الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السابع عشرالرجوع إلى "الرسالة"

مناظر من موقعة صفين

Share

اجتمع فى سهل صفين جمعان من العرب لم يشهد تاريخ ذلك الشعب اجتماع مثلهما فى موقعة منذ الزمن القديم المعروف فى التاريخ , فقد كانت المواقع القديمة لاتزيد على ان تكون معارك بين بضع مئات , فلما كان الاسلام سمعنا عن موقعة حنين وقد اعجبت المسلمين كثرتهم اذ كانوا عشرة آلاف . فلما خرج العرب الى حروب الروم والفرس زاد عدد الجنود فصار الى عشرات الآلاف , فكان عدد العرب مثلا فى اليرموك ستة وأربعين الفا , وكان عددهم فى القادسية ثلاثين الفا , وفى نهاوند كذلك ثلاثين ألفا واما فى صفين فلم يكن جيش على بأقل من سبعين ألفا , ولم يكن جيش معاوية بأقل من تسعين الفا.

وكان معاوية السابق إلى النزول فى سهل صفين, فاختار لجيشه  سهلا فسيحا متصلا بنهر الفرات فى مكان يسهل الاستقاء منه. ولم  يكن فى ذلك الجزء من نهر الفرات الأعلى مكان غيره يمكن الشرب  منه, إذ ان النهر يجري هناك فى إقليم الجبال فيغلب على مجراه ان  يكون عميقا قائم الجوانب سريع التيار.

ولعل معاوية كان يريد السبق إلى اختيار ذلك المكان ليكسب  الموقعة قبل أن يلتحم الجيشان. فلما اقبل علي فى جيشه رأى عدوه  نازلا فى خير المنازل وقابضا على ناصية الشريعة, وقد وقفت كتيبة  من جيشه لتدافع عن مورد الماء إذا حاول عدوه أن يصل اليه.

كانت خطة علي فى حروبه أن يأمر جنده بالكف عن القتال  حتى يحاول حل الخلاف بالحجة والمسالمة. حقا لم تفده هذه الخطة  فى كثير من المواطن, ولكنه لم يخرج عنها مرة واحدة فى حرب  من حروبه. وقد كان فى هذه الموقعة جاريا على عادته هذه, فانه  أمر أصحابه ألا يتعرضوا لأحد من جيش معاوية حتى يراسله فيما  جاء له. ولكن العطش ألح على أصحابه, فالتمسوا مكانا على النهر  يستطيعون أن يشربوا منه فلم يستطيعوا, فأرسل علي إلى معاوية يطلب  اليه أباحة الماء لأصحابه. فلم يكن بد من القتال على الماء قبل  محاولة المفاوضة فيما جاء له الجيشان.

وكان بطل القتال فى ذلك اليوم الأول رجلا أسمه الأشعث ابن قيس, كثر تردد اسمه فيما بعد فى آخر الموقعة. وقد كان من قبل  خلافة علي عاملا لعثمان علي أزربيجان, فلما قتل عثمان دخل فى طاعة

على حتى جاء معه لمحاربة معاوية فى صفين. ولكنه كان ممن ينظر  اليهم بعين الريب فى جيش علي. ولا يمكن أن يكون الأمر على غير  ذلك لأن جيش علي كان لا يثق بأحد ممن كان يعمل لعثمان,  على أن الأشعث كان يطمع فى الصدارة والرياسة, وها هى فرصة  تهيأت له فتقدم إليها مسارعا, فطلب الى على أن يخرجه لقتال القوم  على الماء فاذن له على فى ذلك. واشتدت الحرب وتوالت الامداد  من الجانبين وانتصر على وأصبحت الشريعة فى يده, وارتدت  جنود معاوية الى مكان بعيد عن النهر, وتقدمت جنود علي فنزلت  فى ناحية من السهل الفسيح الذى كانت جيوش معاوية تحل فيه  وتملك الانتقال خلاله.

كثر تحدث الجنود والقواد بعد ذلك فيما يظنونه من صنع على عقب انتصاره, فمن قائل إنه يقابل الاساءة بمثلها, ومن قائل إنه  يتفضل على عادته فى النبل, وقال عمرو بن العاص: (ما اظنه يمنعنا  الماء كما منعناه من قبل. لانه قد جاء لغير ذلك) وكان عمرو أصدق  المتوقعين, فأن عليا أبى ان يمنع أحدا ورود الماء. وقد يسائل أحدنا نفسه: (ماذا كان يجب عليه أن يفعل؟)

وقد يجيب بحسب ما يظنه الأمثل والأصلح, ولكن لا يشك أحد فى وصف ما أتاه على بأنه نبل.

