الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 312الرجوع إلى "الثقافة"

من أخلاق الرسول

Share

كان عنده عليه السلام ، لكل مقام مقال . فهو إن كان في بيته الين الناس عريكة ، فلقد كان في تبليغ رسالته اقواهم شكيمة . وكان في سلوكه مع الرجل الضعيف والطفل اليتيم يكاد يذوب رقة وحنانا يستحي من الكلمة السائرة ، والإشارة العابرة ، فيحمر وجهه خجلا .

وتدمع عيناه تاثرا ، ثم هو في مجالدة المشركين ، ودعوتهم إلي الحق أصلب الناس عودا ، وأقواهم نفسا ، وأصبرهم على الآذي ، وأجرأهم على اقتحام المكاره

يروي عنه صلى الله عليه وسلم ، ان أعرابيا ادركه  وهو في الطريق فأخذ بردائه فجذبه جذبة شديدة حتى بدت صفحة عنقه ، وقد اثرت فيه حاشية الرداء ، ثم قال : يا محمد ! مر لي من مال الله الذي عندك ! فالتفت نحوه النبي صلى الله عليه وسلم وضحك . وأمر له بعطاء . فلو أن احسن الناس اليوم جذب شرطيا من كم سترته يسأله عن الطريق لما سلم من يده ولسانه :

وجلس عليه السلام بعد غزوة من غزواته يقسم بين الناس ما صار إليه من الاسلاب والغنائم ، فصاح انصاري في وجهه : إنها لعطايا ما يراد بها وجه الله ! فتغير لونه صلى الله عليه وسلم ، وتوقف برهة ثم لم يزد على أن قال : رحم الله اخي موسي ! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر

ومن رقة قلبه عليه السلام أنه بعد أن استشهد جعفر ابن  أبي طالب في " يوم مؤتة " دخل على زوجته اسماء بنت عميس فقال : يا اسماء اين بنو جعفر ؟ فجاءت بهم إليه فضمهم إليه وشمهم ثم ذرفت عيناه فبكي . فقالت :

أي رسول الله ! لعله بلغك عن جعفر شئ ؟ فقال : نعم قتل اليوم ! فقامت تصيح ، واجتمع إليها النساء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا أسماء !

لا تقول هجرا ، ولا تضربي صدرا ! . . ألا أبشرك ؟ قالت : بل ! قال : فإن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الحنة ! قالت : بأتي انت وامي يا رسول الله ، فأعلم الناس ذلك فقام واخذ بيد عبد الله بن جعفر يمسح رأسه بيديه ، حتى رقي المنبر واجلس عبد الله امامه على الدرجة السفلى ، والحزن يعرف عليه ، وتكلم في الناس بما كان ،

وأعلن استشهاد جعفر ودخوله الجنة . ثم نزل ودخل بيته ؟ وهو يقول : واعماه  على مثل جعفر فلتبك الباكية ! ثم قال : اصنعوا لآل جعفر طعاما ، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم . وأرسل إلي أخي عبد الله ابن جعفر فتغديا عنده ؛ واقاما ثلاثة أيام في بيته ، يدوران معه في بيوت نسائه .

وكان عليه السلام سمحا كريما يستميل الناس بالعفو ، ويدرأ الحدود بالشبهات ، ويخفف على الناس ما استطاع في امور دينهم .

حدث بعد غزورة " بني المصطلق " ان اجتمع رجلان أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار فوق ماء ) بالمريسيع ( ، فالتبس دلواهما وتنازعا عليهما . فقال : عبد الله ابن أبي قولا جارحا في حق المهاجرين . ومن كلامه في ذلك قوله : والله ما رايت كاليوم مذلة ، لقد نافرونا وكاثرونا في بلدنا ، وانكروا منتنا . والله ما صرنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل : سمن كلبك                                             يأكلك

وكان زيد بن أرقم حاضرا - وهو غلام في سن البلوغ - فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وعنده نفر من المهاجرين والانصار . فتغير وجهه ثم قال : ياغلام ! لعلك غضبت عليه ؟ قال : لا والله لقد سمعت منه - قال : لعله أخطأ سمعك ؟ قال : لا يا نبي الله .

قال : فلعله شبه عليك ؟ قال : لا والله . لقد سمعت منه يا رسول الله ! وشاع في العسكر ما قال ابن أبي حتى ما كان للناس حديث إلا هو وقام رسول الله فأوي إلي ظل شجرة ؛ وأقبل عليه عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ! إنذن لي أن أضرب عنق ابن أبي في مقالته . فقال : لا يتحدث الناس أن محمدا قتل أصحابه

ومن أخباره أيضا أن أسامة بن زيد كان يشترك في قتال جماعة من الكفار ، فمر برجل منهم يقال له ابن مرداس . فلما دنا منه ، قال الرجل : لا إله إلا الله ! فقتله أسامة .

