الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

من اقوم سبل، خواطر حول اختيار منهاج للنمو الاقتصادي

Share

جدير بالفات النظر ان يكون اكثر الملاحظين الذين تناولوا البحث عن اصل مشاكل البلاد المتخلفة اقتصاديا وعن أحسن الحلول لمعالجتها قد عمدوا الى بسط نظريتين على جانب واسع من التناقض بينهما : اولاهما ان اهم ظواهر التخلف الاقتصادي في تلك البلاد هى انحطاط مستوى عيش السكان انحطاطا يحتم على ساسة اقتصادها ان يختاروا رفع هذا المستوى هدفا دون كل هدف سواه . ثانيهما ان بلوغ مثل هذا الهدف انما يشترط فيه تحقيق نمو اقتصادي سريع يتنافى مع مراعاة الاعتبارات التى من شأنها تعطيلها بما فيها الاعتبارات الاجتماعية والانسانية . فكأنما المشاكل الاجتماعية وهي الوازع للتفكير في تحقيق النمو الاقتصادي هي في الآن نفسه المانع من تحقيق هذا النمو . وفي هذه الملاحظة ما يبعث على اليأس من قدرة الاقتصاد والاقتصاديين على تحسين حال أحوج البلاد الى التحسين نريد البلاد التي بلغ مستوى العيش فيها من الانحطاط ما بلغ ولا يزال ينحط بتفاقم عدد السكان . لذا كان لزاما على من اراد التفكير في مشاكل تونس واراد ان لا يستسلم الى اليأس من علم الاقتصاد ولا من مستقبل هذه البلاد ان يجهد الفكر فى ابتكار منهاج اقتصادي يوفق بين الاعتبارات الاجتماعية الانسانية التى لا مناص من مراعاتها والنواميس الاقتصادية التي لا بد من قراءة حسابها . ولكي يكون التوفيق بين وجهتى النظر توفيقا مكينا كاملا تحتم اعتماد منهاج في البحث الاقتصادي من جهة والتصميم الاقتصادي من جهة اخرى تنسجم فيه الوسائل المتوخاة مع الاهداف الاجتماعية الانسانية المنشودة ، ولهذا التنسيق المحكم شروطه : أولها فهم مقتضيات الحالة الاجتماعية الانسانية وتحديد الاهداف التي يفرضها اعتبار هذه الحالة .

ثانيها " ترجمة " تلك الاهداف " ترجمة " اقتصادية محكمة ثالثها - وأخيرها - البحث عن وسائل وطرق تحقيق للهدف الاقتصادي الذي تم تحديده على هذا المنوال دون نسيان الهدف الانساني الذي نقل عنه الهدف الاقتصادى .

١ - مقتضيات الحالة الاجتماعية الانسانية : اطعامهم من جوع

ان في تحليل الحالة الاجتماعية الانسانية الراهنة المتمثلة في مستوى مدخول السكان ثم اعتبار انحطاط هذا المستوى حتى بالنسبة للمستوى الحيوي الادنى الذي يقتضيه البقاء على قيد الحياة ما يفرض على ضمير المصمم الاقتصادي بالشمال الافريقي الاهداف التي لا مناص له من تحقيقها . فالحالة الاجتماعية الانسانية تتلخص في عددين غنيين عن التعليق : فهذا عدد السكان ثلاثة ملايين وستمائة الف ساكن وهذه جملة المدخول الموزع على السكان فعلا مائة وواحد وستون مليارا اي ان معدل مدخول كل ساكن من سكان هذه البلاد خمسون الف فرنكا في السنة في حين ان معدل مدخول ساكن الولايات المتحدة مثلا مئتان وخمسون الفا !

الا ان هذا العدد لا معنى له فى حد ذاته اذ ليس هو سوى معدل نظري يخفى ما في الواقع من تفاوت بين مداخيل السكان فان احصاء مداخيل بعض طبقات المجتمع التونسي من كبار فلاحين ومديري معامل وكبار موظفين يبن لنا ان هذه الطبقات وعدد افرادها تسعمائة الف تتصرف في مدخول جملته مائة وتسع مليارات ومعنى ذلك ان معدل مدخولها السنوي مائة واثنان وعشرون الف وهو معدل لا يساوي نصف معدل مدخول الامركاني المتوسط ، نستنتج من ذلك ان بقية السكان وعددهم مليونان وسبعمائة الف لا يملكون اكثر من اثنين وخمسين مليار اي ان معدل مدخولهم لا يفوق الثمانية عشر الف فرنك في السنة . وثمانية عشر الف فرنك تمثل اقل من عشر مدخول الامركاني المتوسط وهو امر يلفت النظر الا انه اجدر منه بالملاحظة ما قد بينته الابحاث الطبية من جهة والابحاث الاجتماعية من جهة اخرى : ان سد رمق الجوع يستوجب من المواد الغذائية كميات سنوية ثمنها تسعة وعشرون الف فرنك على الاقل وبما ان للمرء حاجات اخرى غير الاكل لا بد له من سدها فان المدخول الادني الذي

الذي يمكن معه اجتناب الجوع يساوي ستة واربعين الف فرنكا فالقضاء على الجوع عند انجاز برنامج السنوات العشر وهو ادنى ما يمكن ان يرضاه الاقتصادي لبني وطنه يفترض منح كل ساكن من سكان البلاد مدخولا يساوي ٤٦٠٠0 ف على الاقل .

