إن للمرأة العربية المكية في تاريخ الدعوة الإسلامية مواقف ، إن يكن المؤرخون قد صوروها في رفق وعجلة فإن روعتها كانت تغني عن الإفاضة والإطالة . فما ان زفت تباشير الوحي من ملك السماء إلي الأرض حتى قامت المكية إلي العمل على تدعيمها ونشرها وتغديتها بكل ما عرف فيها من إيمان قوي وتضحية صامدة . وكانت تلك السنوات الثلاث عشرة التي قضاها النبي الكريم يدعو الناس إلي الإيمان في مكة زاخرة بالحياة مفعمة بالأحداث ، فيها تأسس الإيمان وتوطد في قلوب المسلمين ؛ وفي ضوء حوادثها وآياتها تعرف المسلمون قدر حياتهم ومراتب إخوانهم في الدين
في تلك الصفحة من تاريخ الإسلام التي اختتمت بالهجرة مجموعة رائعة من صور المسلمة ، يلذ للقارئ ان يقلب النظر فيها كما يقلبه في صفحات كتاب جمع صورا من روائع الفن . فما من خطوة هامة خطاها الإسلام في مكة إلا كان للمسلمة فيها وقفة جميلة أو حركة رائعة
وهذا هو النبي ) ص ( ما يكاد يسمع صوت الملك يردد الوحي حتى تريع من عظمة ما احس وجلاله . تري اين يجد لهذه الأعصاب المرتجفة الواجفة هدأة وسكنا ؟ اين هذا الفيض من العطف والحنان الذي يمكن ان يفرق فيه هذه الرجفة العنيفة من الاضطراب والخوف ؟ . لن يكون هذا إلا عند خديجة ، تلك التي كانت له السكن والرحمة . وهنا تطالعنا أول صورة من تلك المجموعة للمكيات في الدعوة .
إذ يدخل الرسول ) ص ( بيته فيجد القلب الواجف الحنون في انتظاره . إنه كان قد ارسل رسله إليه ليطمئن عليه فلم يأته الرسل إلا بما يزيد القلق والخوف ، ولكن طلعة محمد ) ص ( تهديء من سورة هذا القلب الذي يفيض حبا وعطفا . ويقص الرسول ) ص ( على زوجه ما رأي ، وكان اقصي
ما يريد منها ان تهديء من روعه وتطمئن من قلبه . ولكن ماذا يسمع منها ؟ إنه الراحة والأمن والسكن ولا شك ؟ ولكن فوق هذا ، هو الصمود والثبات والبشري ، ابشر يابن عم واثبت ! فو الذي نفس خديجة بيده إنى لارجو ان تكون نبى هذه الأمة . ولا تكتفي خديجة بالحس والقول ، ولكنها تذهب إلي ابن عمها ورقة بن نوقل تقص الخبر ، وتستطلع بروق الأمل بتحقيق هذا الذي احسته ، فإذا التأييد وإذا ثبوت البشري ، وإذا محمد ) ص ( يفرق قلقه في راحة ملؤها التفاؤل والاستبشار والتطلع إلي نور السماء ؛ لقد ايقن الآن ان ما مسه منه لم يكن إلا شعاعا سيتبعه فيض من اللألاء والسناء يعشي البصر له خشوعا
وآمنت خديجة بالوحي فكانت أول من اسلم . وآمن برسالة النبي الكريم من أسلم ، وانكر الدعوة من انكر واشتدت الحرب بين مسلمي مكة وسادتها من قريش ؛ هؤلاء يستخفون أو يعتزلون الناس ضنا بإيمانهم ؛ وهؤلاء ، يعذبون ويبطشون ويحتالون ليطفئوا من نور هذه الدعوة ما استطاعوا . وكذب الرسول ) ص ( وحورب واحتمل سفاهة الناس وتطاولهم عليه ، ولكن الطود الصامد كان من ورائه يشد أزره ، ويفرج الله به همه ، ويهون عليه امر الناس ورأي سادة مكة في الإماء والعبيد ميدانا للبطش والانتقام من دعوة لو قدر لها النجاح لطاحت بسلطانهم ومحته محوا . وكان التعذيب الذي لا يخشى حسابا ولا يمكن ان يقف في سبيله وازع من دين او خلق ، وكان لابد من الصمود بهذا الإيمان صمودا تزهق في سبيله الأرواح فيطهر بها جوهره . وقاد السادة العبيد المستضعفين إلى رمضاء مكة يعذبونهم بالنار والحديد . وهنا تطالعنا صورة مكية اخري
