الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 219الرجوع إلى "الثقافة"

منهج فقه اللغة :، 2- النظم عند الجرجانى

Share

ليس من همي الآن تلمس المنابع التي استقي منها عبد القاهر آراءه ، ولقد كان بيني وبين الأستاذ كراوس حديث عابر اعلن فيه غبطته بالنصوص التي أوردتها لناقدنا العظيم ، وفيها يري الأستاذ آثارا لتأثير أفلاطون على التفكير العربي . وأنا وإن كنت لا استطيع أن أجزم بنفي رأيه ، إلا أنني كذلك لا أريد أن أجازف فأدعي أن في العلاقة التي يراها عبد القاهر بين اللفظ والمعني ما يماشي علاقة الشيء بالمثال عند إفلاطون مثلا . هذه في الحق أشياء ممكنة لا تحتاج إلي القول بها إلا إلي جرأة عقلية ومهارة في التخريج ، أنا أميل إلي الحذر منها ، وليس في ميدان البحث شيء اشق من التنقيب عن المؤثرات العقلية

ولا أخطر ، ولكم ظلم الباحثون رجال الفكر بدعواهم الأخذ عن هذا أو ذاك في غير دليل قاطع ، اللهم إلا أن يحتال الباحث نفسه فيقيم أدلة مصطنعة .

وأهم من البحث عن المنابع في نظري محاولة الفهم وبخاصة فيها نحن بصدده الآن ، وإن كان يسعدني ان يتناول الباحثون كل ما يتصل بعبد القاهر ، لأننا نريد أن يفطن المشرفون على التعليم في بلادنا إلي أنه إن تكن في تراثنا العربي كتب تصلح لتربية النشيء فهي ليست كتب قدامة بل كتب عبد القاهر ، وانا مؤمن بأنه من الجرم ان يوضع " نقد النثر " أو " نقد الشعر " بين أيدي الطلبة في التعليم العام . هذا خطل في الرأي .

غرضي إذن هو محاولة الفهم ، وليس من شك في أنه من حقنا اليوم أن نعين عبد القاهر نفسه على استيضاح ما أحسه دون أن يستطيع استبانة معالمه ، وما قرأت كتبه إلا أحسست بشفقة تمازج إعجابي العظيم ؟ ومثله مثل من

بتخبط في شجاعة وسط أمواج متلاطمة . وأكبر ظني أننا ما كنا لنستطيع خيرا مما استطاع لولا ان تقدم الزمن وتراكم جهود العلماء قد وضعنا في وضع خير من وضعه ، ولقد كان من سوء حظ الثقافة العربية ان وقف تفكير عبد القاهر عند منبعه ، ولو ان مسالكه هيئت إذن لتدفق ذلك النبع الغزير ، ولرأيت لنا اليوم نحوا لا يقف عند الإعراب ، بل ولا عند بناء الجملة البسيطة ، بل يعدوه إلي دراسة الجملة المركبة ، ولرأيت إلي جانب النحو بهذا المعنى الخصب الشامل علما للأساليب  "stylistique" - بمعناه التقليدي ) ١ ( عند علماء اللسان في أوربا

ونقطة البدء التي يجب أن نتمسك بها في فهم بل في ) إيضاح وتنمية إحساس عبد القاهر اللغوي ، هي ما ذكرت في مقال سابق من التفريق بين ( ١ ) الألفاظ المفردة و ( ٢ ) عوامل الصيغة ؟ Morphemes فهذه الفكرة البسيطة هي خلاصة ما وصل إليه علم اللسان الحديث في تحليل اللغة وفهمها فهما صحيحا ، وهي كامنة في آراء عبد القاهر كمون النار في الزند ، واستخراجها بعد أمر طبيعي لا قسر فيه ؛ ولقد سبق أن أوردنا من كلامه ما يثبت في غير لبس أنه يميز تمييزا واضحا بين العنصريين .

والمسألة الهامة التي نريد إيضاحها اليوم هي معني لفظة " عوامل الصيغة " وكيف نرد تفكير عبد القاهر العام إليها ، فيماشى بذلك جهود علماء عصرنا ونسير معهم .

يمكن حصر عوامل الصيغة حصرا جامعا مانعا ، كما

يقول المناطقة في ثلاثة أشياء ) ١ ( الترتيب ) ٢ ( بعض المقاطع الصوتية ) ٣ ( الأدوات النحوية .