فلامه أصحابه وقالوا له : بئس والله ما فعلت ! ! وبلغ الخبر رسول الله فقال : قتلته يا أسامة وقد قال لا إله إلا الله ؟ ! فجعل يقول : إنما قالها تعوذا من القتل ! فقال : افلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب ؟ !

ويروي عنه صلى الله عليه وسلم بعد أن فتح الطائف أنه سار إلي الجعرانة ، فبينا هو يسير - وأبو رهم الغفاري إلي جنبه علي ناقة له وفي رجليه نعلان غليظتان - إذ زعمت ناقته ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فوقع حرف نعله على ساق رسول الله فأوجمه ، فقال : أوجعتني ! اخر رجلك ! وقرع رجل بالسوط . . قال أبو رهم : فأخذني ما تقدم من امري وما تأخر وخشيت ان ينزل في قرآن لعظيم ما صنعت . فلما اصبحنا بالجعرانه خرجت أرعي الظهر - وما هو يومي - فرقا أن يأتي النبى عليه السلام رسول يطلبني . فلما روحت الركاب سألت ، فقالوا : طلبك النبي صلى الله عليه وسلم . فقلت :

إحداهن والله ؟ - ) يعني إحدي الدواهي التي كان يتوقعها ( - فجئته وأنا أترقب . فقال : إنك أوجعتني برجلك فقرعتك بالسوط . فخذ هذه الغنم عوضا من

ضربي قال أبو رهم : فرضاه عني كان احب إلي من الدنيا وما فيها !

ومن نوادر عمرو بن العاص معه صلى الله عليه وسلم انه كان يقاتل جماعة خارج المدينة في غزوة " ذات السلاسل " وكان الرسول قد عقد لواء هذه الحملة له وكان الوقت وقت شتاء وبرد شديد فقام عمرو ذات ليلة وأصبح على حال توجب عليه الغسل ؛ وكان هو الذي يؤم الناس في الصلاة .

واشفق على نفسه من شدة البرد ، فجمع اصحابه وقال لهم : ما ترون ؟ قد والله احتلمت . وإن اغتسلت مت ثم دعا بماء فتوضأ ، وغسل نفسه ، وتيممم ثم قام فصلى بهم

وبلغ رسول الله ان عمرا صلى وهو جنب ومعه ماء ؟ لم يزد على أن تيمم فلما قدم عمرو وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاته ، قال : والذي بعث بالحق لو اغتسلت لمت ولم أجد قط بردا مثله ، وقد قال الله : " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما . فضحك صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا .

ولما أشار سلمان الفارسي علي المسلمين بحفر الخندق حول المدينة قبل غزوة الاحزاب كان النبي صلى الله عليه وسلم في مقدمة من يضرب الاحجار بالمعول من رجاله ،

ويحمل التراب في المكاتل على ظهره ، وظل على هذه الحال ستة ايام كان يبلغ منه التعب فيها مبلغا يجعله يلقي جسمه فوق الاحجار يلتمس لجنبيه فوق رؤوسها شيئا من الراحة ؛ ومع ذلك فإنه هو من تروي عنه الاحاديث انه كان رخص الكف لينها ، لا يمس يده إنسان إلا وجد ريحها في يده طول يومه

وكانت عائشة رضي الله عنها على عادتها في مواساة النبي وتخفيف اعباء العمل عنه . ولعل صورة من ابدع

الصور التي تمثل حياته في بيته وفي عمله تلك التي وقعت أيام غزوة الخندق هذه . إذ كان عليه السلام يختلف إلي ثلمة فيه يقوم بشخصه على حراستها اثناء الليل وكان القر شيدا ، فاذا آزاه البرد دخل فيه فأرفأته عائشة رضي عنها في حضنها ، حتى إذا دفيء واستجم خرج إلي الثلمة يحرسها وهو يقول : ما أخشى على الناس إلا منها !

وعلى ذكر السيدة عائشة وما كان يلقاه الرسول في جوارها من انس ومودة ورحمة ، لا يستطيع الإنسان ان يمر بهذه الصلة الزوجية المكينة دون ان يلمح في اخبارها تلك الصورة الأخرى التي نري ان نسوقها هنا تبصرة لأزواج هذا الزمان ، فإن فيها العظة أكبر العظة لن يلقى أحيانا من بيته ما لم يكن يرجوه  ، فيضيق بهذا الأمر ، وإنه ليحدث بين الزوج وزوجه في كل زمان ومكان ، حتى ولو كان الزوج هو رسول الله ولو كانت الزوجة هي عائشة أم المؤمنين

حدث يوما بين هذين الزوجين الكريمين كلام فسأل النبي زوجته : من ترضين ان يكون بيني وبينك أترضين بأبي عبيدة بن الجراح ؟ قالت : لا ! رجل هين لين يقضي لك . . قال : أترضين بأبيك ؟ قالت : نعم ! فلما جاء أبو بكر قال رسول الله : اقصصي قالت : بل اقصص أنت ! فأخذ رسول الله في إعادة ما جرى بينهما من كلام وفيما هو يروي قصته قاطعته عائشة بقولها : اقصد ! ) أي التزم القصد ولا تزد في الرواية ( . فرفع أبو بكر يده فلطمها وانتهرها مغضبا تقولين بابنت أم رومان اقصد ؟ ! من يقصد إذ لم يقصد رسول الله ؟ !

