الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 406الرجوع إلى "الرسالة"

مناظرات كلية الآداب

Share

مناظرات كلية الآداب شائقة ولكنها في دعوتها إلى التفكير  أكثر منها في ختامها للتمحيص وهذا شأن المناظرات في كلية  الآداب وفي غير كلية الآداب، لأن المناظر شأنه غير شأن  المحاضر، ولابد أن يتقيد بجانب الرأي الذي يدافع عنه أكثر  من تقيد المحاضر بجانب خاص من جوانب الرأي وليس تمحيص  الحقيقة ووضوحها في المقارنة بين أقوال المناظرين وحدها بل هي  في التوفيق بين أقوالهما وفيما يظهره هذا التوفيق من آراء قد  تسقط في المناظرة للدفاع كل مناظر عما يدافع عنه من الرأي  وتمحيص الحقيقة أيضاً في مناقشة الجملة التي هي موضوع المناظرة

وهذا ليس من شأنه المناظر وفي بيان أوجه صلاحها للمناقشة  واوجه فسادها ويتضح لنا صواب ذلك إذا رجعنا إلى المناظرة  التي كان موضوعها (هل يزدهر الفكر في عهد الفوضى أم في  عهد الأمان) كما يتضح في المناظرة التي كان موضوعها (هل

يكفي التراث الشرقي - أو العربي - لتمام نضوج الذهن) . ففي  المحاضرة الأولى لم يتضح من الجملة نوع الفوضى ونوع الأمان  كما لم يتضح من الجملة الثانية معنى التراث ومعنى تمام النضوج  فإن من الفوضى فوضى قد تكون ناشئة من التقاء الثقافات  واجتماع الحضارات، وفوضى قد تكون ناشئة عن المحركات  النفسية التي تبعث إلى التفكير، وكلاهما قد تكون فوضى نسبية  تساعد على التفكير وازدهار الثقافة. كما أن من الفوضى فوضى  ناشئة عن اختلال النظام واضطراب الدولة، والفتن والحرب التي  تعم وتجعل الحياة غير موثوق من بقائها وتعطل الأرزاق وتشغل  المفكر عن الفكر بالتماس طرق تأمين الحياة وطلب الرزق أولاً  حتى يستطيع أن يفكر بعد أن يتهيأ له ما أراد، ومثل هذه  الفوضى تعطل أمور التفكير وتمنع من ازدهاره. ومن الفوضى  فوضى قد تكون بسبب شدة العصبية للرأي؛ فكل طائفة تريد  أن تغلب رأيها، فإذا تعدت العصبية للرأي وسيلة الإقناع إلى  وسائل القهر والإلزام، وصار النصر في تلك الوسائل سجالاً  ومداولة وتبع هذه المداولة الفتك والقتل والنهب. منعت كل هذه  الأمور من ازدهار الفكر إلى أن تستقر الأمور. ومن الفوضى  فوضى نسبية هي أيضاً نتيجة شدة العصبية للرأي، ولكنها  لا تلجأ إلى وسائل الفتك أو لا تدوم على تلك الحال أو لا يكون  الفتك سجالا إلى أمد طويل. وهذه قد يزدهر معها الفكر ومن  الفوضى فوضى تتخللها مواطن الأمان، أو كما يقولون جزائر  الأمان ولا يراد بمعنى جزائر الجغرافي وإنما المراد مواطن أمان  يطمئن فيها ويستقر إليها المفكرون إذ لا أمان في بقاع أخرى  في الوقت نفسه فيكون ازدهار الفكر في مواطن الأمان لا في  أماكن الفوضى ومن الفوضى فوضى لا توجد فيها جزائر الأمان  فلا تساعد ازدهار الفكر والأولى مثل دويلات العهد الأخير من  الدول العباسية ودويلات مدن الإغريق ودول ملوك الطوائف  في الأندلس وغيرها، ومن الفوضى فوضى ناشئة عن عبث

النفوس وقلة اكتراثها للجد والحق وهذه لا تعين على التفكير.  ومن الفوضى فوضى يعقبها تعمير، وفوضى لا يعقبها إلا الخراب  والاضمحلال، وفوضى تكون في أول نشأة الأمم والحضارات،  وفوضى في أواخر عهدها. والأمان أيضاً أنواع، فمنه أمان يكون في  عهد مجد الدولة وبأسها، واستقرار أمورها، واتساع نطاق تجارتها  ونمو ثروتها، وهو أمان يساعد على ازدهار الفكر، وقد تتخلله  حروب أو لا تتخلله، وهذا الأمان النسبي هو كالذي كان  في عهد الأسرة الرابعة والثانية عشرة والثامنة عشرة في تاريخ  مصر القديم، وكالذي كان في العهد الأوجستي في تاريخ روما،  وعهد أسرة تيودور والملكة إليصابات في إنجلترا، وعهد لويس  الرابع عشر في فرنسا، وعهد هارون الرشيد في الدولة العباسية،  وعهد بركليس في الدولة الأثينية، وعهد عبد الرحمن الثالث  في الأندلس، وعهد الديمقراطيات والنظم الحديثة بعد الثورة  الفرنسية وبعد حروب نابليون. ومن الأمان أن يكون معه الخمود  والركود وقهر الفكر والفقر وهذا لا يعين على ازدهار الفكر.  فنرى أن موضوع المناظرة الأولى لم يحدد معنى الفوضى والأمان  ونوعهما. وإغفاله هذا التحديد لم يكن داعياً إلى تمحيص الحقيقة وإن  كان داعياً إلى الفكر. ثم أن موضوع تلك المحاضرة قصر عوامل  ازدهار الفكر أو ركوده على الفوضى والأمان ولم ينظر إلى العوامل  الأخرى مثل التجارة وأنواعها، وطرق المواصلات وأثرها،  والصنائع وأنواعها، مثل مصالح الحكومة، ومثل مقدار الثروة  والتعليم الخ. وإذا نظرنا إلى المناظرة الثانية وجدنا أيضاً أن معنى  تمام النضوج لم يحدد، ولم يحدد معنى التراث كما اتضح من أقوال  الأستاذين الكبيرين اللذين تكلما في المناظرة. ولكنهما كانا متفقين  في لباب الحقيقة وإن اختلفا في الظاهر.

اشترك في نشرتنا البريدية