مضي قولنا في الأدب العربي : مواطنه وعصوره وصلاته بالآداب الأخرى في المشرق والمغرب ، وما أخذ منها وما اعطي ؛ بينا كيف انتشر هذا الأدب ما بين الهند وبحر الظلمات وخوارزم وأواسط افريقية ، وكيف
نشأت في زعايته الآداب الإسلامية ، وكيف استفاد من الآداب الشرقية القديمة ، وكيف أثر في الآداب السامية ، ثم كيف اتصل بفلسفة اليونان ومعارفهم ولم يقتبس من أدبهم ، وكذلك بينا ما أثر به في الآداب الأوربية في العصور الوسطي والعصور الحديثه
وفي هذا المقال وما يليه نقول في الأدب العربي موضوعاته واقسامه ومزاياه ونقائصه ، بالقياس إلي اداب الأمم الآخرى ، وبين كيف وفي بمطالب الامم في العصر القديم وأين يتجه اليوم وكيف ينبغى أن يوجه .
-1-
أدب أمة من الأمم بيانها عن عواطفها ، وسرورها وحزنها ، ورضاها وسخطها ، وإعجابها واستهجلتها ، وأمالها وأمانيها . وحده الأوفي أن يكون في معناه ولفظه فوق ما يبتذله الخطاب العتاد ، ثم يرتقي درجات في الإبانه والتصوير إلي حد الإعجاز .
وكل ما يدركه البشر صالح أن يكون موضوع أدب إذا اتصلت العواطف ، فصبغته أو زينته ، أو عظمته او عقرته ، او عمل فيه الخيال فاخترعه او صوره غير ما صورته الحقيقة
ولا بد للأدب من إدراك بليع ، وإحساس مرهف ، ولاية قوية وكلما اتسعت معارف الاديب ، اتسع أمامه مجال البيان ، وازدادت قدرته على الإبانة والتصوير ، وتعددت أمامه سبل القول .
فمن أوتي طبعا دراكا مبينا وضافت معارفه فهو ضيق المجال ، لا يرتقي عن العامة وأشبهاه العامة إلا قليلا . ومن أوتي معرفة ولم يرزق الطبع المبين المصور فهو عالم ليس له في الأدب مجال .
-2-
وقد كان العرب قبل الإسلام ، ذوي طباع دراكة وإحساسات مرهفة ، وذوي بيان ولسن ، فصوروا أبلغ تصور ما نالته عيونهم ، وأدركته عقولهم ، وأحسته قلوبهم من مرائي السماء والأرض والنبات والماء والحيوان ومن أخلاق الإنسان وعواطفه وغير الزمان . وكان شعرهم مرآة مصقولة تبين من معارفهم وعواطفهم ابلغ إبانه .
ثم كان الإسلام ، وحدث للعرب ما حدث من نظام ودولة وانتشار في الأرض واتسال بالأمم ، فاتسع لها مجال البيان ، وامتد بهم التفكير والاختراع والترتيب . ولكنهم قد ورثوا أشعارا رائعة ساحرة ذات سنن راسخة فلم تستطع الحضارة والتطور أن يقطعهم عما ورثوا ، ولا أن
بصرفهم عما أعجبوا به منذ القديم ، فتصرفوا بين المحاكاة والاختراع ، والتلفت إلي الماضي والأخذ بالحاضر ؟ فكان من تراثهم وكسبهم وتاريخهم ومعايشهم هذا الأدب الكثير الرائع
-3-
وإن من أصعب الأشياء أن يحد الإنسان فنون الأدب ويحصبها إحصاء كمسائل العلوم ، فإن موضوعات الأدب غير محدودة وغير متقاطعة . فربما يتناول الشاعر أو الكاتب أضربا من البيان مختلفة ، بعضها نفسى وبعضها طبيعى ، فيها الإبانة عما في سريرته او وصف ما يراه ،
وفيها المدح والذم والغزل وهلم جرا ، ومن أجل هذا عسر أو تعذر أن يقسم الأدب إلي فنون تحيط بموضوعاته وصوره ؛ ولكن اجتهد الأدباء في المقاربة على قدر الطاقة .