قلنا إن وظيفة المفردات في رأي عبد القاهر وفي رأي العلماء العاصرين لا تعدو تحريك الصور الذهنية التي لدينا عن الأشياء والأحداث ، ونحن لا نحرك تلك الصور أو يحركها لدينا غيرنا إلا لنخبر بها أو عنها ، وهذا الإخبار هو المكون للمعاني التي نريد نقلها او الإيحاء بها إلي الغير ، وعوامل الصيغة هي التي تعبر عند تلك المعاني ، عوامل الصيغة هي أدوات النظم التي لم يستطع عبد القاهر ان يحددها على نحو ما نستطيع نحن اليوم .

بفضل عوامل الصيغة إذن نميز عن المعنى الذي نريده وهنا يحسن بنا أن نشير إلي أن المعنى عند عبد القاهر غيره عند ابن قتيبة . فهذا الأخير يقصر مدلول اللفظ ) معني على الآراء ، ثم الحكم الأخلاقية ؛ وأما الجرجاني فأوسع من ذلك نظرا ، فالمعنى عنده قد يكون ) احساسا أو مفارقة لطيفة ، كما قد يكون رأيا أو نظرة أخلاقية ، ومن ثم كانت دراسته للغة دراسة إنسانية شاملة ، وإذا كان النظم عنده يدور مع المعنى فإنه بتحليل ذلك النظم إنما يحلل النفس البشرية بملكاتها المتعددة الموحدة ، يحللها من حيث تتركز في اللغة ، وقد ولدت المعاني المختلفة ونجحت في استخدام أدوات النظم استخداما يكشف عما تضمر تلك النفس . ويضيء ما غمض فيها إن لم يعثر على المفقود في حناياها .

وإذن فدراسة عبد القاهر للنظم هي دراسة لطرق الأداء ، وهذه بطبيعتها دراسة تحليلية يراد منها الفهم ، ومع ذلك اتخذ منها عبد القاهر وسيلة لكشف السر في الإعجاز ، فكيف استطاع ذلك ؟ كيف تؤدي بنا الدراسة التحليلية إلي مقاييس نحكم بها على جودة الكلام ؟ كيف نجمع بين دراسة تقف عند الصحة وإخري تمتد إلي الجودة ؟ وبعبارة أخري كيف تتخذ من علمي النحو والمعاني نهجا واحدا ؟

الجواب بسيط ، وهو أن عبد القاهر في الدلائل " يصدر عن فكرة جامعة ، هي أن الجودة إنما تكون بدقة الأداء ؛ فأنت تقدم وتؤخر وتستأنف ، وانت تفصل وتصل ، وأنت تسند وتغير في طرفي الإسناد ترتيبا ونوع لفظ ، وفقا للفقارقات التي تزيد العبارة عنها في المعنى الواحد ، أو حرصا على تلوين المعنى بأحد الألوان النفسية المتبابنة تباين أحاسيسنا ؛ وما أظننا واجدين في كل ما قال هذا المفكر الكبير غير هذه الحقيقة الكلية ، وذلك طبعا علي فرض اقتصارنا على الدلائل " ، وأما إذا عدوناها إلي أسرار البلاغة ، فإننا سنجد عندئذ نظرية أخري في الموازنة بين طرق الأداء الحقيقية منها والمجازية . وأنا لا أريد اليوم أن أحاول التوفيق بين الكتابين ، فتلك مشكلة شاقة لابد من علاجها منفردة ، وإنما أكتفى بالإشارة إليها وهي كامنة في التعارض المستقر بين نظريتين . نظرية " الدلائل " التي تسلم بأن طرق الأداء تدور مع المعاني ، فالمفاضلة إنما تكون في نجاح العبارة عما نريد عبارة دقيقة . والعبارات  إنما تتنوع تبعا للدقائق التي تحرص على أدائها ، ومعنى هذا أن المعنى الواحد - كما قال فلوبير - لا يمكن أن يعبر عنه إلا بعبارة واحدة هي تلك التي يجدها الكاتب الكبير . وأما نظرية " الأسرار " فتقوم على افتراض وجود طريقتين للعبارة : طريق الحقيقة ، وطريق المجاز ؛ وعبد القاهر يقول مع غيره . " قد أجمع الجميع على أن الكتابة أبلغ من الإفصاح ، والتعريض أوقع من التصريح ، وأن للاستعارة مزية وفضلا ، وأن المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة . وإذن فهناك طرق مجازية ، وهذه من الواضح أنها لا تتقيد بدقائق المعاني تقيد طريق الحقيقة ، وأن ميدانها لا حصر له لقيامها علي التداعي النفسي الذي لا يمكن أن نكشف جميع أسراره ؛ وهنا يكون ثمة محل للمفاضلة بين الطرق المجازية المختلفة ، لا بين المجاز والحقيقة فحسب ، وهذا كله