وبلوغ هدفنا المتواضع هذا :

١ ) يفرض اولا تحقيق هذا المدخول لسكان البلاد الذين لا يتمتعون بما يساويه مما يمثل باعتبار تزايد عدد السكان في السنين العشرة المقبلة مائة وستة واربعين مليارا . ( ١ ) ٢ ) لكن يفترض ايضا صيانة مستوى عيش السكان الذين يتمتعون بمداخيل ارفع من ذلك مما يمثل باعتبار تزايد عدد السكان ايضا مائة وعشرين مليارا . ( ٢ ) فجملة المداخيل التي لا بد من توزيعها بين السكان لبلوغ هدفنا هذا مائتان وستة وستون مليارا اي انه ينبغي تنمية هذه المداخيل في جملتها بنسبة ثلاث وستين في المائة .

٢ - الهدف الاقتصادى : الاقتصاد . . . كل المعيشة

لنترجم هذا الهدف وهو هدف اجتماعي قبل كل شيء ترجمة اقتصادية رأينا

ان نحاول سلوك منهاج المحاسبة الاقتصادية ( ١ ) التي تعتمد باحصاء اهم مظاهر الحياة الاقتصادية واهم الكميات ( كجملة المصاريف الوطنية مثلا والمدخول الوطني والمنتوج الوطني والانتاج ) وبيان علاقة بعضها ببعض .

وبما أن هدفنا الاجتماعي يقتضي توزيع مقدار اجمالي من المداخيل وأن لجملة المداخيل الموزعة صلة بالمدخول الوطني كما أن للمدخول الوطني صلة بالانقاج الوطني (٢) فانه يمكننا تقدير الانتاج المتماشي مع امكانية توزيع مثل

هذه المداخيل وذلك بان نتصور كامل صرح الاقتصاد الذي سيحصل عن بلوغ الهدف المنشود وان تقدر قيمة كل من مركباته مع اعتار التوازن بينها ( ١ )

فمن الممكن اذن تقدير الانتاج المتناسق مع تكوين المداخيل التي لامناص من توزيعها علي سكان البلاد ان اردنا ان نطعمهم من جوع ، وهذا الانتاج انما قيمته مائتان وحمسة وتسعون مليارا من الفرنكات في حين ان الانتاج الحاضر قيمته مائة وستون مليارا فمقدار الزيادة في الانتاج تسعون في المائة وهى نسبة جديرة بالملاحظة اذ انها تدل على ان تحسنا ما في الحالة الاجتماعية المتمثلة في ارتفاع مستوى العيش يشترط في تحقيقه القيام بمجهود انتاجي يفوق نسبة التحسين المنشود ناهيك ان زيادة تسعين في المائة في الانتاج لازمة لتحقيق زيادة ستين في المائة في مداخيل السكان وفي هذه المقارنة ما يبعث على التفكير الحثيث في اختيار انجع الطرق واسرعها لتجنيد كامل القوى العاملة بالبلاد في سبيل مضاعفة الانتاج التي يتوقف عليها فوز كامل المواطنين بالغذاء الكافي .

٣ - اختيار الوسائل والطرق : الصراط المستقيم

ان بلوغ الهدف الاقتصادي الذي حددناه لانفسنا يصير تحقيق الهدف الاجتماعي ممكنا غير انه لا يضمنه الا اذا ما عمدنا في الانجاز الى وسائل وطرق توفق بين تحقيق الهدف الاقتصادى ( انتاج قيمته ٢٩٥ مليارا ) والهدف الاجتماعي ( توزيع مداخيل قيمتها ٢٦٦ مليارا ) وقد يتم ذلك ان توخينا في

اختيار وسائل الانجاز المنهاج الذي اتبعناه لحد الآن منهاج الاستنباط العلمي ولم نتسرع في الحكم فننسى احدى وجهتي النظر لكثرة اهتمامنا بالاخرى ولعل اكثر ما يعيننا على ذلك ان نستوحي من نتائج المحاسبة الاقتصادية ما استطعنا من الارشادات عن عوامل التوازن او اختلاله في الوضع الحاضر بين مختلف انواع الانتاج وتقدير امكانيات تنمية كل منهما لنقيم بعد ذلك حساب التمويل اللازم لتحقيق مثل هذه الزيادة في الانتاج

