لا يماري الأدباء الخبيرون بتاريخ الآداب الأوربية في اتصال الأدب العربي بهذه الآداب وتأثيره فيها , ولكن تختلف أراؤهم في تقدير هذا التأثير .
كان لتأثير الأدب العربي في آداب أوربا أطوار ووسائل وصور شتى ، ولا يتسع المقام لتفصيل الكلام في هذا , فحسبنا هنا إجمال لمسائل يسع تفصيلها مقالات طويلة .
كان هذا التأثير في العصور الوسطي والحديثة بتسرب الآداب العربية ، شعرها ونثرها ، ولاسيما القصص ، إلى الأوربيين من المواطن العربية المجاورة : الأندلس وجنوبي إيطاليا وصقلية ثم كان برحلات الأوربيين إلي الشرق ، ثم بدرس أدبائهم من بعد الأدب العربي والآداب الشرقية كلها , وترجمة ما يختارون منها إلي لغاتــهم .
فأما في العصور الوسطى ، فقد نشأ في جنوبي
فرنسا في القرن الحادي عشر الميلادي ، ( الخامس الهجري ) ضرب من الشعر بدع في موضوعه وأوزانه ، ليس له أصل في الآداب الأوربية ، ولكنه يشبه كثيراً ضربًا من الشعر الشائع في الأندلس ، في أوزانه ويشبه في موضوعه فناً من الأدب العربي شائعاً في كل مواطن الأدب العربي وعصوره .
موضوع هذا الشعر الغزل ، الغزل السامي الذي تتجلى فيه النزعات الروحية العالية ، ويرفع مكانة المرأة إلى التقديس أو ما يقاربه ، وهذا لا يلائم مكانة المرأة عند الأوربيين في العصور الوسطى ، ولا هو موصول بالأدب اليوناني والأدب اللاتينى . إنما يتجلي هذا في الغزل العربي الذي عرفه الأدب الجاهلي في غزل النبلاء
من شعرائه . وزاد فيه الأدب الإسلامي العواطف التي فاضت بها قلوب الشعراء الغزلين ، أمثال كثير ، وجميل ، وابن أبي ربيعة ، والعباس بن الأحنف ، وابن زيدون ، والذي يمتزج فيه أحيانًا الإباء العربي والحب الخالص في شعر أمثال : الشريف الرضي ، وأبي فراس الحمداني . والأبيوردي ، والمتنبي .
ولا ريب أن الأدب العربي بلغ بهذه العواطف منتهاها ، حتى قدسها وتناولها بالبيان جماعة من المنتسبين إلي المذاهب الدينية المتشددة ، مثل : ابن داود الظاهري البغدادي في " كتاب الزهرة " , وابن حزم الأندلسي الظاهري كذلك في " كتاب طوق الحمامة "
ومن أجل هذا عمد الصوفية إلي الصور الرائعة العالية في الغزل العربي حينما أرادوا ان يصوروا نزوع الروح إلى عالمها ، وحنينها إلي الخالق تعالى ، بل فناءها فيه - وجدوا في الغزل العربي مشابه مما يشعرون ، وترجمانًا لما يدركون .
وأما أوزان هذا الشعر الذي ظهر فجأة في جنوبي فرنسا ، إقليم بروفانس ، وتغنى بـها الشعراء الطوافون
الذين عرفوا في الأدب الأوربي باسم التروبادور ، فهي مأخوذة من الموشحات الأندلسية والأزجال ، والزجل أغلب عليها . وإذا قيس ما وعاه التاريخ من أزجال ابن قزمان الأندلسي المتوفي سنة ٥٥٥ ه بأشعار التروبادور
تبين أن الثانية مأخوذة من الأولى ؛ وكان أحد شعرائهم وليم دي بواتييه (William de poitie) ينظم أحيانًا في أوزان ابن قزمان ، واحيانًا في أوزان تقاربها جداً ، بل رد بعض الباحثين كلمات من اصطلاحات هذا الشعر إلي كليان عربية .