فلقد قاد السادة فيمن قادوا اسرة عمار بن ياسر ، وثقل العذاب عليهم واحتموا بظاهر من الكفر ليتجنبوا مالا يطيقون ؛ ولكن ام عمار تصمد وتصمد حتى لا يقوي
جسدها على احتمال ما وصلت إليه روحها من جلال ، فتموت وقد افتتحت قائمة الشهداء في سبيل الإيمان الجديد ، كما فتحت خديجة قائمة المؤمنين من قبل
ويستمر الرسول الكريم في نشر دعوته ، ولكن الحال تعنف بينه وبين السادة من قريش ، ولم يكن بد لنجاح الدعوة واستمرارها من ان تضم إليها شخصيات قوية يستمد الإسلام من نفوذهم وسيادتهم نصيرا وعضدا ومن هؤلاء الذين طمع فيهم المسلمون حمزة عم النبي وإذا صورة اخري ترسم لنا من صور المكية صورة مولاة من موالي عبد الله بن جدعان وهي تطل من نافذة على الرسول ) ص )
وقد جلس يستريح فتري إيذاء إبى جهل له . وتتربص لحمزة وهو راجع من قنصه قد ملىء زهوا ونشاطا وحياة ،
فتصور له ما لحق ابن اخيه من هوان وتضرب على الوتر الحساس في الفارس الشهم المعتز بقوته وشبابه وفتوته ، فيثور لقولها ولتصويرها ، وإذا هو في ثورة المنعة والشرف والكرامة يتحمس لابن أخيه ، حتى يسلم ويدخل على أولئك المجتمعين في الكعبة ينتقم من ابى جهل ، ويعلن إيمانه بالإسلام متحديا ) فتكون هذه الخطوة من أعز خطي الإسلام في فجره وأقواها
ويتأمل محمد ) ص ( هذا الأثر الذي يحدثه إسلام امثال حمزة في الدعوة ونشرها ، ويتطلع إلي السادة ذوي العصبية والمكانة فيرفع بصره إلي السماء : " اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب او بالحكم بن هشام وإذا صورة اخرى تجذب إليها الانظار ؛ هذه اخت عمر بن الخطاب فاطمة قد أسلمت هي وزوجها واخفت إسلامها واسرته ، فإذا اجتمع لديها نفر من المسلمين قرأوا القرآن في خفوت وهدوء وحذر وهذا عمر يثور علي المسلمين فيعير بان اخته قد اسلمت ، فيدخل عليها مغيظا محنقا ، وقد سمع همهمة القارئ لأيات القرآن في بيتها ، فيسأل عما سمع ، فلا يجاب ،
ويثور حتى يضرب أخته ويشجها ، فتقول : له " نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك ! " وإذا التحدي الصادر من امرأة تتألم قد سال دمها يلين من قلب عمر ما لم يلينه شئ في سبيل الإسلام . ويطلب ان يري الصحيفة التى كانوا ينصتون إلى مابها ، ولكن أخته تأبي عليه ذلك ،
إنها تخاف عليها من بطشه . ويبهت عمر ، أبلغ إعزاز هؤلاء القوم لدينهم الحد الذي يخافون فيه على صحيفة كتبت فيها آياته ؟ ! ابلغ بهم هذا الإعزاز حدا يتحدون فيه امره وهو المغيظ المحنق ؟ ! ويحلف بإلهته انه سيردها إليهم من غير سوء ، فتطلب إليه فاطمة ان يتطهر قبل ان يلمسها فإنه نجس مشرك . ويبلغ به العجب مبلغه ، ولكنه يقبل ما تريد ،
وهكذا خطوة خطوة وصلت به أخته إلي حال إعداد وشغف ؛ وإذا سورة طه تطلع عليه بسناها ونورها ، فيبهر من هذا النور والسناء ، فيقول : ما احسن هذا الكلام وأ كرمه ويطلع خباب من حيث استخفي قبل مقدم عمر ، ويكمل آخر خطوة من هذا العمل العظيم الذي قامت به فاطمة وأهينت وسال دمها في سبيله . إن الرسول ) ص ( يدعو الله أن يعز الإسلام بك يا عمر . ويعلن عمر إسلامه فتكسب الدعوة دعامة من اقوي دعائمها إن لم تكن اقواها ، ويخدم الإسلام عمر صحابيا وخليفة كما لم يخدمه أحد .
