هذا بموضوهي في مقالي ، وإنما موضوعي فكر من هذه الأفكار . فقد كان بطل الرواية يبسط لابنته امرا في الاجتماع ويقول لها : كل جماعة ذهب التناسب بين أعضائها وبين الوظائف التي خلقت لها هذه الأعضاء إنما مصيرها إلي الفناء ، وقد تسبق هذا الفناء اضطرابات شديدة واختلالات قوية فتنذر بموتها.
وقد سألته بنته في خلال شرحه لهذه المذاهب وأشباهها هذا السؤال : كيف نستطيع منع الظلم ، كيف نستطيع تغيير العالم ؟ فقال لها :
" بالكلام ! لا شئ أعظم سلطانا من الكلام ، فإن تسلسل البرهانات القوية والافكار الرفيعة إنما هو الإصر الذي لا سبيل إلي نقضه ؛ مثل الكلام كمثل مقلاع داود ، فإنه يحطم الأشداء ، ويرمي بالأقوياء ؛ الكلام إنما هو السلاح الذي لا يكسر ، ولولا ذلك لكان العالم عبدا للجيوش المتوحشة ، فمن الذي يجبر الأشداء والأقوياء على حرمة غيرهم ، الفكر وحده ، الفكر المجرد ، العريان ، دون أي جيش كان "
أعجبني تشبيه سلطان الكلام بمقلاع داود ، والعرب
القول في هذا الباب : رب قول انفذ من صول، وقد أخذت بعد الفراغ من هذه العبارة اتأمل قوتها ، وانظر في شدتها ، أخذت اتذكر ما استطاع الكلام في غابر الدهور وحاضرها أن يعمله ، فقد ثبت عروشا وقوض عروشا ، وحل عضلا وخلق عضلا ، وأنشأ صداقة وجر عداوة ، وأطفأ نيرانا وأجج نيرانا ، ولو شئت أن أدل على سلطان الكلام لوجدت المجال ذا سعة ، وإنما خطرت ببالي جملة من الأمور كان للكلام فيها الأثر الأبلغ ، وقد كان يجب على أن اشير في هذا المقام إلي خطب زياد أو الحجاج لأنها اشبه شيء بمقلاع داود ، وإنما تعديتها لشهرتها.
كلنا نعلم حال الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد دهش أولئك الناس ، فكأنهم لا يصدقون ان النبي يموت ، فلما قال لهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه ايها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين".
لقد قرأنا هذا الكلام ، ولكن لست ادري هل تدبرناه حق التدبر ، هل أعطيناه حقه من النظر ، هل فكرنا في العمل الذي عمله هذا الكلام ؟ لما سمعه الناس خرجوا من دهشتهم واستفاقوا من غفوتهم ، ورجعت إليهم عقولهم وتنبهت فيهم حواسهم ، وإذا بالأمر الجليل وهو وفاة نبي خلق أمة ، وجاء بدين ، واخرج قوما من عالم إلي عالم ، وادخل عليهم أفكارا لا عهد لهم بأمثالها ، وعواطف لا صلة لهم بأشباهها ، إذا بالأمر الجليل يعود امرا مثل كل أمر ، فيندفع الإسلام في تموه وإن ذهب صاحبه ، ويستفيض هذا الدين في مجامع الآفاق ؛ فلولا كلمة قالها أبو بكر في حينها لما علم إلا الله وحده عواقب دهشة المسلمين من وفاة نبيهم.
وكما كان للكلام سلطان في تثبيت امة وتثبيت دين ، فقد كان له سلطان في تثبيت دولة؛ امتنع اهل مصر في الماضي عن الخراج ، فقدم مصر عتبة بن ابي سفيان ، فقام خطيبا فقال : يا أهل مصر، قد كنتم تعتذرون لبعض المنع منكم ببعض الجور عليكم؛ فقد وليكم من يقول ويفعل، ويفعل ويقول؛ فإن رددتم ترادّكم بيده، وإن استصعبتم ترادّكم بسيفه، ثم رجا في الآخر ما أمّل في الأوّل؛ إن البيعة متتابعة، فلنا عليكم السمع والطاعة، ولكم علينا العدل؛ فأيّنا غدر فلا ذمّة له عند صاحبه، والله ما انطلقت بها ألسنتنا حتى عقدت عليها قلوبنا، ولا طلبناها منكم حتى بذلناها لكم، ناجزا بناجز، ومن حذّر كمن بشّر. فنادوه: سمعا وطاعة، فناداهم: عدلا عدلا!