ينفي ذلك النوع من الجبر - الجبر الصادر عن المعنى - الذي يتخذه عبد القاهر أساسا لدراساته في الدلائل وفي الحق أن عبد القاهر لم يبلغ من العمق في " الأسرار ما بلغه في " الدلائل " ، ويكفي ان نشير إلي انه لم يقطن في تفضيل المجاز على الحقيقة إلا إلى الرأي القريب القائل بأن المجاز يوضح المعنى ويؤكده ، وما شاكل ذلك ، حتى إذا حدث عن المعنى العقلي و المعنى التخييلي لم يعد التفرقة التي فطن إليها الآمدي وعبد العزيز الجرجاني عند ما ميزا بين " المعنى العام المشترك " و " المعنى الخاص ، وإن يكن لعبد القاهر في ذلك فضل فانما هو في تدعيم تلك التفرقة تدعيما فلسفيا . ولقد يكون في هذه الحقائق ما يمهد السبيل لحل الإشكال ؛ ولعلنا محاولون ذلك في مقال آخر .

للنفس إذن " الأسرار " مؤقتا ، ولنساير ناقدنا في تفكير ، ولنتفق معه على ان الجودة إنما تكون بدقة الأداء دقة تكسب المعنى فضلا ، أو تشحذه فينفذ ، إن لم تلونه بإحساسنا فيصل إلي القلوب ، ولننظر كيف يستخدم النظم أدواته ليصل إلي ما يريد .

أما " الترتيب " فالذي أحرص على لفت النظر في صدده هو ان عبد القاهر قد ادرك عند دراسته حقيقة رائعة ، لا يزال علماء اللسان المشتغلون باللغات ذات الإعراب ( Flexionnelles ) يجدون في البحث عنها . ولتوضيح ذلك يحسن أن نشير إلى الفرق البين الموجود بين اللغات ذات الإعراب كاليونانية واللاتينية والألمانية والعربية مثلا ، وبين اللغات التي لا إعراب فيها ، أو التي كانت معربة ثم فقدت إعرابها إلي حد كبير ، كالفرنسية والإيطالية والإنجليزية والعبرية مثلا ؛ ففي اللغات الأخيرة يستعيض المتكلم أو الكاتب عن الإعراب بالترتيب ، فيضع الفاعل أولا ، ثم يتبعه الفعل ، وأخيرا يضع المفعول دون أن يستطيع تغيير شئ في ذلك الترتيب وإلا انقلب المعنى . يقول مثلا ك Ali beats Mohamed وأما في اللغات

الأولى ، فالإعراب يعطينا حرية في الترتيب ، فنقول ضرب على محمدا ، أو ضرب محمدا علي ، أو محمدا ضربه علي ، أو على ضرب محمدا وهكذا . ولهذا قال علماء اللغة إن الترتيب حر في اللغات ذات الإعراب ، بينما هو مقيد في اللغات الخالية منه ، حتى زعم نحاة العرب أن الترتيب لا يلزم إلا حيث يغمض الأعراب ، فنقول ضرب عيسي موسي ، إذا كان عيسى هو الضارب ولا خيار لنا في غير ذلك . هذه هي النظرية العامة التقليدية ، وأما عبد القاهر ومعه كبار علماء أوربا اليوم ، فإنهم مع تسليمهم بأن الأعراب يحرر اللغات من الترتيب ، إلا أنهم يرفضون أن يسلموا بأن كبار الكتاب في تلك اللغات لم يفطنوا لقيمة تلك الحرية ، ولم يستفيدوا منها في دقة الأداء عما يريدون ، وهم بذلك يضيقون من حريتهم ، ولكنه ضيق كله سعة لأنه ينوع من العبارة تبعا لدقائق المعاني . فالأمر إذن ليس فوضي ولا عبثا أو تحكما ، وإنما هو حرية خاضعة للضرورات النفسية التي تشف عنها اللغة وتفصح عن أسرارها ، بل إن عبد القاهر ليقر النحاة على ما يرونه من أن الابتداء قد يكون وظيفة نحوية ، وذلك عند ما تبيح أصول اللغة أن تجعل من لفظين أيهما شئت مبتدأ أو مسندا إليه في نحو قولنا المنطلق زيد ، فإنك إذا غيرت الترتيب فقلت زيد المنطلق انقلب المسند إليه مسندا بما يستتبع ذلك من حصر أو تعيين .

