الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 996الرجوع إلى "الرسالة"

من أثار السيدة زبيدة

Share

قال محمد بن علي العبدي للخليفة القاهر وقد سأله يوما أن  يحدثه عن السيدة زبيدة: كان من فعل زبيدة وحسن سيرتها  في الجد والهزل ما بارزت فيه على غيرها.

فأما الجد والآثار الجميلة التي لها في المملكة فهي حفرها  العين المنسوبة أليها في الحجاز. وتمهدها الطريق لمائها في كل  خفض ورفع وسهل ووعر من مسافة أثنى عشر ميلا، حتى  بلغت بها مكة. وأنفقت عليها ألف ألف وسبعمائة ألف دينار  ولها كثير من أمثال هذا العمل العمراني.

هذا في الجد. وأما في الأمور التي تتباها بها الملوك في  أعمالهم، وينعمون بها في أيامهم، وتزين بها سيرهم وأخبارهم.  فهو أنها:

أول من أتخذ الآلة   (أي أدوات البيت وأمتعته)  من  الذهب والفضة المكلة بالجوهر. وصنع لها الصناع الرفيع من  الوشى حتى كلف الثوب نحو خمسين ألف دينار.

وهي أول من أخذ (الشاكلية(1)) من الخدم والجواري  يركبون الدواب ويغدون ويرحون برسائلها وحوائجها

وأول من أتخذ القباب على الهوادج من فضة وآبنوس  وهندل، لها كلايب من الذهب والفضة، وهي ملبسة بالوشى  والسمور والديباج وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر  والأزرق. واتخذت النعال المرصع بالجوهر. واصطنعت  الشمع من العنبر. وقلدها أغنياء الناس في ذلك جميعا.

ولما أفضت الخلافة إلى أبنها (الأمين) قدم الخدم وآثارهم

ورفع منازلهم ككوثر وغيره من خدمه، فلما رأت أمه شغفه  بهؤلاء الغلمان المماليك اتخذت الجواري الحسنان المقودات (2) وعممت رؤسهن، وجعلت لهن الطرز والأصداغ (3) والاقفية    (لعلة يعنى الشعور تجمع على القفى بشكل خاص مؤنق)  وألبستهن  الأقبية والقراطق والمناطق  (وهي من ألبسة شباب الجند  وغلمان العسكر)  وأرسلتهن وهن بهذا الزي إلى أبنها  (الأمين)    فراقت شكلهن. وأبرزهن في مجلسه أمام الخاصة والعامة وشاع  أمر هذا الزي في الناس فجعلوا يتخذون الجواري المطمومات    (أي المقصوصات الشعور من طم الشعر إذا جزة أو عقصة) ويلبسونهن ملابس الغلمان: من أقبية ومناطق وسموهن      (الغلاميات)  .

وقد اكثر وراء ذلك الزمن من وصف هؤلاء الغلاميات  وفي طليعتهم أبو نؤاس

ويظهر أن اتخاذ هؤلاء الجواري الزي المذكور لم يكن  بواسطة اللبوس من الثياب وطم الشعر فقط بل يتعدى إلى تصفيف  الشعر كما يفعل الغلمان والى تخطيط شوارب من المسك والغالية  والعبير على الشفة العليا تقليدا للشوارب الطبيعة. وقد أشار  إلى ذلك أبو نؤاس بقوله:

حور طلعن مؤنثا ... ت الدل في زي الذكور

أصداغهن معقربا ... ت والشوارب من عبير

والعبير أخلاط من طيب تداف بالزعفران، فالجارية كانت  تلبس لبوس الغلام وتخط على مواضع الشوارب خطا من العبير  وفي لونه شقرة فيبدو كشارب الغلام أو ل ما يبدو وهو بعد  أشقر أو أصفر، أما مواضع الصدغ من الجارية فلا يكون عليه  شعر السالف مسترسلا أو سبلا كسوالف الجواري وإنما هن  يقصصن ذلك الشعر ويلونه على شكل العقرب، أو لعلهن يكوين  شعر الصدغ كما تكوى الشعور اليوم بحدائد خاصة فالغلمان

كانوا يومئذ يتخذون من شعر أصداغهن كهيئة العقرب.  والجواري المتشبهات بهم كن يفعلن ذلك، فإذا نظرت لوجه  الواحدة منهن أول ما يقع نظرك على أصداغ غلام وشوارب غلام  ومن هنا كثر في لغة الغزل قول الشعراء معقرب الصدغ وعقرب  الأصداغ ولا يكون ذلك على ما يظهر في الغزل بالغلمان الذين لهم  على أصداغهم شعر ملوي ومثني على نفسه بحيث يمثل للرأي  عقرب أسود يلسع. أما الجواري فليس لعن عقارب أصداغ،  وإنما لهن أفاعي وحيات من ذوائبهن تتلوى على ظهورهن.