نزلت جنود علي فى سهل صفين فى أواخر ذي الحجة, فلما دخل  المحرم اتفق الجيشان على الموادعة مدة الشهر الحرام, وكان على  يرجو أن يستطيع فى أثنائه حسم الشر والوصول إلى توحيد كلمة  المسلمين بغير حرب, غير أنه كان يعلم أن معاوية لا يقصد غير الملك,  وما كانت الحجج لتستطيع أن تحوله عن مثل ذلك القصد. غير  أنه كان يطمع فى أن يستميل بالحجة أهل الرأى ممن مع معاوية, فكانت  رسله تختلف الى معاوية تحمل من الحجج ما هو أشبه بالدعاية السياسية  منه بالمراسلة المعتادة بين رئيسى حزبين متعاديين, وكان ينتهز فرصة  وفود رسل معاوية لكى يحاول أن يستميلهم بالحجة, وكان اذا وجد  من هؤلاء الرسل انصرافا عن حجته وتمسكا بمعاوية أظهر أشد  الاسف حتى ليقول مثلا: (انك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم  الدعاء اذا ولوا مدبرين, وما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم أن تسمع  الا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) فلما رأى المحرم قد مضى وأيقن  أن تلك المحاولات لم تفده شيئا, أمر أحد قواده أن يعلن استئناف  القتال, ولم يرض أن يهاجم أعداءه حتى يعلن إليهم عزمه. فلما غربت  شمس آخر يوم من المحرم نادى مناديه بإعلان الحرب معتذرا بأنهم  أبوا الإذعان للحجة ولم يلبوا الدعوة إلى الإسلام. وابتدأت المصادمة  على شكل مواقع جزئية, وذلك بأن ترسل كتيبة من جيش على

فتلقاها كتيبة من جيش معاوية فتتجاولان مدة نهار حتى يحجز  بينهما الليل, وكانت القتلى فى مثل هذه المجاولات قليلة العدد. وكان  الناس إذا أقبل الليل يضعون السلاح ويدخل بعضهم إلى مخيم بعض  فيتحادثون ويتسامرون ويسمع بعضهم قول بعض فى غير قتال حتى  تستأنف المعركة سيرها فى اليوم التالي. وقد استمر الحال على ذلك  مدة الأسبوع الاول من المعركة, ثم عزم على المقاتلة بكل جيشه  فى يوم الأربعاء الثاني من شهر صفر سنة سبع وثلاثين للهجرة.

وكان الجيشان مرتبين حسب النظام المتبع حين ذلك. وهو أن يجعل  لكل منهما قلب وجناحان, وكان الهجوم يحدث من الجناحين أو من أحدهما  ويكون القائد فى القلب ومعه أوثق جنوده يهجم بهم وقت الضرورة,  أو يمد بهم من يحتاج إلى المدد من الجناحين. وقد بدأ علي الهجوم بجناحه  الأيمن وجل جنوده من أهل اليمن, فهبطوا على جناح معاوية الأيسر,  وكان قائد ميمنة على أحد شجعان العرب وقرائهم وهو عبد الله بن بديل,  فكانت الحملة الأولى تيارا قويا تزعزعت له ميسرة معاوية حتى  اضطر الى امدادها بالشجعان الذين معه فى القلب وهم الذين بايعوه  على الموت, وعند ذلك قويت ميسرة معاوية وكرت على ميمنة على  حتى ردتها, ولم يبق ثابتا الا القائد مع مائتين أو يزيدون استماتوا فى  القتال أمام الجموع المتزايدة الجرارة التى تدفقت عليهم, فلما رأى علي أن  ميمنته ارتدت هذا الارتداد السريع الذى لم يكن متوقعا عقب  الانتصار الأول حاول أن يقابل الهجوم بمن معه فى القلب وكانوا  من مضر. فلم يستطيع أن يرد بهم ذلك التيار واضطر إلى أن ينحاز  الى ميسرته وكان جنودها من ربيعة. فلما رأت الميسرة ما حاق بالميمنة والقلب وانحياز الخليفة إليها ثارت فيها الحمية وثبتت  ثباتا عظيما ووقف على معهم يحارب بنفسه.