الترتيب إذن عند عبد القاهر عامل من عوامل الصيغة من حيث إنه يعين الوظيفة النحوية للفظ تعبينا تستعين به اللغة ويستعين به كبار الكتاب لأداء المفارقات الدقيقة التى يعجز عند أدائها الإعراب ، وأنا اترك للقارئ مهمة الرجوع إلي الدلائل " ليطيل النظر في الأمثلة الدالة التى يسوقها المؤلف ويحللها أدق تحليل ، وأكتفى بأن أشير إلى مثل حديث جميل ، فطن إليه صديقي الأستاذ عبد العزيز عتيق في مقال له عن الدكتور أبي شادي ، إذ قال شاعر الاسكندرية :

وبدا الصغير الجدول الجاري كما        تجري الطفولة رقة وحنانا

فقدم الصفة الصغير " على الموصوف " الجدول " ورأي عتيق في ذلك جدة لم يسبق إليها أبو شادي ، ولقد اتفق أن سألت الشاعر نفسه عن دافعه إلي ذلك فقال : " قدمت الصفة لأنها عندي أهم من الموصوف " وإذن فالذي راء الشاعر من الجدول هو صغره ، والشاعر لا ريب صادق فيها قال ، لأن الشطر الثاني يحمل إلي دليلا من تداعي الصور لا يدفع . الصغر هو الطفولة التي تجري رقة . وهكذا تصبح الحرية مصدرا للثروة اللغوية الناطقة بثروة النفس .

وأما العاملان الآخران : المقاطع الصوتية ، والأدوات النحوية فمن الواجب أن تتميز بينهما اوضح تمييز فالمقصود بالمقاطع الصوتية كل ما يزاد على الكلمة المفردة فيكسبها دلالتها في النظم ، ومن ثم يدخل فيها حركات الإعراب وحروف الإعراب ، وتغير بنية الكلمة بسبب الإعراب كحذف حرف علة أو حذف واو أو ألف او باء الخ ، فهذه كلها مقاطع صوتية تثبت أو تحذف ؛ وأما أدوات النحو فهي كل تلك الكلمات التي لا تدل على حدث أو شيء ، وإنما تضاف إلى تلك الألفاظ لتحددها او تحدد قصدا للمتحدث عنها ؛ هي ما يسميه الأستاذ برينو Brunot ( آلات النحو ) ١ Outils Orammaticatix

وفيها يدخل التعريف بأل والتنكير بحذفها ، كما يدخل إبراز الضمائر والموصولات والإشارات وحروف العطف والقصر وما إلي ذلك .

المقاطع الصوتية إذن لا دلالة لها في ذاتها ، أي مستقلة عن الكلمة التي تتصل بها ، وأما الأدوات النحوية فلها في الأصل دلالتها الخاصة ، وهي تضاف إلي الألفاظ فتضيف إليها دلالة جديدة .

ولعبد القاهر في دراسة هذه العوامل نظرات تطبيقية بالغة الدقة ، وفي تلك النظرات تتركز مقدرة الرجل على الإحساس والذوق والملاحظة ، وهو طبعا لم يتناول الحديث عنها على هذا النحو المذهبى الذي بسطناه ، ولكنك عندما

تقرأ كتابه تستطيع بسهولة أن ترجع كل ملاحظاته إلي هذه العوامل الثلاثة التي تحدثنا عنها ، وعندئذ يصبح من السهل أن تربط تفكيره بالتفكير الأوربي الحديث وتصل به إلي نهايته .

النظم عند الجرجاني إذن هو فيصل الإعجاز ، والنظم يكون بادخال عوامل الصيغة على المفردات ، ولكن هذه العوامل إن استطعنا حصر أنواعها لا نستطيع استقصاء وحداتها ، فكيف نفاضل بين تلك الوحدات ؟ نفاضل بالذوق ونحكم على كل حالة حكما خاصا ، وهذا ما ستراه في المقال التالي .

اشترك في نشرتنا البريدية