الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 111الرجوع إلى "الثقافة"

من الأدب الافريقي, ٢ - أزهار من أكاليل إغريقيه

Share

يدین «میلیاجر» بشهرته إلى أشعاره في الحب، وهذه تبلغ أربعة أخماس ما كتبه تقريباً . والحق أنه قد برع في هذا النحو من الشعر ويقول :( سانت بيف) إن شعر ميليا جر كثيراً ما يذكره بأغنيات ( بترارك) أما مناجاة هذا الشاعر الرقيقة لحبيبتيه «زينوفيلا» و «میلیودورا » فستذكر أبداً ما بقى المحبون على وجه الأرض .

ليس من الميسور أن أحدثكم عن قصة حب ميلياجر إلا حديثاً عاما ، وكل ما أراه هو قراءة تراجم لأشعار مثالية لهذا الشاعر الأسيوى الموله . لقد جره خياله المتقد حماسة وغيرة إلى المجاز والكناية التي نزع إليهما شعراء الانجليز في عهد الملكة اليزابث من بعده بنحو ستة عشر قرناً . لنأخذ لذلك مثلاً : شكوى محب الحب مخيف : مروع ! ولكن ماذا أفيده من قولى ، الحب مروع ، أردده الفينة بعد الفينة في تنهدات لاعداد لها ، فالولد(1) يضحك من شكواي ويسر لأن يلام على الدوام، وإذا ما لمنته ووجهت له السباب ألواناً فإنه يطمع فى المزيد. إن ما أعجب

له يا( كوريس CrPRis )(1) كيف تنشئين من المياه الجارية وتلدين ناراً حامية »

إله الحب ، أيروس، مزود بسهام تلفظ الحب ) ، ولكن ميلياجر كان الوحيد الذي سلحه بثلاث أقواس واختار له نعلى( المبيد ) و ( مهلك العباد ) ، هذان النمتان اللذان خلعهما هو من على آريس Aren ) إله الحرب في أشعاره. لقد خلع عليه نعتاً آخر لا يسلم من رخاوة وضعف ، فهو عنده صاحب الحذاء الدقيق » ، وعبر من طبيعة هذا الاله الصغير المختارة مثل هذه النموث ( خداع النوم » و «خداع الروح» ولم ينس له بنيه وتحسفه فقال پناجي روحه وقد وقعت في فخ هذا الآله على حين غرة : لقد وقمت في الشرك وأحكم الإله نفسه وتانك وقيد جناحيك . القد ألقاك في السمير وذر عليك في غشيتك يخوراً، وسقاك دمعاً حاراً تطفئين به قليلك ) . لقد خاطب ميلياجر» إله الحب بصيغة الجمع ، فقال متبرماً من آلهة الحب وقد اتخذوا من صدره مقراً يقيمون فيه : ( هل لك أن تعربدى أبنها الآلهة ذوات الأجنحة بين جوانحي ، ولكن في غير شدة أو منف) ولم يو ميليا جر في إله الحب سبباً من أسباب اللهو والبهجة ، فهو يعتبره قوة خفية نائمة خليقة بالتعيسير والتقريع ( طا رقبتي بقدمك ، أيها الحى النشوم ، فقد أحنيت لك رأسى ، إلى أعرفك وأقسم بالآلة أني سأحتمل عملك وجورك ، صوب مهامك

المتقدة ناراً إلى قلبي ، فلن تنال منه موضعاً بعد أن غدا رماداً كله ) . لم يكن إله الحب في نظر ميلياجر بالقوة الخفية فحسب، بل هو طفل يلعب الفرد، وبعبث بأرواح البشر هيئه بقطع البرد القدمين إلى الحب يروحى وأفناها، بينما كان يلهو في الصباح الباكر بترده ، وهو بعد الطفل اليافع الذى يتربع في حجر أمه).