رأى أحد قواد علي وهو الأشتر النخعي ما حاق بالميمنة من  الهزيمة وكان يمنيا. فتارت روحه القوية وجاشت نفسه الباسلة  فأسرع نحو المنهزمين وتمكن بقوة نفسه وشجاعة قلبه وفصاحة  لسانه من أن يرجع كثيرا منهم ويذمرهم ويثير فيهم الحماسة حتى  التف حوله عدد عظيم ممن كان انهزم من الميمنة. فعطف بهم الى  القتال فأدرك عبد الله بن بديل وهو بآخر رمق من الجهد يقاتل مع  اصحابه القلائل المستميتين. فأعاد الكفة إلى الرجحان وما زال يقاتل  حتى صار القتال متكافئا بين الفريقين, ولما رأى على ذلك عاد الى  الميمنة وجعل يشجعهم ويذمرهم.

وأقبل الليل والكفتان متراجحتان بعد, ولم يشأ أحد من الفريقين أن يقف القتال أثناء الليل إذ كان كل منهما يعض على  النواجذ من أجل النصر.

وأصبح الصباح فإذا بجنود علي فى الميمنة لا يزالون منتصرين  مع الأشتر النخعي حتى صرعوا صفوف المعقلين الذين التفوا حول  معاوية وقد بايعوه على الموت وعقلوا أنفسهم بالعمائم حتى لا  يستطيعوا الانصراف من حوله, وكانت الميسرة كذلك منتصرة  قد أوشكت أن تبلغ إلى قلب جيش معاوية وجعلته يفكر فى الفرار,  وفيما كان الأمر على ذلك ارتفعت صيحة من ميمنة جيش معاوية  وما زالت تتزايد حتى بلغت ميسرة جيش علي, فإذا الصيحة ترتفع  فيها حتى تبلغ عليا ويأخذ قواده فى المجادلة فيما بينهم, ثم تنتقل المجادلة  حتى تصبح بينهم وبين الخليفة. وتلك هى صيحة تحكيم القرآن إذ رفع  جند الشام المصاحف على الرماح وقالوا: (قفوا تلك الحرب  الطاحنة, إلى متى يتطاحن المسلمون؟ لقد قرب المسلمون من التفانى.

ومن يكون لحرب الفرس ومن يكون لحرب الروم اذا نحن تفانينا وقتل بعضنا بعضا ؟"

تردد على فى وقف الحرب وعلم أن تلك خدعة لجأ إليها عدوه  عندما رأى كفة النصر تنصرف عنه. ولكن بعض قواده هدده  بالثورة عليه. وكان أشدهم فى ذلك الأشعث بن قيس صاحب  الانتصار العظيم يوم الشريعة. فاضطر علي أن يبعث إلى ميمنته  المنتصرة لوقف الحرب. وتردد الأشتر فى ترك الحرب وقد أوشك  أن ينتصر. فأعاد الإمام أمره إلى الأشتر بوقف الحرب وأفضى اليه  بنبأ ثورة قواد ميسرته, فاضطر إلى أن يرفع يده وعاد إلى علي محنقا  ثائرا ساخطا على إفلات النصر من يده وكان قد ظنه قريبا.

ولم يمض بعد ذلك زمن طويل حتى كتبت صحيفة التحكيم وانصرف  الجيشان أولهما إلى الشام وهم فرحون اذ أفلتوا من هزيمة محققة,  وثانيهما الى العراق وهم يتلاومون ويتجادلون ويختلفون وفى قلوبهم  أشد الأسى على ما أصابهم من الخذلان بعد وشك الانتصار.

وإنا نسائل النفس عن علة هذا الفشل العجيب ولا نستطيع  أن نقنع النفس بأن الحوادث الظاهرة كانت كافية لأحداثه. فأن  أمر هذه الهزيمة كان شبيها بعود من الثقاب أشعلته فرأيت من  إشعاله انفجارا مدمرا لم يكن ليخطر لأحد ببال. فإذا عزى  الانفجار إلى عود الثقاب كان ذلك إهمالا لذلك الغاز الملتهب الذى  كان خفيا عن الأعين فأحدث الانفجار المروع عندما اشتعل فيه  ذلك العود الضئيل. إن الحرب هى الجهد الأعظم الذى ينتهي اليه  الخصام بين حزبين. وفيه يبذل كل جانب أقصى ما عنده من الهمة  ليفوز. وقد لا يتورع المحارب عن الكيد بالكذب والدس والتجسس, وقديما أباح الناس أمثال هذه الدنايا فى الحروب مع تحريمهم إياها فى المعاملة المعتادة.

( تتمة المقال فى العدد المقبل )

اشترك في نشرتنا البريدية