قسم أبو تمام مختاراته التي جمعها في ديوان الحماسة أقساما عشرة :
الحماسة ، والمرائي ، والأدب ، والنسيب ، والهجاء ، والأضياف والمديح ، والصفات ، والسير والنعاس ، والملح ، ومذمة النساء
وهو تقسيم لم ينل حظا من التحقيق ، ولا سيما في الأبواب الأخيرة ، فان السير والنعماس ومذمة النساء يدخلان في الوصف والهجاء وباب الاضياف والمديح فيه موضوعان يمكن الفصل بينهما ، وإدخال الكلام علي الأضياف في باب آخر أوسع كالفخر والمدح أو الأدب .
وقسم الناس من بعد الشعر إلي أبواب منها :
المدح ، والهجاء ، والفخر ، والرثاء ، والغزل ، والأدب ، والزهد ، والشكوي ، والعتاب والاعتذار الخ . وكل هذا ليس تقسيما حاضرا قائما على نظر عقلي جامع ، ولكنه تعداد صوري للموضوعات التي يكثر فيها النظم .
ولست أبغي هنا أن اقسم الشعر تقسيما منطقيا يرد صورة المختلفة الكثيرة إلي موضوعات قليلة ، فهذا يشد بنا عن موضوعنا أو يطيل الكلام إطالة لا تلائم الإجمال الذي تتوخاه مقالات عامة جامعة . ثم موضوعات الشعر متسعة متعددة اتساع الحياة وتعدد غيرها ، فما عناؤنا في ردها إلي أقسام معدودة مبينة
-4-
تقسم الأوربيين للشعر
يروي عن ارسطو انه قسم الشعر كله إلي مدح وهجاء وهذا تقسيم يغلب عليه النظر الفلسفي العميق ، ولا يجدي علي الباحثين في الشعر وأكثر من هذا ذيوعا في تاريخ الآداب الأوربية أنهم يقسمون الشعر اليوناني والشعر الأوربي كله تبعا إلي ثلاثة أقسام : الشعر الغنائي ، وهو المبين عن وجدان الإنسان وعواطفه وآلامه وأماله ؛ والشعر القصصى ، وهو الذي يقص فيه الشاعر وقائع حماسية يبين فيها عن نفسه وعواطفه ، كما فعل هو سير في الإلياذة ، وفرجيل الروماني في الانبادة ، والقسم الثالث
الشعر التمثيلي ، وهو الذي ينشئه الشاعر حوارا بين متحاورين يحكيهم للناس ممثلون ينتحلون اشخاصهم وأقوالهم وامثالهم .
وقد سري هذا التقسيم إلي الشعر الأوربي لشدة اتصاله بالشعر اليوناني ومحاكاته إياه .