وتتوالي صور من الجهاد في مكة تختلف شدة وقسوة ، ولكن العذاب يصل إلي اشده ، والدعوة تنذر بنضج الثمار وجاء اوان خطوة حاسمة تحزم الأمر وتوجه الدعوة وجهة جديدة لقد انتهى دور الدعوة الكلامية ولابد من الجهاد والعمل في سبيل الإسلام
ويأذن الله لنبيه في الهجرة فتكون العقبة الوحيدة في سبيل نجاح هذا العمل وإتمامه هي معرفة قريش بالأمر ، ومحاولتها منع النبي الكريم من مغادرة مكة . وتفكر قريش في قتل الرسول ) ص ( قبل ان يخرج على العالمين
بدعوته فيعظم امره ويشتد أزره بمن يمكن ان يقوضوا سلطان قريش في لمح البصر . وتدبر المؤامرة ، ولكن الله يريد بإمرأة ان تبرز إلى الميدان في هذه الخطوة لتعرض علينا صورة جديدة ؟ وهذه رفيقة بنت صيفى لا يثنيها مارأت من تعذيب المسلمين فتفضح المؤامرة ، وتبوء تدابير قريش بالفشل
إذ يحتاط الرسول ) ص ( لما اخفوه عنه ؟ وينام على مكان الرسول ) ص ( في تلك الليلة الخطيرة فيفسد كل شئ على المشركين ، وينجو الإسلام من شر أريد برسوله .
ولكن الهجرة يجب أن تتم ولا بد من الاستخفاء وإعداد للسفر وتكتم في الأمر . وتنادي الدعوة مرة اخري على امرأة ، وإذا صورة اخرى تلوح لنا رائعة قوية . هذه صورة اسماء بنت ابى بكر تخفي الرسول ) ص ( وصاحبه وتستطلع لهما الأخبار حتى تطمئن على جهل قريش بمكانهما ،
وتعد الزاد والرواحل والدليل ، وتقف واجفة على سفح الجبل تودع الراحلين الكريمين ، ثم تعود لتطمئن على نجاح الخطة ،
وتنتظر بقلب قلق ونفس مضطربة انباء المسافرين ، وتطمئن الشيخ الضرير من قلقه ، وتحاول جهدها الا يظهر احد من كان على الأمر حتى تأتيها الأنباء بأنهما توغلا في الطريق بل بأنهما قد وصلا المدينة واستقبلا أخلص استقبال وأعزه .
وما يتم حادث الهجرة ويكمل حتي ترانا قد أتينا على آخر تلك المجموعة الرائعة من صور المكية في الدعوة ، ونترك المجموعة وقد اختلجت في النفس عواطف وإحساسات ،
واضطربت في الخيال صور وأحداث في اختلاطها جميعا ؛ بل في عنف هذا الاختلاط راحة للنفس ، ولذة للروح لا يملك أن يثيرها فينا إلا جمال الفن وروعته