فهذا كلام لم يلجأ فيه عتبة بن أبي سفيان إلي سوط أو إلي سيف ، ولولا قوة هذا الكلام لأمعن أهل مصر في منع الخراج عن الدولة ، وإذا منع الخراج فكيف يكون مصير الحكومات ، وأي حياة لدولة لا جبابة فيها للخراج ! فإذا تباعدت المسافة بين الشعب وبين الحكومة ، فكره الشعب حكومته خرج على قوانينها ومنع عنها خراجه ، ونقمت الحكومة على الشعب فصبت عليه نقمتها ، ضاعت الحكومة والشعب في وقت واحد . وقد ادرك عتبة هذا كله ، فسأل أهل مصر السمع والطاعة وسألوه العدل ، فأعطوه سمعهم وطاعتهم وأعطاهم عدله ، فعاش أهل مصر وعاشت الحكومة في خير . كل هذا بفضل كلمة كانت اشد من مقلاع داود ، ولكنها اشتملت على الحياة ولم تشتمل على الموت ، لأنها مصدر برهان قاطع وفكر رفيع ، وهذا الفكر أوحي به قلب صادق ؛ ومتى اجتمع إلي شدة الكلام رفعة الفكر وصدق القلب ، نفذ هذا الكلام أعماق القلوب ، وعمل فيها ما تعمله الجيوش!
وقد يكون الكلام سببا في تثبيت رجال الدولة كما كان
سببا في تثبيت الدولة نفسها . بلغ عبيد الله بن زياد ان سلمة بن ذؤيب الرباضي قد جمع الجموع يريد خلعه بعد موت يزيد بن معاوية ، فصعد عبيد الله المنبر فقال : يا اهل البصرة انسبوني ، فوالله ما مهاجر ابى إلا إليكم ، وما مولدي إلا فيكم ، وما انا إلا رجل منكم ، والله لقد وليكم ابى وما مقاتلتكم إلا أربعون ألفا فبلع بها ثمانين الفا ، وما ذريتكم إلا ثمانون الفا وقد بلغ بها عشرين ومائة الف! وأنتم أوسع الناس بلادا ، وأكثره جنودا ، وأبعد مقادا ، وأغني الناس عن الناس . انظروا رجلا تولونه أمركم ، يكف سفهاء كم ، ويجبي لكم فيئكم ، ويقسمه فيما بينكم ، فانما أنا رجل منكم . فأبوا غيره !
فبهذا الكلام ثبت عبيد الله بن زياد إمارته ، ولكنه دخل الأمور من أبوابها ، فقد أخذ باللين ولم يأخذ بالعنف ، لأن حاله ضعيفة بموت يزيد بن معاوية ، فلابد له في مثل هذا الموقف من الاستعطاف ، ولو كان يملك الأمر علي نحو ما يريد لكان موقفه يضطره إلي العنف ؛ ولئن استعطف أهل البصرة فلقد عرف كيف يستعطفهم ، ذكرهم بهجرة أبيه إليهم ، وبنشأته بين ظهرانيهم ، ولا شك في أن هذه الذكري تتضمن كثيرا من موجبات العطف ؛ ثم خرج من أفق العاطفة إلي أفق العقل ، فلخص لهم أعمال أبيه في البصرة مثل تكثير الجيش وتكثير الذرية وتكثير الثروة ، وهذه أمور فيها صلاح البصرة ؛ ولكن كلام عبيدالله بن زياد لم يعمل في أهل البصرة عمله إلا لأنه صورة سياسية رشيدة ، وفي اختياره لهذا الطرز من الكلام تأثير في التنبيه علي هذه السياسة والإشارة إلي محاسنها فلولا كلام عبيد الله ابن زياد ، ولولا فكره في مقام مثل هذا المقام ، لما استطاع أن يملك زمام الأمور والفتنة على الأبواب ، ولا يعلم إلا الله مصيرها!
) دمشق