فلقد قدرنا الانتاج الذي ينبغي تحقيقه ب ٢٩٥ ميارا من الفرنكات ونحن نعلم ان الانتاج الحالي وقيمته ١٦٥ مليارا موزع على الوجه الآتي الفلاحة     65 مليارا اي ٣٩ % الصناعة     46 مليارا اي ٢٨ %  التجارة ومامائلها  54 مليارا اي ٣٣ %  على انه لا ينبغي لنا ان نتصور ان النمو الاجمالي الذي نقصه سيماشي التوزيع الحالي بين مختلف ميادين النشاط الاقتصادي بل علينا ان نقرأ لمقتضيات الطبيعة من جهة وللتطور الاقتصادي من جهة اخرى حسابهما .

فلقد قدرت بعض الابحاث الفنية والاقتصادية ان الفلاحة التونسية مثلا لا يمكن لها ان يزيد في انتاجها اكثر من ٤٠ فى المائة ومقتضى ذلك ان لا نأمل من الانتاج الفلاحي عند انجاز البرنامج اكثر من ٩١ مليارا اي ٣٠ % . فحسب من الانتاج المرغوب تحقيقه .

اما التجارة فعدد القائمين بها الان يفوق ما يتطلبه انتاجنا الحالي ، لذا فلا يمكن ان نؤمل منها الا نموا دون نمو جملة الانتاج ( ٨٥ % مثلا عوض ال ٩٠ ) فيبلغ انتاجها عند انجاز البرنامج مائة مليار اي نسبة ٣١ %  فقط من الانتاج المرغوب تحقيقه . نرى بذلك ان اعتبارات طبيعية واقتصادية قد تحدد امكانية نمو الانتاج الفلاحي من جهة والتجاري من جهة اخرى فحتى لو بذلنا في سبيل انماء انتاج هذين الميدانين اقصى الممكن من المجهودات يستحيل ان نأمل منهما سوى انتاج قدره مائة وواحد وتسعون مليارا في حين قد اخذنا على انفسنا ان نحقق انتاجا جملته مائتان وخمسة وتسعون مليارا مما يدل على ان كامل ما بقي من الانتاج المرغوب

تحقيقه لتكوين المدخول المتماشي مع اهدافنا الاجتماعية ينبغي ان تأتي من الصناعة فيتحتم البلوغ بالانتاج الصناعي قيمة ١٠٤ مليارات اي ان الزيادة التي لابد من تحقيقها تمثل ١٣٠ % . وهي نسبة غنية عن التأويل والتعليق اذ فيها يتلخص الاتجاه الذي يفرضه على الاقتصادي مجرد البحث العلمي المبني على مراعاة مقتضيات حالتنا الراهنة فيملي عليه التوجيه الاوفق للتمويل الذي لابد منه لانجاز هذا البرنامج .

الرائد اثناء تسطير برنامج الاستثمار حسب المناطق الاقتصادية هو الاقتصاد ، اشد الاقتصاد في توزيع الاموال ، ذلك لكي نصل ، مع الاعتراف بانه لابد من اعانة الخارج ، الى اقامة برنامج تمويل يعتمد على امكانيات التمويل الوطنية قبل التفكير فى الامكانيات الخارجية .

وليس معنى الاقتصاد هنا ان نبخل بالمال على المشاريع التي تستحقها بل معناه ان لا نمول المشاريع الا باعتبار اهمية ما تعود به من تنمية الانتاج من جهة ومن الزيادة في المداخيل من جهة اخرى وفقا لما اردناه لنا هدفا وهو البلوغ بكل تونسي الى مستوى معين من المدخول فاما تمويل نمو التجارة وما شابهها فانه يتم بطبيعة زيادة الانتاج الصناعي والفلاحي ولا موجب للتفكير فيه ولا في تسطير برنامج له . على هذا المنوال ، يكون اختيارنا بين التجارة والصناعة والفلاحة . واما الفلاحة فهي بالذات الميدان الذي يمكن تحقيق انمائه بتمويل زهيد نسبيا نظرا لما في البلاد من بطالين يمكن استخدامهم في هذا الغرض دون احتياج الى وسائل بهيضة الثمن كالآلات واليد العاملة المتخصصة المستوردة من الخارج كما ان للاستثمار الفلاحي اذا ما تم انجازه على هذه الشاكلة فضلا آخر هو توزيع المداخيل الناتجة عنه على عدد متسع من الافراد ، الامر الذي يتماشى مع هدفنا الانساني