وإذا قيل : كيف كان اتصال هؤلاء الشعراء -التروبادور - بالأدب العربي وما كانوا يعرفون العربية ؟ فالجواب أن كثيراً من مسلمي الأندلس كانوا يعرفون اللغة الجليقية ، لغة الإقليم الشمالي الغربى من أسبانيا (1)، وهي لغة مشتقة من اللاتينية ، وكانوا يتحدثون بها في بيوتهم . فاستعمل للزجل العربية العامة وهذه الجليقية . وكذلك كان مسيحيو الأندلس بعد أن استعربوا ، صلةً بين الأدب العربي والبلاد التي شمالي الأندلس .
ثم استولي الأسبان على الأندلس بعد أن انتشر فيها الأدب العربي ثمانية قرون ، فأفادوا من هذا التراث العظيم ما أفادوا ، وخالطوا قوماً أسمي منهم حضارة وآدابا .
وكما تسرب الأدب العربي إلي أوربا من الأندلس تسرب إليها من جنوبي إيطاليا ، ومن صقلية التي دامت فيها للعرب دولة وازدهرت حضارة أكثر من قرنين ونصف - صقلية بلد الشاعر العظيم ابن حمديس الأزدي
المتوفي سنة ٥٢٧ بجزيرة مبورقة ، وهو من مفاخر الأدب العربي . وديوانه احد كنوزه الباقية على الدهر . وقد استولى عليها الترمانديون والأدب فيها بالغ الدرجة التي تنشئ مثل ابن حمديس الذي فارقها في يد الأعداء وبكاها كثيراً :
ذكرت صقلية والأسي يهيج للنفس تذكارها
ومنزلة للتصابي خلت وكان بنو الظرف عمارها
فإن كنت أخرجت من جنة فإني أحدث أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكاء حسبت دموعي أنهارها
ونحن نعرف استعانة ملوك صقلية بعلماء العرب ، ونعلم أن الشريف الإدريسى صنع لأحدهم أول كرة جغرافية . ولا ريب أن الشعر العربي كان ينظم في قصور النورمانديين ملوك صقلية ، وانه كان في قصر فردريك الثاني مغنيات وراقصات نشأن في بيئة عربية .
وكذلك تسرب أدب العرب إلي جنوبي إيطاليا فكان الشعر الإيطالي القديم في أوزان الشعر الأندلسي العامي . ذلكم أثر الأدب العربي في الشعر الأوربي إبان القرون الوسطى .
وأما تأثير النثر فأوضح وأعم . فالإقبال علي الفلسفة والعلوم العربية تبعه اهتمام بالقصص الأخلاقية والأساطير وكتب الرحلات وعجائب المخلوقات ، ولم يكن للأوربيين خبرة بالأسفار إلا بمقدار ما يذهبون إلي بيت المقدس . وقد انتشرت القصص المأخوذة من العربية حتى بلغت استكتلنده واسكندناوه ، تارة بالرواية الشفوية وأخري بالترجمة المكتوبة .
ومن الأمثلة أقوال حكيمة جمعها بمصر في القرن الخامس الهجري ( الحادي عشر الميلادي ) رجل اسمه مبشر بن فاتك وترجمت إلي الأسبانية باسم قطع الذهب ، ثم ترجمت إلي لغات أخري حتي ترجمت إلي الإنكليزية باسم أمثال الفلاسفة وحكمهم ؛ وكانت أول كتاب طبع في بلاد الإنكليز .
وكتاب كليلة ودمنه ترجم عن العربية إلي اللاتينية في القرن الذي نقله فيه ابن المقفع إلي العربية ، ترجمها يهودي تنصر ، ثم ترجم من العربية إلي الأسبانية في القرن
السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) . ثم نقل من الترجمة اللاتينية إلي لغات أوربا .
