من آفات المناظرة في بلادنا (دون بلاد الله كلها) أن جمهرة القراء تنظر إليها نظرها إلى شكل من أشكال الصراع أو القتال لا ترى بينها وبين الملاكمة فرقاً ظاهراً. فليس الظافر من جاء بالحجة الظاهرة والدليل القاهر، ولكن الظافر من كان أكثر كلاماً، وأطول لسناً، وأدنى إلى التعريض والتسميع بخصمه وأقدر على النيل منه، ومن كان في الجدال؛ بل إن كثيراً، من القراء يرون الظافر من كان صاحب الكلمة الأخيرة، أي أنهم يقرءون لهذا فيميلون معه، ثم يقرءون لذلك فيميلون إليه حتى يسكت أحد الخصمين فيحكموا عليه. أما الموازنة بين الحجج
والمفاضلة بين الدلائل، والحكم حكم المنصف العادل والناقد البصير، فشيء لا يكاد ينصرف إليه أحد. ثم إن القراء لا يعجبون بأحد ما يعجبون بكاتب يدافع وحده ويقابل جماعة من الناس، ولو كان مبطلاً يقول الواحد نصف الثلاثة، ولو كانوا محقين يقولون الواحد ثلثها، ولو كان مغالطاً وكانوا أصحاب الدليل، ولو كان ضعيفاً في نفسه، وكان كل واحد منهم أقوى منه؛ والقراء بعد ذلك يريدون من المناظر أن يجيب كل قائل، ولو لم يفرق بين كلمة العقيدة مثلاً تراجع اللسان، وبين العقيدة ذاتها تدرس في كتاب الآراء والمعتقدات، ويحسبون من العجز أن يعرض المرء عن بعض القائلين ولو نالوا منه ولا يجدهم للجواب أهلاً. هذا إذا لم يكن القارئ صاحب هوى يميل حيث يميل به الهوى، ويستقر حيث تطرحه صداقة أو عداوة، فلا يفيد مما يقال شيئاً. . . . . . فأي فائدة للمناظرة مع هذه الآفات؟ (دمشق) (ع. . .)
