الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 143الرجوع إلى "الثقافة"

من أحاديث المخابئ

Share

- ٢ -

التفاؤل والتشاؤم خلتان فى النفس ، تذكيهما الحوادث وتضع صاحبهما فى موضعه منهما قوة وضعفا ؛ وإذا جارينا علماء النفس الوضعيين رجعنا بسببهما إلى فساد الأخلاط واعتدال الأمزجة اللذين ينشأ عنهما غلظ الحس أو دقته . ولا تظن هذا تفسيرا مطلقا ، فكم من غليظ الشعور فى الحياة تنخلع مهجته هلعا لدى بادرة خطر طفيف ، فلا يرى إلا شرا آتيا  وغيره من ذوى الاحساس المرهف تشتد نفسه ويشجع فؤاده لدى واقعة عارمة ، ولا يرى إلا خيرا آتيا .

وقديما قالوا إن الأزمات تشخذ العزمات ؛ ولعل هذا المثل لا يصدق إلا عن المتفائلين ، لأنه بينما يرى المتشائم الدنيا بمنظاره الأسود ويعبس لها عبوس القنوط ، يراها المتفائل بمنظاره الأزرق ، ويبسم لها ابتسام الأمل .

ولقد كانت الحروب الماضية تبعث على التشاؤم أو التفاؤل للمحاربين فقط ، فيشعر هذا أو ذاك بأن النصر أو الهزيمة لهؤلاء أو أولئك . أما هذه الحرب الضروس التى تكتوى الانسانية بنارها اليوم فميادينها متنوعة ، وكل بلد قريب من مطار معاد يعد جبهة حربية نسبيا . وكل حى من الطفل فى مهده إلى الشيخ على عتبة لحده يعد محاربا نسبيا .

وقد أعدت كل البلاد مخابئ وملاجئ للناس يأمنون فيها شر العاديات المقذوفة من السماء . وأنفقت الحكومات المبالغ الطائلة لحماية الأهلين ، وتركت على ذوى اليسار حماية أنفسهم ومن يعولون .

وتعد الاسكندرية فى مقدمة المدن التى أنشئت فيها المخابئ، لأنها أقرب هدف تهيل عليه الطائرات مقذوفاتها ،

وقد أصبحت هذه المخابئ اليوم دريئة يفزع إليها المرء بعمره ، ومجنا يتقى الأقدار بظهره ، بل هى مباءة الغنى والفقير ، وملاذ الكبير والصغير ، ومعتصم القوى والضعيف ، وكن المطمئن ومستقد اللهيف ؛ وما دام هذا خطرها وتلك أهميتها وجبت لها عناية خاصة حتى فى الكلام عليها .

وإذا نظرنا إليها نظرة سريعة أمكننا أن نقسمها إلى عمومية وخصوصية : فالأولى هى التى أنشأتها الحكومة للجماهير ، والثانية هى التى أنشأها الناس لأنفسهم ؛ ولكن هذا التقسيم لا يجلو حقيقتها ، ولا يدل على خصائصها . وأحسن منه تقسيمها إلى أنواع ثلاثة نهتدى إليها بمواقعها , هى :

علوية ترتفع عن سطح الأرض . وأرضية تقوم على سطح الأرض . وسفلية تغور تحت سطح الأرض . أما المخابئ العلوية فهى منازل الطبقات الأولى فى العمارات الحديثة ، أخليت من سكانها وتركت لسكان الطبقات العليا يهبطون إليها كلما أطلقت صفارة الانذار بالخطر . فهى إذا بيوت خالية قائمة فوق البيوت الأرضية ، يزعم أصحاب الملك ممن لا حياء ولا ذمة لهم أنها مخابئ .. فيستهينون بأرواح عباد الله المستأجرين الذين لا يملكون الرحيل عن بيوت ألفوها ، ولا يعرفون إلى أين يذهبون ، وتسكت الحكومة عن ملاكها كأنما هم لم يأتوا أمرا إدا .

وأما المخابئ الأرضية فهى المخازن القديمة وحظائر السيارات ( جاراجات ) والطبقات الأرضية من العمارات ، وتراهم قد دعموا سقوفها بأعمدة من الخشب الغليظ تقوى على حمل ما ينهار من الطبقات العليا إذا تهدمت العمارة على رءوس سكانها . وقد تأنق الكثيرون من أصحاب الملك فى إنشاء هذه المخابئ ، فبنوا أبوابها بالطوب ، وحرصوا على

أن يكون لها مخرجان ، وكدسوا أكياس الرمل حول منافذها المنخفضة ، ومتنوا جدرانها بالأسمنت المسلح ، ورفعوا فى وسطها الأخشاب الغليظة ، أو أعمدة من الطوب مبنية سوارى أو عقودا .

وأما المخابئ السفلية فمنها العادية وفوق العادية . فالعادية هى أقبية البيوت القديمة أو مستودعات البيوت الحديثة سدت نوافذها ودعمت سقوفها على غرار المخابئ الأرضية . ومنها المخابئ الحكومية التى أنشئت فى الميادين العامة والأراضى الفضاء حيث حفرت فى الأرض أخاديد متعرجة أثبتت جدرانها بالطوب ، ومدت عليها سقوف رقيقة من الأسمنت وتركت بين السقوف والجدران نوافذ ضيقة يتنفس منها المختبئون .