والمقامات العربية حاكاها بعض اليهود الأسبانيين . وقصص دنتي الشاعر الإيطالي التي تسمي Divina Comedia أي الكومديا الإلهية ، وقصص قبلها تشبهها ، مستمدة من القصص التي شاعت عن الإسراء والمعراج في العالم الإسلامي . ونحن نعلم أن استاذا أسبانيا اسمه أسبن
بلاسيوس كتب منذ سنين كتابًا اسمه " الإسلام والكومديا الإلهية " قرن فيه بين نصوص من قصة دنتي وروايات إسلامية ، فظهر تشابه عجيب يدل علي أثر الروايات الاسلامية في هذه القصة ، فأثارت العصبية الإيطالية جدالا عنيفاً في هذا الموضوع لم يوهن الججح الواضحة التي أتي بها الأستاذ الأسباني .
ومن قبل دنتي كتب المعري رسالة الغفران . وبينها وبين قصة دنتي تشابه . وكتب ابن شهيد قصة التوابع والزوابع وهي تخالف القصتين في مكان القصص وتشبههما في الخيال بعض الشبه .
في العصور الحديثة
وأما العصور الحديثة التي ابتدأت بالعصر الذي يسميه الأوربيون عصر الانبعاث أو النهوض ، فقد أحببت الآداب اليونانية واللاتينية وأولعت بها أول الأمر فقطعت مدد الآداب الشرقية ، ثم اشتدت فيها الحركة الطبيعية ( رومانتيك ) فصدف الناس عن الآداب القديمة آداب اليونان واللاتين . فاتجهوا إلي الشرق ينقلون قصصه
وأسماره ورحلاته ويقتبسون منها ؛ فترجم كتاب ألف ليلة أول القرن الثامن عشر م ( ١٧٠٤ ) ، ونشر منذ ذلك الحين أكثر من ثلاثمائة مرة . وقد أغرم الأوربيون بالأقتباس من قصص الشرق حتي أنفدوا ما عرفوا منها ، فاخترع بعضهم قصصاً زاعماً أنـها تراجم قصص شرقية . وكذلك ترجم كتاب حي بن يقظان إلي اللاتينية في القرن السابع
عشر ، ثم إلي الإنكليزية في أوائل القرن الثامن عشر . ويظن بعض الباحثين انه أصل لقصة روبتسن كروزو .
وكان هذا الشرق الذي تصفه قصصهم ، موطناً للعجائب والغرائب ومجالا لطيران الخيال إلي غير نهاية . وكان للقصص الشرقية أثرها في التمهيد للمذهب الطبيعي ( رومانتيك ) الذي ظهر في اواخر القرن ١٨ واوائل القرن ١٩ ثم ظهر النقاد الكبار يحاولون أن يبطلوا هذه الخيالات ويعرفوا بالشرق في صوره الحقة أو ما يقاربها .
ثم عرف القوم الشرق بالدرس والاطلاع على آدابه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . بدأ هذه المعرفة وليم جونسن الإنكليزي ثم تولي الأمر أدباء الألمان وشعراؤهم ، فكان للأدب العربي والأدب الشرقي كله
مكانة من العناية والدرس ، ونظم جوته ديوان الشرق ، وهو الديوان الذي قابلة الشاعر الهندي العظيم محمد إقبال رحمه الله بديوانه " بيام مشرق " أي رسالة المشرق .
ونظم فكتور هوجو قصائده الشرقيات في الفرنسية وكذلك فعل بيرون الشاعر الإنكليزي .
هذه خلاصة ما فعل الأدب العربي بالآداب الأوربية في العصور الوسطي والحديثة . ولا يزال تاريخ الأدب يكشف جوانب تزيدنا معرفة بالصفحات المجهولة من الصلات بين أدبنا وآداب أوربا.
هذا الأدب العربي الذي تمتد مواطنه من المشرق إلي المغرب ، والذي توالي عليه الشعراء والكتاب خمسة عشر قرنًا ، والذي اتصل بآداب العالم الكبرى فأعطي وأخذ ، وأثر وتأثر وما موضوعاته ، وما طرائفه ، وما قيمته ،
وما مزاياه وعيوبه بالقياس إلي الآداب الاخري وما وجهته في العصر الحاضر وكيف ينبغي أن يوجه ؟
أرجو أن تكون إجابة هذه الأسئلة موضوع المقال الآتي إن شاء الله تعالى .
( للكلام صلة )