وتمويل الاستثمار الفلاحي على هذا المنوال يمكن ان نؤمل منه اولا زيادة اجمالية في المدخول الموزع تفوق كل ما نستطيع ان نؤمله من المشاريع الصناعية فقد لا يستحيل تحقيق زيادة الانتاج الفلاحي المرغوبة ( وقيمتها ستة وعشرون مليارا ) بتمويل لا يفوق المائة وعشرة مليارات مما يمثل ردا باهضا لا يمكن ان يحققه في البلاد المتخلفة اي استثمار صناعي . ثانيا توزيع المداخيل المتأتية عن هذه الزيادة في الانتاج توزيعا واسعا يحقق هدفنا الاجتماعي ، ذلك انه يمكننا ان

تتصور ان المليارات الستة والعشرين سيوزع قسط اوفر منها ( ٧٠ % ) مثلا اي ثمانية عشر مليارا بصفة اجور ومداخيل على اولئك الذين معدل مدخولهم اليوم ١٨٠٠٠ فرنكا في السنة كما رأينا والذين نريد ان نصل بهم الى مستوى ال ٤٦٠٠0 كما سطرنا .

بقي اذن اقامة برنامج تمويل النمو الصناعي الذي حددنا قيمته وتبينا اهميته بالنسبة لانجاز البرنامج الاقتصادي العام ومراعاته الاقتصاد ووسائل التمويل في هذا الميدان تحصل :

- اولا بان يقع احصاء كل امكانيات الاستثمار الصناعي التي ستتبع حتما انجاز برنامج النمو الفلاحي بما في ذلك انشاء مصانع تستعمل المواد الفلاحية أو تصنع ما يستهلكه الفلاحون

- ثانيا بان يقع احصاء كل امكانيات الزيادة في الانتاج الصناعي التي قد تتم بمجرد استعمال الجهاز الصناعي الموجود استعمالا محكما . - ثالثا واخيرا بان يقع تسطير برنامج استثمار صناعي ( هدقه تحقيق ما زاد على هذين البابين ) يعتمد على انشاء اقطاب تنمية ، نريد بذلك مشاريع ذات بال يحصل من جراء نفس تكوينها تكوين جملة من المشاريع الاخرى التابعة والمكملة لها .

وما المقصود من وراء هذا الوجه من الاحصاء الا تخصيص التمويل للمشاريع الصناعية الرئيسية باستثناء ما هو منها تكميلي يتبع تحقيق مشاريع اخرى فلاحية او صناعية ونحن ان كنا لا يسعنا ان ندلي بسوى نسبة تقريبة نستطيع ان نتصور ان هذه الطريقة قد تمكننا من تخصيص وسائل التمويل لمشاريع تمثل سبعين في المائة فقط من زيادة الانتاج الصناعي التي نهدف اليها فيكفينا لذلك الغرض من المال ثلاثمائة وعشرين مليار فقط حين كنا نحتاج الى خمسمائة وخمسين لو لم نتبع هذا المنهاج في الاختيار

فجملة ما لابد للمصمم من التفكير في ايجاده مباشرة ( فضلا عما يمكن ان تؤمل حصوله بطبيعة التطور الاقتصادي ) اربعمائة واربع وعشرون مليارات في عشرة سنبن اي اثنان واربعون مليارا تنفق كل سنة في تكوين الجهاز المثمر الجديد

حين ان جملة التجهيز جديدة كقديمة ومثمرة كغير المثمرة منه لا يفوت العشرين مليارا في السنة في الاقتصاد التونسي الحالي ! تلك هي الارقام وهي وان كانت تقريبا لكثيفة المعنى وتحدد للمصمم السياسة التي ينبغي عليه سلوكها : سياسة التقشف الكامل والزهد في المصاريف وسياسة تخصيص التمويل للمشاريع المثمرة وسياسة حسن التصرف في الاعتماد على الاعانة الاجنبية بان يعترف بوجوب ربطها بمجهود وطني جبار لا يمكن بدونه الحصول على الثقة الاجنبية . على ان الاطناب في شرح هذه النقط المتعلقة بالسياسة المالية لا يمكن في اطار هذا المقال . ويكفي ما وصلنا اليه من بيان وجوب التفكير فيها . فلم يكن المقصود من ذكر الارقام رغم كثرتها في هذا المقال سوى عرض منهاج في البحث الاقتصادي لا يغفل عن الاعتبارات الانسانية فلا ينسى ان الاقتصاد في حد ذاته وسيلة غايتها تحقيق سعادة الانسانية لكنه لا يتحاشى مواجهة الواقع مواجهة صريحة فلا يخفى ما يقتضيه تحقيق هذه السعادة من عزيمة جبارة ثم لا يتجاهل ما يفرضه تنسيق الجهود المبذولة من تعمق في التفكير ولا غرابة فالعزيمة والفكر وحدهما يؤهلان الانسانية للسعادة .

اشترك في نشرتنا البريدية