(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ثلاثة من سلاطين مصر العظام يبدو عملهم خالداً أمام الزمن في هذه البقعة من الأرض: الملك الظاهر بيبرس صاحب الفتوحات الكبرى، ثم المنصور قلاوون الذي حاصر مدينة طرابلس ستة وعشرين يوماً ثم فتحها بالسيف، وأخيراً الأشرف خليل بن قلاوون صاحب الفتح الأشرفي من الممالك الساحلية والجبلية وهو الذي بقي لمدة قُرون والناس يُؤرِّخون في لبنان الحوادث على ذكره وتأتي هذه الحملات في عهد الناصر محمد تكملة لتلك الفتوحات.
ولكن الباحث في تاريخها يسير دائماً في المراجع التي بين أيدينا وهو يتلمس الأسماء والمواقع وسط الصعاب التي يُقيمها المعاصرون والمؤرخون والنساخ. فهناك طائفة من أسماء البلاد والمقاطعات تغيرت مواضعها مع الزَّمن أو تعدًّلت حدودها، ومع اعتمادي على الخرائط التفصيلية التي وضعتها القيادة الفرنسية مدة عهد الانتداب، ومع أنني زُرت أغلب المناطق لعدة مرَّات أراني أحياناً وسط بحر واسع الأطراف في المسائل التي تحتاج إلى تحقيق، أراني أخوض فأوفق في بعض الشيء ولا أوفق في البعض الآخر فأتركه ليتمكن غيري من تحقيقه.
ويحصل الخطأ في النقل من النسخ التي بين أيدينا، أو في عدم اعتناء المؤرخين عند كلامهم على الحوادث فيطلقون أسماء عامة مثل جبال الجرد والكسروان من غير تحديد.
فقد جاء ذكر بعض الحملات في الجزء الشمالي الجبلي الواقع بين الممالك الساحلية والممالك البعلبكية: والمعروف أن كسروان هو
الإقليم الجبلي الذي تقع فيه مدينة (بسكنتا) وهي التي كانت تسمى قديماً بأسم (العاصية) لصعوبة مسالكها والمرور إليها من وادي الجماجم. ومع أنها قسمان في التقسيم القديم داخلة وخارجة. فالداخلة حدها من نهر الكلب إلى نهر إبراهيم، والخارجة حدها القديم من نهر الكلب إلى الحد الفاصل بينها وبين مقاطعة المتن: وتمتد الحدود من البحر إلى الجبال: ومع علمنا بهذا التحديد يطلق المؤرخون اسم كسروان تساهلاً منهم على بقاع تقع في الجزء الشمالي من هذه البقعة بالذات: ويتكرر هذا في معظم من كتب بعد حوادث الفتوحات التي تمت في عصر الملوك الثلاثة.
ولكن المدقق يجد أن الحوادث التي كانت مدينتا (أهدن) (وبشرى) مسرحاً لها تقع في مقاطعة كانت تسمى باسم (جبة بشرى) في هذا العهد ثم أصبحت (جبة الحدث) في عهد قايتباي: ومن هذه الناحية بالذات مقاطعة كانت تسمى الضنية وهي ترد في كتب المؤرخين باسم جبال الظنيين: ولقد اعتمدت في تحقيق هذا الاسم على مصدرين:
الأول: هو ما ورد في وثيقة الهدنة التي عقدها الملك المنصور قلاوون صاحب مصر مع جماعة الاسبتار وبيت طرابلس (٦٨١هـ ١٢٨٠م) .
الثاني: ما جاء في كتاب الشيخ طنوس بن يُوسف الشدياق
جاء في عقد الهدنة ذكر بلاد السلطان الملك المنصور: (ما هو مجاور لطرابلس ومحادد لها من المملكة البعلبكية جميعها وجبالها وقُراها الرحلية والجبلية وجبال الضنيين)
وجاء في المرجع الثاني: (لما قدمت الفرنج من إنطاكية سنة ١٠٩٩، وفد إليهم أناس من المردة من جبل سير وصقع الضنية) . فجبال الضنيين هي إقليم أو صقع الضنية الذي أشرنا إليه والواقع في الجزء الشمالي من إقليم جبة بشرى وهذا الإقليم ينحدر من أرز لبنان إلى سير ثم إلى طرابلس.
ومن هذا نعلم أن ذكر (أهدن) و (بشرى) في إحدى الحملات لا يجعل لكسروان شأناً وبينها وهذه البلاد مناطق: أو قطاعات كانت تسمى باسم بلاد واقعة على الساحل أو في الجبال كما يتضح
ذلك من وثيقة الهدنة نفسها.