فلما سمع القاهر منى هذا الوصف تهلل ونادى بأعلى صوته  اسقني يا غلام على وصف (الغلاميات) فبادر إليه جوار قدهن  واحد توهمتهن غلمانا بالقراطق والأقبية: والطرز والأفقية  ومناطق الذهب والفضة فأخذ الكأس بيده وجعلت أتأمل  صفاء جوهر الكأس ولآلاء ما فيه، وحسن أولئك الجواري  الغلاميات، ولمعان الحربة التي بجانبه. ثم التفت القاهر

إلي وقال: قد سمعت كلامك وكأني مشاهد للقوم حسبما وصفت وسرني  ما ذكرت وفصلت

ثم أمر لي بجائزة أخذتها على الفور وانصرفت هذا ما رواه عن (محمد بن علي العبدي)  المتخصص في علم  الملوك كما شهد له بذلك المؤرخ المسعودي، وقد علمنا من مسامرته  للخليفة (القاهر وما أفاض به من وصف (الغلاميات)   واسترساله في هذا الوصف إجابة لرغبته الملحة علمنا منه أن هذا  الخليفة لم يكن على ما يحبه له منصب الخلافة من عفة وصلاح  وحسن سمت ووقار، اللهم ألا إذا كان هذا من قبيل الدعاية التي  أذن بها المأمون، فقد روى أن بعض جلسائه سأله:

هل تأذن لنا يا أمير المؤمنين بالداعية، فأجاب: وهل يطيب العيش ألا بها؟

الشابان أن ينتشلا وطنهما من تلك الحماة ويطهرا سمعة الأمة  الإنجليزية من جريمة الرق المنكرة.. وقد كانت تجارة الرقيق  في ذلك العهد قائمة على قدم وساق، فقد حدث أحد السائحين انه  رأى زنجيين يصيدان السمك في داهومى(1) وقد ملآ منه  أسفاط عدة؛ فسمعا واقع أقدام خيل مقبلة فتركا ما صاداه وفرا  هاربين من تجارة الرقيق الأوربيين، ولكن التجار أدركوهما  وسلكوهما مع من معهم من الرقيق.

وقد بر الشبان بوعدهما. ونشر رأيهما في بلادهما،  فصادف نفوسا تكره الظلم، ولم يمض قليل حتى هبت الأمة  الإنجليزية كلها تنادي بالقضاء على هذه التجارة الخاسرة، وكانت  إنجلترا أسبق الأمم إلى هذه الدعوة الكريمة، ولم يكتف  الشعب الإنجليزي بذلك بل جاد أبناؤه بأموال طائلة لشراء وطن  في غرب أفريقية للعبيد المعتقين ثم تبعتها الأمم الأخرى في ذلك

لم أكد أفرغ من قراءة هذه الفقرات من الدرس حتى  رأيت التعب قد طار عن وجوه التلاميذ كما يطير النعاس عن  عين المذعور، وأحسست أن أعصاب التلاميذ المتهدجة من  الإرهاق قد شدت من فورة الحماس وأنهم قد صبت فيهم قوة  الأسد المتأهب للوثوب، وأخذت أقرأ في وجوه التلاميذ وعيونهم  الارتياب في صحة ما ينطوي عليه هذا الكلام، وأخذوا يمطرونني  بوابل من الأسئلة؛ فمن سائل يقول:

إذا كانت إنجلترا حقا هي أول من نادي بإبطال تجارة  الرقيق فلماذا هذا الاستعمار المسعف؟ وهل هناك فرق بين  الاستعمار والرق في نظر إنجلترا؟

وتطوع تلميذ بالإجابة عن هذا السؤال قائلا: أن الاستعمار  ابشع أشنع من الرق لأن الرق استرقاق أفراد ولكن الاستعمار  استرقاق شعوب، وقد يعتمد الرقيق على سيدة في مالكه وملبسه  ومطالب عيشه ولكن الاستعمار يستحوذ على أقوات الشعوب  وكسائها بل يمتص دماءها. . والرقيق يشترى بثمن ولكن

الاستعمار ليس كذلك. ٠ ولكن كان محرجا حقا ذلك السؤال  الآتي:

كيف يشتري الإنجليز وطنا في غرب إفريقية للعبيد  المعتقلين وهم اليوم يغتصبون الأوطان من الأحرار المسودين بل  وقبل اليوم بعشرات السنين؟

وما أن انتهى التلميذ من إلقاء هذا السؤال حتى رمقته بنظرة  الإعجاب ونظر التلاميذ إلى ينظرون الإجابة وعلى شفتهم ابتسامة  خبيثة، وكأنهم فهموا أن المدرس يجب عليه أن يجيب عن كل  سؤال حتى ولو كان السؤال لا يستطيع أن يجيب عنه البرلمان  الإنجليزي ولا إيدن ولا تشرشل. . . وشاءت المصادفات أن  تمر في شارع المدرسة هذه الساعة دبابتان إنجليزيتان فتفزع  الشارع بصوتهما الأجش الغليظ فينسى التلاميذ الإلحاح في طلب  الإجابة، والقيت على الدبابتين نظرة من نافذة الفصل فوجدتهما  تهرولان وفيهما المدافع والجنود؛ وقد رآهما الأطفال الذين كانوا  يلعبون بجمع الحصى من الصحراء المشرفة عليها المدرسة فتسللوا  إلى الحارات والبيوت هاربين؛ فحضرت في ذهني صورة الصيادين  اللذين جمعا السمك في أسفاط عدة فلما رأيا تجار الرقيق تركا  الصيد ووليا هاربين؛ فتبينت في ذلك شبها بين الاسترقاق  والاستعمار، وعدت ببصري إلى الفصل فإذا هو يكاد يتميز من  الغيظ، فقد كان أبناء الإسماعيلية الذين ذاقوا ماذا قوا، فقالت  في هدوء ورزانة المدرس التي يطنعها أحيانا: لعل الله يبعث  في إنجلترا شابين آخرين ترتفع صيحتهما للقضاء على الاستعمار  وخنق أنفاس الشعوب

ودق الجرس وأنصرف التلاميذ وأنا أسأل نفسي من هذه  الضجة التي أثارها هذا الدرس وقد درسته في العام السابق فمر  في هدوء وسلام. . ولقد تمنيت لو سمع كله ذلك الدرس  الصاخب فقد كان درسا حقا.

اشترك في نشرتنا البريدية