وجعل الدم يسيل من أنفها . ورسول الله يحجز بينهما ويقول لصديقه : ) إنا لم نرد هذا ! حتى هدأ الوالد وأذن له رسول الله أن ينصرف . فلما انصرف التفت إلي عائشة باسما وهو يقول : أرأيت كيف أنقذتك منه !

تلك كانت عائشة في بيت النبي ، وفي حياتهما الخاصة ، تحمله حينا ويحملها حينا . أما إذا جد الجد في شئون المسلمين وأرادت عائشة - كما قد تريد بعض العائشات أن تكون لها كلمة أو يؤخذ لها برأي فإن الرسول عليه السلام لم يكن يستمع في ذلك إلا لوحي نفسه . فقد حدث لما اشتد المرض بالنبي صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه أن دخل عليه مؤذنه بلال . فقال عليه السلام : مروا ابا بكر فليصل بالناس . فقالت عائشة : يا رسول الله ! إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر ؟ فقال عليه السلام مرة اخري : مروا أبا بكر فليصل بالناس . فعادت عائشة تقول لحفصة - ابنة عمر وزوج النبي قول له إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متي يقم مقامك لا يسمع الناس . فلو امرت عمرا ! فأعادت حفصة ما قالته عائشة - وضجر النبي من هذه المراجعة ؛ فقال : إنكن أنتن صواحب يوسف ثم قال لثالث مرة : مروا أبا بكر فليصل بالناس :

كانت عائشة رضي الله عنها تنظر في ذلك إلي نفسها وإلي أبيها ؛ وكان الرسول ينظر إلي صالح المسلمين ومستقبل الإسلام ، فوجب ان يمد يده بهذه الشدة إلي احب الناس إليه لينحيها عن طريقه

وحادث اخر من هذا النوع وقع ايضا في ذلك البيت الكريم . فقد وقع المغيرة بن معاوية اسيرا في يد المسلمين ، ولكنه تمكن من الإفلات وهرب إلي مكة . وبعد قليل ظفر جماعة من المسلمين مرة اخرى فاستردوه وعادوا به إلي المدينة أسيرا في أيديهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة : احتفظي عليك بهذا الأسير . وخرج

فلهت عائشة مع امرأة بالحديث فتسلل المغيرة هاربا وما شعرت به ثم عاد النبي فلم يره ، وسألها فقالت : غفلت عنه وكان هاهنا ! فقال : قطع الله يدك ! وخرج مغضبا ، فصاح

بالناس فقاموا في طلبه حتى أدركوه واتوا به . فدخل النبي على عائشة وهي تقلب يدها فقال : مالك ؟ - قالت : انظر كيف تقطع يدي ! قد دعوت على بدعوتك ! - فاستقبل صلى الله عليه وسلم القبلة ورفع يديه ثم قال : اللهم إنما أنا بشر اغضب وأسف كما يغضب البشر ، فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه بدعوة فاجعلها له رحمة

هذا طرف من أخلاق النبي لم يعتد الناس سماع مثله كثيرا ، أحببنا ان نسوقه حتى لا يفوتنا شئ من جوانب العظمة المحمدية في كل صورها وأوضاعها . ولله در عائشة إذ سئلت يوما عن أخلاق النبي الكريم فأجابت قائلة :

خلقه القرآن . يحزن لسانه إلا فيما يعنيه . يتفقد اصحابه . ويحسن الحسن ويقويه ، ويقبح القبح ويوهيه . ويجلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ، ويعطي كل جلسائه نصيبه . ولا يحسب أحد من جلسائه ان احدا أكرم عليه منه . ومن حالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف . ومن سأله حاجة لم ينصرف إلا بها او بميسور من القول . مجلسه مجلس علم وحياء وصدق وامانة ،

لا ترفع فيه الأصوات ، ولا تنتهك فيه الحرمات . وكان دائم البشر في جلساته ، سهل الخلق ، لين الجانب ، لا يذم أحدا ولا يطلب عوراته . وكان ابر الناس وأكرم الناس ،

ضحاكا بساما - صلى الله عليه وسلم

اشترك في نشرتنا البريدية