فقد جاء فيها عند الكلام على بلاد الفرنجة أي الأبرنس صاحب طرابلس ما يأتي:
طرابلس وما هو داخل بها ومحسوب عليها. أنفة وبلادها. جبيل وبلادها. صنم جبيل وبلادها (وأرجح أم جبيل) .
البترون وبلادها (وكلها على الساحل) وضع هذا النص عند قصد - ثم عرقاً وعدتها ٥١ ناحية.
وما هو للفارس روجار دي لالاولاي من قبلي طرابلس. أقول إننا إذن في حاجة ماسة إلى جمع نصوص الوثائق المملوكية من عقود الهدنة والصلح الموزعة في الكتب وتحقيق كلماتها حتى تراجع مراجعة صحيحة لكي نستفيد من محتوياتها: هذا علاوة على المراسيم الخاصة بولاية العهد أو الصادرة بتوليه الأمراء أو بالإقطاعات: ومن بعض هذه الوثائق يتضح مدى اتساع الإمبراطورية الإسلامية لمصر في أزهى عصورها بلا استثناء وقد جاء في نهاية عقد هدنة المنصور قلاوون (وما سيفتحه الله على يده ويد ولده وعساكرهما وجنودهما من الممالك والحصون) . وقد تمت الفتوحات جميعاً حتى ذكر ابن الفرات (ولم يتأخر بالبلاد الشامية غير فلاحيها وهم داخلون في الذمة) .
وأرجح أن الجزء الجنوبي من لبنان حيث كان يسكن أمراء الغرب من آل بحتر التنوخيين لم يتعرض لهذه الحملات ما عدا ا لجرد الشمالي، إذ المعروف أنهم كانوا حلفاء وأعواناً لملوك مصر ابتداء من الدولة التركية المعز ايبك، إذ جاء في كتاب صالح بن يحيى ذكر منشور المعز إيبك للأمير سعد الدين خضر، وجاء فيه أن الأمير زين الدين بن علي وفد على السلطان قطز واشترك محارباً في معركة عين جالوت لما قهر المصريون التتار، وجاء فيه ذكر عدة مراسيم أرسلها الظاهر بيبرس إلى الأمراء وقال عنهم (الأمراء المثاغرون على صيدا وبيروت) وكذلك ما صدر من ابنه الملك السعيد بركة خان، ولم تكن صيدا وبيروت بيد المصريين في ذلك الوقت. ويبدو مؤرخو الحروب الصليبية في حيرة من موقف بعض الأمراء.
فالأب لويس شيخو يستخلص من حادثة معينة أن بعض الأمراء كان حليفاً للصليبيين فيقول أن أحد أعداء الأمراء المسمى
التنوخية يأمرهم بحشد الجيوش لمحاربة كسروان وأهل الجبال جاء فيه (من نهب امرأة كانت له جارية أو صبياً كان له غلاماً ومن أتى منهم برأس مقتول كان له دينار لأن المذكورين كانوا نجدة الإفرنج) .
ويقول المطران الدبس نقلاً عن الأسقف جبرائيل أبي القلاعي أن المعركة دارت عند جبيل وأن المقدمين الذين نزلوا من الجبال كانوا ثلاثين مقدماً منهم خالد مقدم مشمش. سنان وسليمان مقدما إبليج. سعادة وسركيس مقدما لحفد. عنتر مقدم العاقورة. بنيامين مقدم جردين. ويقول إنهم رتبوا ألفين مقاتلاً كمنوا على الفيدار وألفين على نهر المدفون.
ومن مراجعة وثيقة هدنة المنصور قلاوون يتبين لنا أن هذه البلاد واقعة خارج الجرد وكسروان بل هي داخل القطاع الواقع بين قطاع البترون وقطاع كسروان أو هي تكون ما أسميه قطاع جبيل الواقع بين موقع فيدار وبلدة البترون وتتوسطه مدينة جبيل، ويرتفع إلى بلدة العاقورة في الجبال وبلدة تنورين أمامها وكانت ضمن أملاك صاحب طرابلس وما زال حكم الصليبيين أصبح فتح هذه البلاد هيناً على المصريين ويقول صاحب تاريخ الأعيان بدون أن يذكر المصدر الذي استقى منه (حينئذ اندفقت سكان الجبال على جيوش الإسلام اندفاق الماء المنهمر) (واقتحم مقدم مشمش على قائد جيش الإسلام واحتز رأسه) (ووقعت الكرة على جيوش الإسلام وتمزقت منهم الكتايب والأعلام) .