وقد نظر الباحثون من أدباء الغرب والشرق إلي الشعر العربي يلتمسون فيه هذه الأقسام ، فلم يجدوا ملحمة كالإلياذة ، ولا شعرا للتمثيل كشعر أرستوفان وأمثاله ، فقالوا : إن الشعر العربي غنائي كله ليس فيه قصص ولا تمثيل ،
وعابوه بهذا واشتدوا في العيب ، ولسنا في مقام الدفع عن شعرنا ولا نحن نرتضى لانفسنا العصبية في تعرق الحق والاعتراف به . بل نعترف بأن ما في شعرنا من قصص قصير لا يقاس بما اثر عن اليونان والرومان والهند القدماء والفرس . وقدحاكى الفرس العرب في أشعارهم ولكنهم
نبذوهم في المنظومات الطولة القصصية والخيالية ، كالشاهنامة ومنظومات نظامى وجامي ، وان قصة مجنون ليلي وهي عربية خالصة نظمها شعراء الفرس أكثر من مرة فأطالوا وأسهبوا ولم ينظمها شاعر عربي
وقد نظم ابن عبد ربه غزوات عبد الرحمن الناصر الأموي في نحو أربعمائة وخمسين بيتا ، ونظم غيره وقائع تاريخية طويلة كصاحب المنظومة المسماة نظم الجمان ، التي تناول ناظمها تاريخ البشر من لدن آدم وعطف علي تاريخ الفرس والروم ، وانتهي إلي تاريخ الخلفاء المسلمين إلي آخر
القرن التاسع الهجري . ولكن هذه المنظومات تعنى بسرد الحوادث لا شرحها ، والإبانة عن مواضع العظمة والعبرة فيها ، ولا تصور الوقائع تصويرا تاما . فإذا ذكرت واقعة من واقعات الحرب مثلا اكتفت بأن المحاربين ذهبوا إلي
مكان كذا وحاصروه وواقعوا العدو فهزموهم ، فأكبر الواقعات لا ينال إلا أبياتا قليلة . وهذا خلاف ما عرفنا في الآداب الآخر من نظم الواقعات .
وابن عبد ربه في منظوماته أقرب ما عرفت من شعرائنا إلي ما يعهد في اللغات الاخري من القصص الحماسية ؛ ومن هذا قوله في غزوات سنة ثمان وثلثمائة ) ج ٣ - العقد ص ٢٤،٢٢٣ ( :
ثم غزا الإمام دار الحرب
فكان خطب ياله من خطب
تحاشدت إليه أعلام الكور
له في الناس ذكر وخطر
إلي أن يقول :
لما النقوا بمجمع الجوزين واجتمعت علائم العلجين
الشعر العربي لا يجاري الآداب الآخرى في القصص ، ذلكم لا جدال فيه ، ولكني لا آسي لخلو شعرنا من هذا الفن ومن الفن التمثيلى ، فإنى اري ان ليس طبيعيا ان ينظم القصص من أوله إلي آخره ؛ وأري هذا التقييد يؤدي في مواضع كثيرة إلي نظم لا شعر فيه ، ولا يكسب الكلام
من هذه القيود إلا نغمة مكررة رئيبة تمل السامع والمنشد ، وتصيبهما بما يشبه الدوار وأري أن الأقرب إلي الطبيعة أن نقص الوقائع في كلام منثوريبتخلله الشعر في المقامات التي تهيج عواطف القاص ، والمواقف التي تثير الإعجاب وتستحق الإنشاد
مهما يختلف الأدباء في قيمة هذا الضرب من الشعر . ومهما يخلو المقلدون في تقديره ، فلست اراه نقصا ذا بال في شعرنا ؛ بل أوثر القصص المنشور تتخلله الأشقار .
والحق أن شعراءنا عنوا بالقيمة لا بالكثرة فأتوا بالأبيات الرائعة القليلة في وصف الوقائع الكبيرة ، على حين اطال غيرهم واظهروا براعتهم في التفصيل والإطناب ، واستغنوا بهما عن الإبداع .
ربما نجد في قصيدة لأبي تمام أو المتنبي من أبيات الخماسية البليغة ، والقصص القصيرة الرائعة ما لا نجده في
ألف بيت متوالية في منظومة طويلة كالشاهنامة . وربما كان في شعر المتني وحده من الأبيات الحماسة القوية ما ليس في منظومة فيها عشرون ألف بيت.
وقد قال المستشرق براون وهو مؤلف أكبر كتاب في تاريخ الأدب الفارسي : إن الشاهنامة لا تقاس ساعة بعيون الشعر العربي الجاهلي . فما ظنكم بما ابدع شعراء العرب في هذا الضرب بعد الجاهلية .