أما المخابئ السفلية فوق العادية ، فهذه هى النفائس والروائع التى يتحسر كل سامع بها أن له مثيلا لها . وهى التى أنشأها كبار القوم وأغنياؤهم الذين يساوى اليوم الواحد من عمرهم سنوات وسنوات من أعمار غيرهم ، فاحتفروها فى الحدائق الملحقة بقصورهم وأنفقوا ألوف الجنيهات على رصف أرضها وتغليظ جدرانها وتسميك سقوفها بالأسمنت النقى والحديد القوى والرمل الناعم طبقات وطبقات . ثم تأنقوا فى فرشها وتنسيقها وتكييف هوائها وإنارتها ، وشحنوا فيها ألوان الطعوم والمشروب والمشموم . وأصناف الأدوية والسعفات الطبية والجراحية . وغالوا فى عمقها عن سطح الأرض دركات بعيدة الغور ، حتى لا تصل إليها " الاصابة المباشرة " . و كلما ذهبت ثروة صاحبها صعدا فى عالم المال ، ذهب مخبؤه صببا فى عالم المخابئ ، كأنما يرى هذا الفانى أن الحرب خالدة ، وأنه يبنى للأجيال المقبلة .

ولقد نزلت أربع عشرة درجة إلى أحد هذه المخابئ فعيل صبرى ، ورأيت أن أكون على سطح الأرض تحت الخطر أسمع وأري أفضل من أن أكون قابعا كالأرنب فى هذا الحفير السحيق .

تلكم المخابئ وأقسامها الصحيحة . أما اللاجئون إليها ففريقان : متشائم ومتفائل .

يظل الأول ساهر الطرف يتوقع الغارة ويسأل عنها ، كأنما أعطى المسئولون علم الغيب . فاذا وقعت هرع إلى المخبأ ولبث فيه مضطربا ، يتبرم بكل من حوله ، ويزفر طويلا ، ويمشى جيئة وذهوبا قلقا حذرا ، يدعو إلى الصمت والسكينة ، وإلى إطفاء كل مصباح يدوى ، ويتأفف من كل حركة أو بادرة أو نكتة أو حديث ، ويقعد لاهثا متنصتا ؛ وفى هذا كله تقوم قيامته وتسرى منه عدوى الخوف إلى الكثيرين .

ويظل الثانى سادرا مستهترا ، يتلكأ فى ذهابه إلى المخبأ ، وينير مصباحه اليدوى ، ويشعل على باب المخبأ لفافة التبغ ، ويضحك ضحكا عاليا ، ويتحدث إلى كل سامع ، ولا يصغى إلى من يدعوه إلى الصمت والسكينة . وقد يسخر من الخائفين ، ويستخف بالهادئين ، ويعلن فى زهو وكبرياء أن الحذر لا يدفع القدر ، وأن القنبلة إما أن تقع على رأسه فتخمد أنفاسه لساعته ، وإما أن تقع بعيدا فلا خطر عليه ، لذلك هو لا يهتم كثيرا لما يجرى حوله .

والناس - رجالا كانوا أو نساء - منهم من يغالى فى تشاؤمه ومنهم من يغالى فى تفاؤله ، ومنهم من يسلك سبيلا وسطا بين هذين ، وقد تختلف السبيل بالبعد أو بالقرب منهما . وقد تفعل الحوادث فعلها فى النفوس ، فاذا وقعت واقعة لمن كان أميل إلى التشاؤم زادت فى تشاؤمه ، وإذا لم تقع واقعة لمن كان أميل إلى التفاؤل زاد ذلك فى تفاؤله .

قال لى أحدهم : أعرفت كيف مات فلان ؟ . . . إنه أطل من النافذة لينظر إلى الطائرات فوقعت شظية على أم رأسه أسالت مخه على وجهه . . . وفلان تلكأ فى الهبوط إلى المخبأ فأنهار به السلم الداخلى فاختنق تحت الهدم . . . وفلان ضغطه دفع الهواء فمات لاصقا بالجدار ... وازدحم

أحد المخابئ بالناس فمات الكثيرون اختناقا ...

وقال لى غيره : إن فى الاسكندرية مائة ألف بيت على وجه التقريب. وإنى أسكن واحدا من هذا العدد العديد . والمسألة إنما هى مسألة حظ وقسمة . فقد سلف لى أن اشتريت كثيرا من أوراق النصيب فما ربحت قط الورقة الأولى . ومن تختار القنبلة بيته لتسقط عليه يكون بمفهوم المخالفة كمن يربح الورقة الأولى ، فلماذا يجرى لى فى هذه ما لم يجر لى فى تلك ؟

والواقع أن أعقل الناس من تدبر أمر نفسه واحتاط لها وتوكل على الله .

اشترك في نشرتنا البريدية