من أروع نفحات «ميليا جر» هذه القصيدة التي يناجي بها حبيبته زينوفيلا» والتي صور بها معبودتة كزهرة ، وشاء حبه أن يظهرها على أزهار الروض كله اليوم يتفتح البنفسج الأبيض ، والنرجس ربيب الغيث، والزنبق تزيل الربوات ؛ واليوم تبيع وتزدهر بين أزهار الروض زينو فيلا» بهجة الحب ووردة السحر الحلوة ، والملكة المتربعة على عرش زهور الربيع. لم الفرح أيتها الرياض ؟ ولم هذا السرور أينها الحائل الفخور بضفارك الناصمة وأزهارك الأخاذة ؟ إن صاحبتى التفضل بكثير أزهارك وورودك مهما كان جمالها ومهما كان عبيرها ) . نفح حب ميلياجر زينو فيلا في هذه القطعة التالية التي يبحث فيها شاعرنا عن « إلى الحب، وقد ولى الأدبار إلى حيث يجهل ميلباجر مكانه ( صيحوا أيها القوم فقد شرد إله الحب» وهرب الوحش المخيف. لقد ترك منجمه في الفجر الباكر وأطلق العنان لجناحيه - لقد (1) عرف بدمعه الحلو وثرثرته وسرعته ووقاحته ، لقد عرف كذلك بضحكاته الخبيثة وجناحيه ، وجعية مهامه المشدودة إلى ظهره. من يكون والده وما اسمه ؟ هذا ما لا أستطيع الإدلاء .. فلا السياء ولا الأرض ولا البحر تعترف لهذا العابث بنسب ، فهو مكروه أنها يم ، بغيض إلى نفوس البشر أبنها حل . إياكم وهذا اللاكر حتى لا يوقع في أشراكه قلوبكم ... ولكن هل لكم أن تنتظروا قليلاً ، فلم يذهب الولد بعيداً، فهو قريب من وكره . آه منك أيها

الصغير ، يا صاحب القوس والسهم ، لقد أحكمت أمرك فاختفيت عن ناظري واعتصمت بعيني زينوفيلا)، ولكن سرعان ما تتغير حالة الشاعر النفسية ، فلا يعود يبحث في إلحاح عن إله الحب ، وإنما يرغب كل الرغبة في التخلص منه . وهكذا نراه في الأبيات الآتية يشهر مزاده ( بع هذا الصغير وإن لم يزل نائماً في حجر أمه ، بعه غير مبال، أي شيء يضطرتي لتنشئة هذا المارد الصغير هو خبيث كل الخبث ، ذو جناحين دقيقين وأظافر يعملها فى فريسته فى استهتار، ويمزج بين صراخه وابتسامه ، وأكثر من ذلك ، إنه ليستحيل على المرضع أن ترضعه . هو ثرثار ذو عيون حادة، هو الوحش الضاري الذى لم تستطع أمه العزيزة (1) تذليله . لهذا كله سيباع اليوم، فاذا كان هناك من يزمع الرحيل خارج البلاد ويبغى شراء الطفل فليتقدم ... ولكن ما هذا؟ انظروا إليه إنه يتضرع وقد أجهش بالبكاء . حسناً لن أبيعك إذاً . اطمئن فلا خوف عليك . ستبقى هنا في صحبة معبودتي زينوفيلا) في كلتا القصيدتين الأخيرتين يتشبث الشاعر بحب زينوفيلا . ولقد كان من أثر هذا التشبث هذا الانتقال الفجائى الذى لا يخلو من فكاهة تثير الدهشة والضحك .

لقد ناجي الشاعر معشوقة أخرى حل لها في قلبه أخلص الحب وأصدق الود. هذه المعشوقة هي «هيليو دورا» ( لقد نقش إله الحب في قلى بيديه صورة (هيليودورا» ذات الحديث المعسول . هي لروحي الحياة واللاذ) . تلميح شنف شاعرنا القوى بالزهور في هذه القطعة التي يعد فيها باقة من الزهر الفتار يحلى بها جبين معبودة الوضاء ( سأنظم البنفسجات البيضاء والنرجس الغض والريحان ، سأنسق الزنبقات الضاحكة، والزعفران الحلو، والورد صديق العاشق سأنظم هذه الأزهار إكليلاً يتحلى به جبين