إن كان الشعر العربي لم يعن بالقصص والتمثيل فما قصر في الإعراب عن عواطف الإنسان وتصوير ادق خطرات النفس ، واخفي هواجها ولم يقصر في وصف ما أحاط بالإنسان من مظاهر الطبيعة وحوادث الزمان .
وهذا الغزل العربي قد بلغ في تصوير العواطف الإنسانية الغاية ، وقد اشرت من قبل إلي ان العرب بلغوا بهذا الفن حد التقديس ، فكتب فيه أحد الكبار من علماء الدين ، ووجد فيه الصوفيه تصويرا لاسي مدركهم .
ولست أعني هذا الغزل المسف الماجن الذي أولع به جماعة قصروا في الشعر فعمدوا إلي إنارة إحساس الإنسان من السبل التي لا تكلفهم سموا في الشعور ، ولا مقدرة في التصوير ، ولكنى اقصد الغزل النفسي العالي الذي يسمو بالنفس إلي أسمى نزعاتها حتى يكاد يخلعها من المادة والشعر العربي غني كل الغني بهذا الفن
وقد استوفي الشعر العربي ملاهي الإنسان كلها جليلها وحقيرها ، وحلالها وحرامها ، حتى انتج العرب المسلمون في وصف الخمر وآثارها وآلامها ومجالسها ما لم تنتجه امة من الأمم التي تستحل الخمر . لا أقول هذا إعجابا بالخمريات فليست مني ولست منها ؛ ولكنها دليل على تناول الشعر العربي كل النزعات الإنسانية وافتنانة في وصفها
وما قصر شعراؤنا في وصف الطبيعة سمائها وارضها وبحارها وأنهارها ، وأشجارها وأزهارها ، ونباتها وحيوانها ، وما قصروا في وصف الصناعات والأبنية .
ولهم ضرب من الشعر لا أعرف أن شعراء أمة جاروهم فيه - ضرب يجمع بين وصف الطبيعة والحيوان والإنسان في صور شتي متنقلة ، وهو الفن الذي يسمي الطرديات أى وصف الصيد ، وهو ضرب من الرياضة واللهو والفروسية أولع به العرب منذ عصر الجاهلية ، وافتن فيه الشعراء منذ أبي نواس وابن المعتز والمتنبي إلي شعراء العصور المتأخرة . وذلكم فن يبرز فيه الأدب العربي .
والشعر العربي يسمو إلي ذروة الآداب في الأخلاق ولا سيما الأخلاق القوية ، ولعل هذه أروع صحائفه . فقد تغني شعراء الحاهلية بالحرية والإباء والشجاعة والسخاء والوفاء ومواساة الفقير ، والحدب على الضعيف حتى قال عروة الصعاليك
أتهزا مني أن سمعت وأن ترى
بجسمي شعوب الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد
وقال :
دعيني أطوف في البلاد لعلني
أصب عني فيه لذي الحق محمل
أليس عظيما أن تلم ملمة
وليس علينا في الحقوق معول
فإن نحن لم نملك دفاعا يحادث
تلم به الأيام فالموت أجمل
وقد ذخر الشعر العربي بهذه المروءة العربية وتلك الفتوة على مر الزمان . وقل أن يباشر أحد خطبا جسيمات فمن حرب أو نازلة بالنفس أو المال أو حادثة تمنحن بهما الأخلاق ، إلا وجد مددا من الشعر يثبته ويحفزه إلي العالي ، ويدعوه إلي مكارم الأخلاق . وإن في ديوان الحماسة وحده ، وهو مختارات قليلة مما انشأ العرب في قرنين ، لوفاء بهذه الدعوي ، وتصديقا لهذا الزعم .
ولا ريب أن في ذخائر الشعر العربي الأخلاقي ما بقي بتأديب امة وتنشئتها على خير الأخلاق ، واحسن السير . ولست أعرف ولا أحسب أن لآمة من الأمم مثل هذا الشعر القوي العزيز الكريم السامي .
( للكلام صله)

