لقد كان أبو القاسم رحمه الله أديبا عربيا ، ومفكرا صوفيا ، وان كان من طراز شاذ ، ونسيج عبقري . كان اذن شاعرا ، وشاعرا فحسب ، وكفاه فخرا أن يكون شاعرا بأتم واسنى معنى الكلمة .
الشعر هو الادب كله عند العرب ، وكل الصيد في جوف الفرى . الشعر العربي يتسع لكافة الاغراض والمعاني الانسانية ، ومن هنا سمي ديوان العرب ، وما زال ديوان العرب . وأبو القاسم شاعر عربي . ولقد اتسع شعره اتساعا مدهشا ، وكان الى ذلك متعمقا ، نافذا الى الصميم من حقائق الوجود ، ومشاكل الحياة ، متسائلا عن الاسرار الازلية التي أوشك أن يكشف عنها الحجب بما اودع من طابع سحري جذاب ، ورفيف وجداني خفاق ، ورنين موسيقى كاد أن يقتبس من اصوات الملإ الاعلى .
لقد كان الشعر في مفهوم أبي القاسم " كليا " . أعنى أنه تناول الحياة في مجموعها وفي مشتبك حقائقها ، نافذا الى الصميم من مآسيها وافراحها ، بالغا الى الثمالة من كأسها ، مستقصيا ما شاء عن نعيمها وبؤسها ، بحيث يمكن أن يقال إن أبا القاسم كان شاعر الحياة ، وشاعر اليقظة والنشوة الشعورية معا ، وشاعر الحس الانساني المرهف الدقيق المتعمق الفسيح - شاعر النفسية النابضة الناهضة المتحسسة مظاهر الوجود في مختلف مشاهده من انسان حي وطبيعة متألقة متقلبة وكيان خاضع لناموس المد والجزر ، مطوق بغل الزمن الرهيب .
لقد نفذ الشاعر الملهم الى الصميم واستخلص من تجواله الفني واقتنص من تجربته الانسانية الوديعة الثائرة المطمئنة الحيرى معنى من معاني الانطلاق والتحرر الجريء من ظروف كون تقليدي خاضع للاسر والارهاق ، وقيود مجتمع إنساني متعفن وبيل ، وانه عندئذ ليرجع الى الطفولة الغضة الناعمة الوديعة اللاهية العابثة
المرحة التي لا تعرف - لحسن حظها - معنى للماضي ولا للمستقبل - وانما تعيش في حاضرها الثري بالاحلام والاحاسيس والرؤى الفتانة الزاهية الالوان .
وبعد ، أو ليس الشاعر هو ذلك الذى احتفظ بطفولته الفقيدة ، وفردوسه السليب بمفعول الزمن الهصور ؟ او ليس الشعر هو الافتكاك ، او الاسترجاع المترنم المسجوع ، لتلك الجنة التي أتيح لكل منا أن يعرفها في زمن ما ، والتي افتقدها الكثيرون ، أو دنسوا نقاوتها فأطردوا عن أفيائها ، وأقصوا عن حياضها ، والتي لا يحسن استعادتها الا العباقر الامجاد والافذاذ الملهمون والعشاق الاوفياء .
إن حنين الشابي الى الطفولة قد يفتح لنا نوافذ كثيرة على مجاهل نفسيته اللطيفة الدقيقة المفعمة بالاسرار . ولقد يكشف لنا بعض الحجب عن سر من اسرار عبقريته النورانية التي تسربلت بسربال الطهر ونقاوة الاحلام ونضارة الاحاسيس ، مهما كان من تفاقم الارزاء ، وتكالب المحن .
ان الشابي لهو ذلك العبقري الثائر ، وذلك النبي المجهول الذي يناشدنا بأن نعود الى فردوس طهرنا المفقود حتى نجد معنى السرمدية والطهر والنقاوة الملائكية والغبطة المرحة والخفة المجنحة والحرية الخالصة من القيود .
وكذلك ادى بالشابي تأمله الصافي الى تشخيص رائع رقيق لمعاني السرمدية والانطلاق او بالاحرى الى تمثيل مدهش جذاب لاتحاد بصميم الكون وعصارة الحياة وحقيقة الوجود . وكذلك يتاح لنا من خلال اهازيجه ان نبتني لنا ذاك العالم السحري الازلي وان نسترجع ذاك الفردوس النوراني الخالص من الاقذاء والاكدار .