ويصف ملاحقة الجبليين أمراء الغرب إلى عقر ديارهم وكيف قتل الأمير محمد وأخوه الأمير أحمد من أبناء محمد بن كرامة التنوخي وكيف أن المنتصرين زحفوا حتى أحرقوا بلاد عين صوفر وشمليخ وعين زوينة وبحطوش من قرى أمراء الغرب التنوخيين في الجرد الشمالي.
تلك هي رواية المراجع المسيحية عن الحوادث التي تقدمت الحملة التي قادها الأمير جمال أقوش الأفرم سنة ٧٠٥ وانتهت إلى بما جاء في هذه المراجع بالذات (ثم أحاطت العساكر بتلك الجبال المنيعة وترجلوا على خيولهم وصعدوا في تلك الجبال من كل الجهات فأخرجوا القرى وقطعوا الكروم وهدموا الكنائس وقتلوا وأسروا جميع من فيها من الدرزية والنصرانية وزلت قلوب أهلها.) (ثم أمر جمال الدين أقوش أن تستقر التركمان في ساحل كسروان) ونشأت بذلك أمارة آل عساف وسكن التركمان بلدة ذوق ميكابل
وحفظوا الدروب والمسالك، ونظم الأمير جمال الدين الأفرم طريقة الاتصال بالنيران بين الساحل ودمشق: إذ كانت تقام شعلة نار في رأس بيروت ومنها إلى جبل بوارش ومنها إلى بيرس ومنها لجبل بالصالحية ثم إلى قلعة دمشق حتى تصل الأخبار في وقتها، وترتب الحمام الزاجل بمحطاته وخيل البريد إلى دمشق عن ثلاث طرق، وهكذا انقطع اتصال الإفرنج بأهل كسروان انقطاعاً تاماً ودخل أهل الجبال في طاعة ملوك مصر فلما قامت الفتنة بين الظاهر برقوش والأميرين الناصري ومنطاش انضم لعسكر الشام العربان والتركمان وأهل كسروان والجرد من أهل لبنان، ولما عاد برقوق لملكه بعث بجند مصر إلى الساحل فأخضعت البلاد بأكملها وجاء في أخبار الأعيان أن الظاهر برقوق تةجه بنفسه إلى بلدة بشرى فأقام يعقوب ابن أيوب مقدماً وكتب له صحيفة نحاسية ثم نزل إلى (دير قنوبين) حيث مدافن بطاركة الموازنة فأنعم على الدير العتيق بإعفائه من الأموال الأميرية بموجب صحيفة نحاسية.
وأعود فأقول بأن القطاع الشمالي من لبنان حيث يقع أرز لبنان كان خارجاً عن نطاق الهدنة (بين قلاوون وصاحب طرابلس) كما قلنا ولذلك جاء في كتاب البطريرك اسطفانوس الدويهي إنه وجد في أرض الحدث بقرب دير القديس يوحنا كتاباً للصلاة مدونا فيه ما يأتي عن فتح أهدن وبشرى:
إنه في سنة ١٢٨٣ أي بعد هدنة طرابلس التي تمت في أيام المنصور قلاوون بعامين (إن العساكر الإسلامية سارت إلى فتح جبة بشرى وصعدت إلى وادي حيرونا وحاصرت قرية أهدن وتم فتحها بعد أربعين يوماً وأخرجت القلعة والحصن الذي على رأس الجبل) ولم يكن بوسع الإفرنج في طرابلس ولا جماعة الاسبتار تقديم المساعدة لأهل أهدن لارتباطهم بنصوص عقد الهدنة ولذلك أتم المصريون فتحها قبل سقوط القطاع - الكسرواني وقطاع جبيل في أيديهم. وقد رأيت كيف تمكن الظاهر برقوق بلباقته بعد قرن من الزمن أن يجذب قلوب هؤلاء السكان الأشاوس وأن ينقلهم من معسكر أعدائه إلى معسكر الحلفاء الأوفياء: فلله دره.
أما الأمير جمال الدين أقرش الأفرم نائب السلطنة فبقي بنيابة الشام حتى دخلت سنة ٧١١ لما نقله الملك الناصر محمد إلى نيابة طرابلس بإشارة الإمام ابن تيمية فبقى بها حتى انضم إلى قرانسنقر وذهبا سوياً إلى بلاد التتار بعد أن أديا لمصر أكبر الخدم.