هيليودورا» ذات الضفائر الطيبة الشذى ، كيما تنثر الزهر على شعرها الجميل) . لميلياجر مثل شغف كاثولوس (۱) بكل جميل فهو يحب النرجس ربيب الغيث، والزنبقات الضاحكة التي تجوب الروابي كعرائس البحر فردی و جماعات لقد رأينا بعض هذه الصور الكثيرة والنعوت الغريبة والصفات الخالية التي ظهر فيها إلى الحب وأسندت إليه في شعر ميلياجر. وها هو ذا إله الحب يظهر في أشعار أخرى في أشكال مختلفة ؛ فهو المستهتر الذي يصاحب العاشق الموله ، فيقود له سفينته متخفياً في الليالي الممطرة العاصفة إله الحب يقود الروح ، السفينة ذات الأجنحة التي تبخر عباب محيط الرغبة المفعم بالمخاطر ) وهو الطبيب الشافى الذى تلتئم على يديه الجراح التي سببتها سهامه بلمسة من يديه في القطعة التالية التي ركب فيها الشاعر من المجاز الغريب ترى إله الحب وقد أخذ صورة لاعب كرة اتخذ من القلب كرة يلعب بها ( هذا الحب الذي يسكن قلبي مشغوف بالعب الكرة ، وقد دفع إليك يا « هيليودورا » بقلبي الذي يترنح في صدري ويرتجف ، ولكن تعالى وارضى باللعب معه ، لأنك إن رميت قلبي بعيداً عنك فسوف لا يحتمل هذا التعدى الصارخ الذى لا يتفق وأدب اللعب ) .

يظهر تردد الشاعر جليا في هذه القطمة التي تتنازع فيها فله عاطفتان متباينتان : عاطفة الكراهية وعاطفة الحب ، فهو يرسل خادمه " دوركاس ، إلى مسودته ليبلغها رسالة منه ) بلغها رسالتي يا " دوركاس " أخبرها بكل ما أمليته عليك ولا تنقص منه شيئا ، أعد الخبر على مسامعها مرتين ، وثلاث مرات . والآن ! فلتسرع إليها  فلم يعد هناك ما اقوله لك بعد هذا هيا أسرع ! لحظة قصيرة يا " دوركاس " لم هذه العجلة ولم انته بعد من حديثي معك ؟ أضف إلي ما قلته لك من قبل . أو لا تضف شيئا بالمرة أولى لك أن يخبرها بكل شئ . هيا لا تتردد ولا تقصر في إبلاغ رسالتك كاملة . . ولكن لم

أرسلك إليها يا ( دوركاس » أفلا ترى أنى ذاهب معك ؟ بل سأسبقك إليها ؟). نلمح في ثنايا القطعة التالية نفسية الشاعر التي لا تستقر على حال واحدة، ولنا في انتقاله الفجائي وجموح خياله خير برهان وأبلغه ( لقد سرقت، من يكون هذا الوحش الذى سولت له نفسه فأقترف مثل هذه الجريمة الشنيعة ؟ من يكون هذا المكابر الذى جرؤ على نزال إله الحب» الذي لا يقهر ؟ أسرع وأشعل المشاعل ! ولكن ماذا أسمع : خطوات و هيليود وراه  بعينها . تعال إلى إذا يا قلبى ، واخلد إلى صدرى) .

لقد اختطفت يد المنون هيليودورا ، فكان هذا نهاية جموح شاعرنا، فتحرر أسلوبه من المجاز والكتابة ، وخلص من الترصيع والمبالغة ، لقد بكي الشاعر الملتاع حبيبته الراحلة ورثاها بهذه المرئية التي يعرفها قراء قصة «كليوباتره » التي وضعها ( Rider Haggard  ) وهم يعرفون كيف أنه شاء  أن يرسل على لسان خادمة المملكة مرئية هذا الشاعر السوري الموهوب ، فتغنيها لها وهى على فراش الموت ؛ وهم يعرفون كذلك كيف أن كليوباتره قد تأثرت بها فسال دمعها على خديها ورغبت في أن ترجع الخادمة غناءها مرة ثانية بعد أن تسلم الروح : (دموعى ، قربان الحب الضائع ، أرسلها إليك ، يا هيليودورا ، في مرقدك الأخير. دموعي الحارة أزجها مدراراً على قبرك ، مذكى الحسرة والدمع السخين ، ذكرى الحب والحنين إن ميلياجر أخرى الناس بالرثاء ، لينتحب عليك ، وما ذلت العزيزة عليه في موتك ... واحسرتاه أين محبوبتي الجميلة ؟ أين بغية القلب ؟ لقد امتدت إليها يد المنون فأخذتها ، فاضحت - وهى الزهرة البائعة المكتملة - رهينة الثرى. أتوسل إليك ، أيتها الأرض ، أمى الرؤوم ويا أم البشرية، أن تضمى فى حنان ودعة إلى صدرك هذه الوديعة التي بيكيها الناس أجمعون ) . وهكذا نودع ميلياجر الشاعر الموهوب الذى جمع بين عمق الشرق وطرافتيه وصفاء الاغريق ورقتهم .

اشترك في نشرتنا البريدية