وانها من دون ريب لصوفية قد لا تبوح باسمها - صوفية واضحة خفية في عين الآن ، وان اتجهت ذاك الاتجاه الرومنطيقي ، وتجللت بثوب الابداع . إن من وراء ثورة الشابي وجموحه الصارخين الباكيين المنتحبين لوداعة ورقة ولينا وابتسامة هادئة ملائكية تكاد تكشف الستار وتبدد الحجاب عن عوالم خفية وكون قدسي أزلي يستمد منه الشاعر عناصر الهامه ويجنح اليه في مزيد من حنين ومضاعف هيام .
لم يشأ الشاعر عبثا ان يسمي نفسه " النبي " ، ولا صلى باطلا ولغوا في " هيكل الحب " ولا كان متخرصا في اثبات معنى الازلية والديمومة لذاته على الرغم من تكالب الآلام ، ودنو شبح الحمام
لقد كان الشاعر يستمد من صوفيته تلك القوة النابضة ، وتلك العزمة الفولاذية التي امسى يتغلب بها على الادواء الحافة به من كل جانب والتي كم نغصت عليه عيشه وضيقت انفاسه ، وقد اطفات اخيرا بالفعل شعلة حياته الارضية الفانية وان اخفقت دون قتل ذاك الروح الخالد العملاقي الطاهر النقي
لا عجب اذن ان كانت المشكلة الاساسية التي اتجهت اليها افكار الشاعر واحاسيسه وتشكلت من حولها اهازيجه هي تلك المشكلة الصارخة الانسانية التي قد يحسن بنا ان ندعوها : ماساة الكون والفساد - ماساة الانسان العابر مجاهل الوجود - ماساة الموت والحياة .
لقد كانت هذه النقطة الاستفهامية تساور الشاب العبقري اليقظ الحساس في مختلف مجالات الفكر والشعور .
ولقد نشأ الشابي وترعرع وشب في فترة من تاريخ هذا الشعب التونسي كانت هذه المشكلة الجوهرية خلالها محط الاخذ والرد ، ومحل الياس والرجاء ، ومناط الرغبة والرهبة بالنظر الى أمة باسرها كانت تتوقع كارثة الفناء ، وتشاهد بعينها معاول الابادة تهدد هيكلها ، وتلمح ديدان السوء عابثة في غرسها ، وبزاة الابتلاع محلقة في اجوائها .
لقد كانت معضلة الحياة او الموت - وان شئت مفترق الطرق بين بعث وهمود ؛ لقد كان هذا اللغز جاثما امام اعيننا ، ابناء ذاك الجيل ، وكان اذن من اوكد الاكيد حله الحل اللائق بعزة النفوس ، وصلابة الهمم ، او بالاحرى بكرامة الانسان
ولقد كان الشابي - هنا ايضا - هو ذلك النبي الذي آمن بالانبعاث الانساني القومي وانطلقت من خلال اهازيجه الملهمة انشودة الحياة الظافرة المتغلبة على فنون العسف وقيود الاسر والارهاق
واذا قارنت بينه وبين الطاهر الحداد وجدت الرجلين المتعاصرين المتآخيين
قد تقدما عهدهما وشقا طرق التحسس والاستجلاء في مناحي التفكير الانساني الخالص والوعي الاجتماعي الناهض لمن جاء على اثرهما من الاجيال .
والحقيقة المرة هي ان لا نبي " في عصره " وان شئت قلت في " حياته " ولقد ذهب الشابي الى حد ما طيلة حياته القصيرة ضحية النكران الساخر والازدراء الساذج السخيف ، كما نقم الناقمون ما شاء لهم الحمق والبلاهة الرجعيان على تحليلات الحداد لاوضاعنا الاجتماعية السخيفة البالية التي حاول تقويمها وقام شارحا طريق الرشد في اصلاحها .
ونحن اليوم - وقد مرت السنون وتعاقبت الاجيال الصاعدة ، وبدلت الارض غير الارض - نحن اليوم قد يمكننا ان نضع ابا القاسم في منزلته اللائقة به من نهضتنا الفكرية وانبعاثنا القومي ، ونضوحنا كأمة تواقة للعز والحياة .
ان للشابي لعظمة الشاعر الكوني الغائص عن اسرار الانسان الازلية وحقائقه السرمدية واشواقه النورانية ، ولكن لابي القاسم كذلك منزلته ومرتبته المرموقة الواضحة في سلم نهضتنا ومدرج انطلاقنا التحرري .
لقد عبر الشاعر في آثاره الخالدة عن ذلك الوعي الغامض الدافق الذي كان وما زال يساور امة باسرها تواقة الى الكرامة والعز والحياة ، وتمثلت في شعره امتنا وهي في مفترق الطرق ومهب العاصفة متاهبة لخوض المعركة الحاسمة التي تحقق المصير وتقتسر مشيئة الاقدار .
